ربما يتجه المتظاهرون في لبنان والعراق بأنظارهم إلى الجزائر في الأسابيع المقبلة، بحثاً عن مؤشرات لما يحدث لحراك احتجاجي يرفض القبول بنصر جزئي، إذ يتوقع أن تكون الانتخابات الرئاسية الجزائرية ذروة المواجهة بين النظام والمحتجين.
ورغم نجاح الاحتجاج السلمي الجزائري الذي بدأ في فبراير/شباط الماضي، في إطاحة الرئيس عبدالعزيز بوتفليقة، الذي دام حكمه لفترة طويلة، والذي حكم بالاسم فقط بعد إصابته بجلطة دماغية عام 2013، والدفع باعتقال العديد من وزراء الحكومة بتهمة الفساد، لم ترتفع حدته إلا خلال الشهر الماضي في رفضه إجراء الانتخابات المقررة في 12 ديسمبر/كانون الأول.
يتهم الحراك السلطة الحالية باستغلال الانتخابات الرئاسية لمنع الإصلاح الديمقراطي الحقيقي ودعم شبكاته الفاسدة، حسبما ورد في تقرير لموقع Deutsche Welle الألماني.
وقد أبدت الحكومة المؤقتة التي يرأسها عبدالقادر بن صالح وحلفاؤها في الجيش عزمهما الحفاظ على النظام الذي يحمي حكمهما بالموافقة على خمسة مرشحين لخوض الانتخابات الرئاسية الجزائرية كلهم مرتبطون بنظام بوتفليقة.
ويقف وراءهم ما يعتبره المتظاهرون نظاماً غامضاً قائماً على المحسوبية ويضم الساسة وضباط الجيش ورجال الأعمال، الذين لطالما استنزفوا عائدات نظام الريع في الجزائر دون إعادة الاستثمار في الدولة.
خطر المواجهة يتزايد بسبب الخلاف حول الانتخابات الرئاسية الجزائرية
رغم أن الحراك يتميز بالتزامه القوي بالسلمية، أثارت الاعتقالات المتزايدة لرموز الاحتجاج والصحفيين في الأسابيع الأخيرة والمظاهرات الموالية للحكومة نهاية هذا الأسبوع احتمال نشوب صراع.
إذ قالت منظمة هيومن رايتس ووتش إن العديد من النشطاء الذين اعتُقلوا منذ سبتمبر/أيلول يواجهون تهماً غامضة مثل "الإضرار بالوحدة الوطنية" و "إضعاف معنويات الجيش".
يقول لوكا ميهي، الباحث في الشؤون الجزائرية في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية، لشبكة Deutsche Welle إن اعتقال صحفيين بارزين يوم الجمعة أثار صدمة عنيفة في الحراك.
وقال ميهي: "ثمة قمع شديد للإعلام وموجة اعتقال كبيرة للنشطاء السياسيين. لذلك أعتقد أننا يمكن أن نتوقع قمعاً أكبر من جانب النظام، لكنني أعتقد أن الحراك لا يزال سلمياً بشكل واضح".
ورد المشاركون في الحراك على هذه الإجراءات بوضع أكياس القمامة وصور المعارضين المعتقلين في الأماكن المخصصة لملصقات المرشحين للانتخابات.
هكذا تحولت إلى حملة "هزلية"
رغم أن المرشحين الخمسة الذين يخوضون الانتخابات الرئاسية الجزائرية يؤيدون إجراء إصلاحات، فجميعهم مرتبطون بالمؤسسة الحاكمة، وهو ما أدى إلى هذا الوضع الغريب الذي تُرفض فيه الانتخابات باسم الديمقراطية.
إذ اضطر رئيس الوزراء السابق عبدالمجيد تبون، الذي يُنظر إليه على أنه رجل قائد الجيش الفريق أحمد قايد صلاح، إلى إلغاء أول مؤتمر انتخابي له في الجزائر بسبب قلة الإقبال. واستقال مدير حملته وسُجن أحد مموليه الرئيسيين بتهم فساد.
وقوبل علي بن فليس، وهو أيضاً رئيس وزراء سابق، بهجوم ومظاهرات عنيفة تعارضه، مثلما حدث مع وزير السياحة السابق عبدالقادر بن قرينا.
يقول حمدي بعله، الصحفي المستقل الذي يتابع الحراك منذ بدايته، لشبكة Deutsche Welle: "لقد كانت حملات هزلية حقاً، وتجمعاتهم ومؤتمراتهم الانتخابية عُقدت تحت حراسة مشددة من الشرطة.
