عندما أدرجت الولايات المتحدة السودان ورئيسه المخلوع عمر البشير على لائحة الدول الراعية للإرهاب قبل أكثر من 20 عاماً كانت هناك مبررات لتلك الخطوة، لكن لماذا تضع واشنطن الآن شروطاً تعجيزية أمام الحكومة الجديدة بدلاً من أن تساعدها كما يفترض؟
مجلة فورين بوليسي الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "لا يمكن للحكومة السودانية أن تنجح طالما ظلت على القائمة السوداء الأمريكية"، ناقشت فيه ما يجري في هذا الملف ومدى التأثير السلبي للموقف الأمريكي على مسيرة التحول الديمقراطي في سودان ما بعد البشير.
لماذا أدرجت أمريكا السودان على القائمة السوداء؟
رغم أن رئيس الوزراء السوداني الجديد زار واشنطن الأسبوع الماضي، واتفق البلدان على تبادل السفراء لأول مرة منذ 23 عاماً، يظل أمام السودان والولايات المتحدة طريق طويل ليقطعاه قبل تطبيع العلاقات بينهما.
إذ أدرجت الولايات المتحدة، منذ عام 1997، السودان وقائده السابق عمر البشير، الذي أدانته المحكمة الجنائية الدولية، ضمن قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكان البشير يؤوي إرهابيين بالفعل، مثل أسامة بن لادن زعيم تنظيم القاعدة السابق، وتورط نظام البشير أيضاً في عشرات الأعمال الإرهابية، من بينها تفجير السفارتين الأمريكيتين في تنزانيا وكينيا عام 1998، ومهاجمة المدمرة الأمريكية USS Cole عام 2000.
وفي وقت سابق من هذا العام، بعد أشهر من الاحتجاجات البطولية في السودان، التي قادت النساء الكثير منها، سقط نظام البشير، وتشكلت إدارة مدنية برئاسة رئيس الوزراء عبدالله حمدوك للإشراف على الانتقال إلى الديمقراطية بحلول عام 2022.
ما خطورة الوجود في تلك القائمة؟
لكن رغم رحيل البشير، لا يزال السودان مدرجاً في القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب، ولن يساعد ذلك في تمهيد الطريق إلى السودان الجديد. إذ إن الحكومة الجديدة هشة والقوى التي تعارضها قوية، وسيكون الانتقال إلى حكومة ديمقراطية صعباً كفاية في هذه الظروف وسيصبح أصعب بكثير إذا ظل السودان في القائمة الأمريكية للدول الراعية للإرهاب.
ما شروط واشنطن لرفع الخرطوم من القائمة؟
في الشهر الماضي، زادت وزارة الخارجية الأمريكية من صعوبة تغلب السودان على هذه العقبة، إذ قالت إنه يجب على السودان إحراز تقدم في ستة مجالات قبل البدء في مراجعة تصنيفه: وهي المزيد من التعاون في مكافحة الإرهاب، وتحسين وضع حماية حقوق الإنسان، التي تشمل حرية الدين والصحافة، وتسهيل وصول المساعدات الإنسانية، وإنهاء القتال والصراعات مع المتمردين داخل السودان، والتدليل على أن السودان توقف عن دعم الإرهاب، وقطع العلاقات مع كوريا الشمالية.
ورغم إدراج نظام البشير في قائمة الدول الراعية للإرهاب، استمرت الولايات المتحدة في الحصول على معلومات منه مقابل الحد من الهجوم الدولي على الخرطوم، وكانت إمكانية حذف حكومة البشير من قائمة الدول الراعية للإرهاب حافزاً يدفعها للتعاون مع الإدارة الأمريكية، ولذا تريد الحكومة الأمريكية أن تُبقي السودان في القائمة لتحافظ على ورقة تأثيرها، وهذا يعني ضمنياً أن الشيطان الذي تعرفه أفضل من الشيطان الذي لا تعرفه.
وحين بدأت إدارة أوباما سياسة أكثر انفتاحاً تجاه السودان عام 2015 ورفعت العقوبات الاقتصادية التي طال أمدها واتخذت من ذلك ذريعة لمناقشة رفعه من قائمة الدول الراعية للإرهاب، عارض الكثيرون في السودان هذه السياسة، معتقدين أنها لا تسهم إلا في تقوية البشير، الذي كان يعتبره الشعب السوداني زعيم مجرم غير شرعي قتل وعذب ملايين السودانيين وشردهم، وكان حذف السودان من القائمة حينها ليعد صفقة مع الشيطان.
ما تأثيرات ذلك على الموقف الاقتصادي؟
لكن الآن، يقوّض بقاء السودان في قائمة الدول الراعية للإرهاب الحكومة الجديدة الناشئة ويعاقبه على جرائم سلفها، وفي الوقت نفسه، يجاهد حمدوك للخلاص من أعباء ديون السودان الهائلة وجذب التجارة والاستثمار، ويعاني الاقتصاد في الوقت الحالي من تدهور حاد وأسعار المواد الغذائية والأدوية الأساسية في ارتفاع.
