يرجع السجل الجيولوجي لأقدم المعادن على سطح الأرض إلى مليارات السنين، 4.54 مليار عام على وجه الدقة. ويعرض السجل الجيولوجي تطور الحياة، وتجمّع وتفكك القارات العظمى، والتغيّرات المناخية. ويروي حكايات عن نشأة الجبال وتآكلها البطيء، وتأثيرات النيازك، والانقراض الجماعي، ومعجزات النجاة.
وفي سياق هذا السجل، يعتبر ظهور البشر في المشهد أشبه بالبارحة. إننا فصيلة وحيدة، تطورت على مدار بضعة ملايين سنة ماضية. ما مقدار التأثير الذي قد يتركه البشر خلال هذه الفترة الوجيزة من عمر الكون؟ بحسب تقرير لموقع Salon الأمريكي.
البشر وراء كل هذا التغير على سطح الأرض!
فضلاً عن البكتيريا الزرقاء، المسؤولة عن رفع نسبة الأكسجين في الغلاف الجوي، يعتبر البشر مسؤولين عن التغيّرات الأكثر حدَّة على سطح الأرض طوال تاريخها. نحن نهيمن على بيئتنا بقوة، لدرجة أن بعض العلماء بدأوا استخدام مصطلح "الأنثروبوسين"، من أجل وصف حقبتنا الجيولوجية الحالية: عصر البشر.
أصبح هذا المصطلح، الذي اشتهر عام 2000، على يد يوجين ستورمر وبول كروتزن الحاصل على جائزة نوبل، مُستخدماً على نطاق واسع في وسائل الإعلام، وبشكل غير رسمي، في المواد البحثية. وعلى الرغم من شيوع استخدام المصطلح بالنقاشات الدائرة حول التغيرات المناخية ودور البشر في تفاقم (أو تخفيف) آثارها، لم يتفق العلماء بعد على ما إذا كانت الأنثروبوسين تستحق أن تصبح حقبة رسمية في السجل الجيولوجي أم لا.
وبحسب الموقع الأمريكي، من يرفضون ضم الحقبة رسمياً يقولون إن الزمن الجيولوجي شاسع جداً، وإن البشر مجرد وميض عابر، وإن الغرور البشري هو ما يدفعنا إلى إدراج حقبة جيولوجية تشير إلى وجودنا على سطح الأرض. وفقاً لهذه الحجة، فإن التغييرات التي نُحدثها، رغم كونها واسعة النطاق، أسرع من أن تظهر بشكل واضح بين أكوام الرواسب السميكة التي تشكلت على مر مليارات السنوات. تشير الاحتمالات التي قد يصل إليها أي شخص، ويفسرها بدقة، إلى أن آثارنا الكونية تتراوح بين ضئيلة ولا شيء على الإطلاق.
لكن لا يتفق آخرون مع هذا الطرح.على الرغم من أنها لم تصبح حقبة جيولوجية رسمية بعد، فالعمل لتحقيق هذا الهدف يجري على قدم وساق.
هل تعترف بـ "الأنثروبوسين" كحقبة تاريخية؟
تضغط مجموعات من العلماء والدوائر العلمية في جميع أنحاء العالم من أجل الاعتراف بهذه الحقبة منذ عدة سنوات. ففي شهر مايو/أيار من هذا العام، صوتت مجموعة عمل الأنثروبوسين، أقوى المؤيدين لضم حقبة الأنثروبوسين، لصالح صياغة مقترح رسمي بإضافة الحقبة إلى السجلات الجيولوجية. ويقولون إن وجود مصطلح محدد لهذه الفترة الزمنية التي تشهد تغيرات بيئية سريعة بسبب العامل البشري، من الممكن أن يساعد العلماء في إيصال التأثير الهائل لهذا التغيير إلى قطاع واسع من الجمهور، وأصبحنا الآن، في وسائل الإعلام والمناخ السياسي العام، نحتاج كل الوسائل الممكنة التي تدعم حجتنا.
لكن حتى مؤيدي الاعتراف بحقبة الأنثروبوسين لا يتفقون على تاريخ بدايتها على نحو دقيق.
