على مدار الشهرين الماضيين، أصبح الجميع في لبنان خبيراً اقتصادياً. فإذا سِرت في الشوارع، ففي الغالب ستسمع مقتطفات حديث عن الدولار وسعر الصرف، فضلاً عن النقد اللاذع المُوجَّه للمصرفيين. تمر البلاد بالشهر الثالث لأزمة سياسية واقتصادية ناجمة عن تراجع التحويلات والودائع المصرفية التي تركت الجميع يعاني من النقص في العملة الصعبة.
ويصطف العملاء في البنوك لساعات فقط ليواجهوا القيود التعسفية على عمليات سحب الدولار. وقد توقفت القروض، ما تسبب في عجز الشركات عن تمويل الصادرات. ومع أنَّ الليرة اللبنانية لا تزال مُثبَّتة رسمياً عند مستوى 1500 ليرة مقابل الدولار، فإنَّ هذا التثبيت في الجانب العملي لم يعد موجوداً: يتداول التجار الدولار مقابل 2000 ليرة أو أكثر.
أزمة ممتدة إلى سوريا
تقول مجلة The Economist البريطانية، إن الأزمة اللبنانية هذه تمتد الآن عبر الحدود إلى سوريا. فاقتصادا البلدين مرتبطان منذ أمدٍ طويل. إذ أعاد العمال السوريون إعمار لبنان بعد حربه الأهلية، التي انتهت عام 1990. وكانت المصارف في بيروت ملاذاً يُودِع به الأثرياء السوريون أموالهم. فمنذ بدأ الصراع السوري عام 2011، استخدم رجال الأعمال لبنان لتفادي العقوبات وعقد الصفقات في الخارج. لكنَّ لبنان سيكون بلا جدوى كمركزٍ مالي إذا تجمَّد القطاع المالي.
وفي ظل ندرة الدولار، اقتفت الليرة السورية أثر نظيرتها اللبنانية وانهارت إلى مستويات قياسية، فتراجعت من 500 ليرة سورية مقابل الدولار في بداية 2019 إلى 950 ليرة مقابل الدولار في مطلع ديسمبر/كانون الأول الجاري. ومع أنَّها استقرت قليلاً، يتوقع السوريون أن تتراجع أكثر عام 2020.
ومع حلول فصل الشتاء، يشعر السوريون بالقلق حيال كيفية تمكنهم من تحمل تكلفة الوقود، الذي غالباً ما يُورَّد عبر الموانئ اللبنانية. وأدَّى النقص في غاز الطهي والتدفئة الشتاء الماضي، والذي نتج عن مزيج من العقوبات الدولية والفساد، إلى غضبٍ واسع النطاق. وفي الغالب ستكون الطوابير وقلة الوقود أسوأ هذا الشتاء. إذ تعاني محطات الوقود في لبنان بالفعل كي تستمر في ملء المضخات؛ وكانت المحطات قد أغلقت لفترة وجيزة الشهر الماضي احتجاجاً على نقص الدولار المتوفر بسعر الصرف الرسمي.
لبنان أكبر سوق أجنبي لسوريا
تحاول الحكومة السورية تقليص الواردات، لكنَّ مصانع البلاد المدمرة لا يمكنها توفير السلع الأساسية. وتعتمد الكثير من الشركات على المواد الخام من الخارج، التي تُشترى بالدولار، ثُمَّ تبيع سلعها النهائية في السوق المحلية الفقيرة. وأصدر بشار الأسد الشهر الماضي، نوفمبر/تشرين الثاني، مرسوماً بزيادة في الأجور تبلغ 20 ألف ليرة (قرابة 24 دولاراً) للموظفين العموميين. تُعَد هذه زيادة بمقدار النصف في أجور الكثيرين، لكنَّها بالكاد تكفي للسماح لهم بشراء معطف شتوي.
يُعَد لبنان أكبر سوق أجنبي لسوريا، إذ اشترى لبنان بضائع سورية بقيمة 132 مليون دولار عام 2017، أي ما يعادل 21% من إجمالي الصادرات السورية. لكنَّ تراجع القوة الشرائية قد يضر بالتجارة. وسيضعف كذلك قيمة التحويلات. ومع أنَّ عدداً كبيراً من السوريين البالغ عددهم 1.5 مليون شخص في لبنان هم لاجئون ممنوعون من العمل بصورة رسمية، تُقدِّر جماعات الإغاثة أنَّ تحويلاتهم لا تزال تمثل ربما سُدس إجمالي التحويلات من الخارج إلى سوريا. واقترحت صحيفة موالية للنظام في سوريا أن يفرض الأسد ضرائب على السوريين بالمهجر. لكنَّ هذا قد يكون صعباً. إذ كانت وحشية الأسد هي السبب في خروج الملايين إلى المنفى بالأساس. قلَّل الأسد من المخاوف بشأن الاقتصاد. فقال: "السوريون لديهم أموال كثيرة".
سفينة لبنان تغرق
في غضون هذا، يتصارع قادة لبنان على المهاجع فوق سفينة تغرق. استقال رئيس الوزراء سعد الحريري يوم 29 أكتوبر/تشرين الأول بعد أسابيع من الاحتجاجات. وفي نوفمبر/تشرين الثاني الماضي، بدا السياسيون متفقين على سمير الخطيب، وهو رجل أعمال، ليحل محل الحريري. لكن في يوم 8 ديسمبر/كانون الأول، انسحب الخطيب فجأة من الترشيحات. ويبدو أنَّ ترشيحه كان حيلة تهدف لجعل الحريري يبدو الخيار الوحيد القابل للتطبيق. فيقول أحد المساعدين: "إنَّها لعبة. لا يزال الحريري يريد المنصب".
يريد المحتجون حكومة مليئة بالتكنوقراط لإنقاذ الاقتصاد. ويدعم الحريري وحلفاؤه كذلك هذا الترتيب، لأسبابٍ ليس أقلها أنَّ الحكومة لابد أن تتخذ قرارات مؤلمة بشأن إعادة هيكلة الديون تخفيض قيمة العملة. سياسيون قليلون فقط لديهم الرغبة في تحمل مسؤولية مثل هذه القرارات. لكنَّ حزب الله، الذي يُعَد ميليشيا شيعية وحزباً سياسياً، وشركاؤه مترددون في التخلي عن موطئ قدمهم بالحكومة.
وفي حين يتشاجر قادة البلد، فإنَّ لبنان حرفياً ومجازياً يغرق تحت المياه. إذ غمرت العواصف الشتوية مناطق من البلاد هذا الشهر بالمياه، في تذكرة على كيف أنَّ الحكومة بدَّدت الأموال المخصصة للبنية التحتية. ووفقاً للبنك الدولي، فإنَّ ثلث اللبنانيين فقراء، وهو الرقم الذي قد يزيد إلى 50% في ظل تدهور الأزمة.
وفي أبريل/نيسان 2018، تعهَّد المانحون بـ11 مليار دولار لمساعدة لبنان، لكنَّ البلد لم يقم بالإصلاحات اللازمة للحصول على هذا المال. وقبل اجتماع المتابعة في 11 ديسمبر/كانون الأول الجاري، قال وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان إنَّه يأمل "تشجيع السلطات اللبنانية على إدراك جدية الوضع". لكنَّ الأمر قد يتطلب أكثر بكثير من مجرد تذكرة لإقناعهم بالتحرك.