غير أن حذف السودان من القائمة سيمكن الحكومة الجديدة من السعي إلى تخفيف عبء الديون وفتح الباب أمام زيادة الاستثمار والتجارة الدولية والإقليمية. وهذا أمر حيوي لتحفيز اقتصاد السودان المنهار وإنهاء سنوات من الفساد. وستسنح للسودان فرصة الانضمام إلى النظام المصرفي الدولي. ومن شأن ذلك أن يعزز قدرة الحكومة الجديدة على مواجهة الفساد وتفكيك مصادر التمويل للشبكات الإرهابية والإجرامية. ولا ينبغي معاقبة مواطني السودان على خطايا النظام التي تسببت لهم بالكثير من المعاناة والذي ضحوا بالكثير للتخلص منه.
ماذا فعل "السودان الجديد" على طريق التغيير؟
وقد اتخذ حمدوك سلسلة من الخطوات المشجعة التي تشير إلى استعداد حكومته لأن تكون عضواً أكثر مسؤولية في المجتمع الدولي، إذ شجع المنظمات التي حظرها النظام السابق على العودة إلى السودان ودعم مشاركة الأمم المتحدة في المناطق المتأثرة بالصراع. وقد ضم حمدوك نساء ونشطاء في حقوق الإنسان ومنادين بحرية الإعلام والدين إلى حكومته. وأعلن تشكيل لجنة لإصلاح القوانين وأبدى التزاماً جاداً بمبدأ المساواة في المواطنة، الذي يشمل حرية الدين والمساواة بين الجنسين، فيما تعمل وزارة العدل على معالجة التمييز وعدم المساواة. ولعل الأهم في كل ذلك هو أن الحكومة يسيطر عليها مسؤولون علمانيون مؤيدون للديمقراطية.
ووضع حمدوك أيضاً خطة لإعادة النازحين داخلياً إلى منازلهم وقراهم. ووقع اتفاقية مع الأمم المتحدة لتوفير وصول المساعدات الإنسانية إلى أنحاء البلاد، وفي وقت سابق من هذا العام، قدم برنامج الأغذية العالمي مساعدات غذائية إلى المنطقة التي يسيطر عليها المتمردون في منطقة جبال النوبة لأول مرة منذ عام 2011. وفتحت الحكومة الانتقالية أيضاً جميع طرق المساعدة الإنسانية والتجارة، ما مكّن أهالي قرى جبال النوبة من العودة مجدداً إلى أسواقهم التقليدية بعد حوالي 10 سنوات. وأخيراً، أشار حمدوك إلى اهتمامه بإنهاء النزاعات داخل السودان ودارفور وجنوب كردفان وولاية النيل الأزرق.
وبدأت الحكومة الانتقالية في تفكيك الشبكات التجارية والعسكرية التي دعمت النظام القديم، رغم أنه من الصعب مواجهة تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) والجماعات الأخرى دون تعزيز قدرة الحكومة الجديدة على الحكم. وقد بدأت الحكومة محادثات مع الحركات المسلحة المحلية ودعمت وصول المساعدات الإنسانية إلى البلاد، وكذلك مكانة المنظمات غير الحكومية والحقوقية في السودان الجديد.
هل يمكن تنفيذ الشروط الأمريكية؟
الجدير بالذكر أن التغيير السياسي في السودان هو ثمرة ثورة تهدف إلى التخلص من 30 عاماً من الإسلام السياسي، فعلى عكس الربيع العربي، تعارض الثورة السودانية هذا النوع من الأيديولوجية الإسلامية المتشددة التي أدت إلى انقسام البلاد في الماضي وإفقارها، والسودان، الذي تقل أعمار حوالي 60% من سكانه عن سن 30 عاماً، مهيأ للنمو والمشاركة العالمية.
لكن سيكون من شبه المستحيل أن يستوفي السودان هذه الشروط العديدة لحذف اسمه من قائمة الدول الراعية للإرهاب فيما لا يزال يجاهد للتخلص من قيوده، ويكمن الخطر في أن مكاسب السودان الأخيرة قد تضيع بسبب إدراجه في قائمة لم تعد تنطبق عليه.
إذ يجب أن تعلم واشنطن أن الحكومة المدنية الجديدة في السودان ليس لها مصلحة في رعاية الإرهاب أو الأيديولوجية المتطرفة التي تبرره. في الواقع، اتخذ السودان بعض الخطوات ليتعاون مع الولايات المتحدة في مكافحة الإرهاب. وفي عام 2018، استمرت حكومة السودان في متابعة عمليات مكافحة الإرهاب مع شركائها الإقليميين، وكان من بينها عمليات تصدي لتهديدات لمصالح الولايات المتحدة والموظفين الأمريكيين في السودان.
إن تشكيل حكومة مدنية قوية وممثلة للشعب هي أفضل حصن لصد عودة النظام القديم ودعمه للإرهابيين. ويضع التصنيف الأمريكي للسودان عبئاً اقتصادياً وسياسياً جائراً على حكومة تعمل على، على حد قول الرئيس الأمريكي السابق جيمي كارتر، منح الديمقراطية فرصة في السودان. ومن مصلحة الولايات المتحدة الأمريكية أن تحذف السودان فوراً من قائمة الدول الراعية للإرهاب.
وبدلاً من عزل ومعاقبة حكومة مدنية جديدة، يتعين على المجتمع الدولي أن يساعد في تفكيك شبكات تمويل الإرهاب. ولا ينبغي أن يقف متفرجاً فيما تظل التركة الإرهابية للنظام القديم تشكل تهديداً محتملاً للثورة والديمقراطية.