على الرغم من وصول البشر المتأخر نسبياً، بعثرت فصيلة البشر السجلات الجيولوجية وملأتها بالأدلة التي تثبت وجودها، وغيَّرت وجه الكوكب بطريقة لا رجعة فيها، وربما مساره الدوري أيضاً. يصبح الكوكب أكثر سخونة بمعدل متسارع، بسبب الانبعاثات البشرية المتمثلة في ثاني أكسيد الكربون، والميثان، وغيرها من غازات الاحتباس الحراري إلى الغلاف الجوي؛ ونتيجة لذلك، تذوب القمم الجليدية بوتيرة أسرع، وتصبح الأحداث المناخية القاسية أكثر تكراراً وحدّة، وحرائق الغابات أشد دماراً. تغير المناخ يؤدي إلى تغيّر النطاقات الجغرافية الصالحة للسكن لعدد كبير من أنواع النباتات والحيوانات، وتتغير الخصائص الكيميائية للمحيطات، تصبح أكثر حمضية وأقل تشبعاً بالأكسجين، وتصبح المواطن والنظم البيئية بأكملها تحت ضغط كبير.
ماذا فعل البشر في الأرض؟
وقد غيّر البشر سطح الأرض، فزيائياً أيضاً، على نحو هائل. تشوّه المناجم سطح الأرض (تشير تقديرات إلى أن مساحة المناجم نحو 8 ملايين فدان في الولايات المتحدة وحدها)، وتتناثر مضخات النفط والغاز الطبيعي في جميع أنحاء العالم، ومدافن النفايات ممتلئة عن آخرها، مغطاة بطبقة رقيقة من التربة، وتبث غازات الاحتباس الحراري إلى الغلاف الجوي. يتخلل البلاستيك كل النظم البيئية الأرضية والمائية. وصلت بنيتنا التحتية إلى كل ركن من أركان الكوكب تقريباً، وظهرت المدن الحضرية الكبرى في كل مكان، لاستيعاب النمو السكاني المتزايد.
لكن من غير المرجّح أن تكون مدننا الحديثة وطرقنا السريعة هي أثر وجودنا على هذا الكوكب. إلى جانب ما يمكن رؤيته بسهولة، هناك آثار أخرى كثيرة للنشاط البشري. سجلات النظائر الكيميائية وحدها سوف تعكس اضطرابات هائلة، ليس فقط في الغلاف الجوي (مثل المستويات المتغيرة لثاني أكسيد الكربون)، بل في النشاط الإشعاعي أيضاً (من القنابل الذرية والمحطات النووية)، والجفاف، والمناطق الميتة في المحيطات. ارتفعت وتسارعت معدلات الانقراض والتحول البيئي بالفعل؛ تناقصت أعداد 32% من أنواع الفقاريات التي جُمعت عينات منها، واختفى نحو 30% من الطيور في أمريكا الشمالية منذ 1970، وهناك ما يصل إلى مليون فصيلة مهددة بالانقراض. في الواقع، كان اختفاء تلك الفصائل ومخاطر ذلك على التنوع البيئي هائلة للغاية، لدرجة تسميتها "الانقراض الجماعي السادس". وأوضحت دراسة حديثة نُشرت في دورية Science، كيف تؤثر تلك التغييرات في التنوع البيئي. وتترسب المواد البلاستيكية، البصمة البشرية الواضحة، في كل مكان، من المحيطات الاستوائية والأنهار الملوّثة إلى مروج الألب النائية والقطب الشمالي.
قد تبدو هذه العناصر مجردة وبسيطة، إلا أنها من نوع الأشياء التي يراها الجيولوجيون في سجلات الصخور. يستخدم العلماء، منذ وقت طويل، الكربون والأكسجين والنظائر الكيميائية الأخرى لاستنتاج التغيّرات في المناخ والإنتاجية الأولية. كل ما نفعله مدوَّن في كتاب صالح للقراءة لمدة آلاف السنوات، إن لم يكن أطول. نروي حكايتنا الآن، ليس بالكلمات، ولكن بأفعالنا. سوف يستمر السجل الجيولوجي في تسجيل حكايتنا، شئنا أم أبينا.