وفي كل مدينة أو بلدة، ذهب إليها هؤلاء المرشحون، اعتُقل عدد من المعارضين الذين نزلوا إلى الشوارع وأبدوا معارضتهم للحملة الانتخابية والانتخابات ككل".
"جمهورية ثانية"
وقال بعله إن الأمر لا يقتصر على التجريم بحكم ارتباطهم بالنظام، لكن فكرة الانتخابات المزورة هي ما دفعت الجزائريين إلى رفض هذه الانتخابات.
وأضاف: "ما قلل من شرعية الانتخابات في أنظار المحتجين أن أعضاء حراك الاحتجاج رفضوا الترشح بسبب خوفهم من تزويرها، وحتى لا يضفوا شرعية على هذه الانتخابات".
وقال بعله: "إنها نسخة رديئة من الديمقراطية يوجد لدينا فيها برلمان، وانتخابات نجريها بصفة منتظمة، لكنهم كانوا يتحكمون في كل شيء أو يزورونه. لا توجد شفافية، ولا يوجد ضمان لإجراء انتخابات حرة ونزيهة".
وبخلاف الانتخابات، يدعو المحتجون باستمرار لما يسمونه جمهورية ثانية، يقول بعله: "إقامة دولة ديمقراطية حقيقية يسود فيها حكم القانون".
محاكمة الفساد لإرضاء الحراك
فضلاً عن نجاح الحراك في دفع بوتفليقة لتقديم استقالته وإجبار الحكومة على إجراء انتخابات وطنية في وقت سابق من هذا العام، فقد حقق مكاسب محدودة أخرى.
إذ ستبدأ "محاكمة فساد كبرى" في المحكمة هذا الأسبوع لسبعة من الساسة وأربعة من رجال الأعمال بتهمة الكسب غير المشروع واختلاس الأموال العامة.
ولكن جلسة يوم الإثنين الأولية تأجلت إلى 4 ديسمبر/كانون الأول، إذ أشارت وسائل إعلامية محلية إلى أن سبب ذلك يعود إلى شكاوى محاميّ الدفاع من "عدم توفر الظروف المناسبة للمحاكمة". وقال بعله إن المحامين أكدوا أيضاً أن توقيت المحاكمة جعل من موكّليهم "كبش فداء" لإرضاء الحراك.
يقول لوكا ميهي إنه رغم شعور الجزائريين بأن التغيير الأساسي الذي يطالبون به لم يحدث، فهم أيضاً يفهمون استراتيجية النظام الحالية المتمثلة في محاولة إرضاء الحراك بتنظيم محاكمات وسجن أشخاص لا يتمتعون بشعبية من الأساس.
وقال ميهي: "ما يحاول النظام فعله هو إعطاء انطباع بالتغيير الديمقراطي دون تنفيذه على أرض الواقع. لهذا السبب يرفض الناس الانتخابات أيضاً لأنهم يعتبرونها واجهة زائفة لإضفاء الشرعية على النظام الحالي، الذي لم يتغير في جوهره".
اقتصاد السلطة الخفي هو هدف الحراك الحقيقي
الهدف الحقيقي للحراك الذي دفع المتظاهرين للاحتجاج لمدة 41 أسبوعاً على التوالي هو "السلطة الحاكمة"، وهو نظام واسع من الممارسات الفاسدة بقدر ما هو التأثير السياسي للجيش.
يقول بعله: "لديهم تأثير هائل على الطريقة التي تُدار بها البلاد ولديهم شبكاتهم ومصالحهم ونفوذهم في جميع المؤسسات التي تدير البلاد".
ويبلغ شعور الجزائريين بهذه الشبكة من الفساد ذروته، في اقتصاد تهيمن عليه الدولة، ويعتمد بشكل كبير على احتياطياتها الكبيرة من النفط والغاز، في ارتفاع معدل بطالة الشباب ونظام المحسوبية القائم على استغلال الموارد العامة لتحقيق المآرب الشخصية.
يقول ميهي: "أولاً لديك نقص في تنويع الاقتصاد الجزائري بعيداً عن النفط والغاز، وثانياً يوجد نظام فاسد معقد بدرجة عالية من الفساد. ومن الواضح إلى حد كبير أن جزءاً كبيراً من الأموال الناتجة من تصدير النفط والغاز يختفي في شبكات الفساد".
الأهم من كل ما سبق هو أنه إذا أصرت الحكومة على إجراء الانتخابات في 12 ديسمبر/كانون الثاني، فسينتظرها طريق وعر، لكن المراقبين يقولون إن حراك الاحتجاج سيستمر مهما حدث.