ما النقطة الفاصلة؟
وبحسب الموقع الأمريكي، يجب وضع كل هذه السجلات المحتملة في الحسبان عند التفكير في زمن بداية حقبة الأنثروبوسين. اقترح البعض أن تكون "النقطة الفاصلة" التي تشير إلى دخولنا هذا العصر الجيولوجي الجديد هي عام 1945، عندما بدأت الاختبارات النووية. وتتضمن قائمة التواريخ الأخرى المقترحة كلاً من عام 1784 عند تطوير محرك البخار، وعام 1800 مع بداية الثورة الصناعية. واقترح آخرون أن يكون تاريخ البدء منذ نحو 5 آلاف إلى 8 آلاف عام، عندما بدأت الزراعة تعيد تشكيل المناظر الطبيعية وتُغيّر دورات الكربون، أو حتى منذ 10 آلاف عام، عندما بدأ البشر استغلال النباتات والحيوانات. قد يبدو استخدام عام 1945 ليكون نقطة البداية أمراً مغرياً، بسبب سهولة تحديد آثار الكربون المشع نسبياً في سجلات الصخور الجيولوجية، لكن هل حقاً بدأ تأثير البشر على سطح الأرض منذ ذلك الوقت فقط؟
الانتقال من أسلوب الحياة البدوي الرحّال، المعتمد على الصيد، إلى زراعة الطعام هو ما مهد الطريق أمام الحضارة الإنسانية المعروفة اليوم. زراعة المحاصيل واستئناس الماشية أتاحا إنتاج مزيد من الطعام في مساحة أقل، وهو ما زاد من ضغط البشر على التربة والنظم البيئية المحلية. ومع انتشار هذا النمط في المعيشة، حدثت تغيرات أخرى بالحضارة. أصبحت التجمعات السكانية أكثر مركزية، ونشأت التجارة، وحدث تبادل في اللغات، والبذور الزراعية. وبدأ العالم، ببطء، يصبح أكثر ترابطاً. ومع النمو السكاني، وزيادة مساحات الأراضي المستغلة، وحرث مزيد من الحقول وقطع مزيد من الغابات، وزيادة أنشطة التعدين بحثاً عن الموارد المعدنية، وزيادة معدلات تلوث المياه، أصبحت بصمتنا أكثر وضوحاً.
متى بدأت حقبة البشر؟
وبحسب الموقع الأمريكي، أصبحت غازات الاحتباس الحراري والتغير المناخي النقطة المحورية في عديد من النقاشات الدائرة حول الأنثروبوسين؛ لهذا السبب اقترح البعض أن يكون وقت تطوير محرك البخار في بداية الثورة الصناعية هو وقت بدء تلك الحقبة. بدأت الانبعاثات تزداد بوتيرة أسرع في منتصف القرن التاسع عشر، إلا أن تأثيرنا على دورة الكربون يسبق ذلك بوقت طويل. تجريف التربة وإعادة استخدامها لأغراض الزراعة الأحادية يقللان من قدرتها على تخزين الكربون، وإزالة الغابات على مساحات كبيرة من الأراضي له الأثر نفسه. لا يمكن مضاهاة انبعاثات الحضارات القديمة بما نشهده اليوم من انبعاثات في مدننا الصناعية والزراعية، إلا أن لها نصيبها من الأضرار أيضاً.
في عام 2018، على سبيل المثال، كشفت مجموعة من الصور باستخدام تقنية الليدار، عن توسعات لم تكن معروفة من قبلُ لحضارة المايا، تطلبت تطهير الغابات (من خلال القطع والحرق على الأرجح)، فضلاً عن تغيير تضاريس الأرض، مثلما نفعل اليوم تماماً. وعلى الرغم من أن هذه الاضطرابات كانت أصغر، فهي لا تزال مسؤولة، ولا تزال تمثّل حجر الأساس لممارساتنا الحالية.
نعيش اليوم، أو الجزء الأكبر منا، في قارات مستقرة. عكس قاع البحر، الذي يعاد تدويره كل 180 مليون عام تقريباً، من الممكن أن تحتاج الصخور القشرية في وسط القارات مئات الملايين أو مليارات السنوات لكي تتزحزح. بمعنى آخر، لن تغرق مدينة نيويورك في أي وقت قريب، ولا نبراسكا بحقول الذرة الشهيرة أو وايومنغ بثروتها الحيوانية. لذا، في أماكن مثل هذه، يمكننا أن نطمئن إلى استمرار أنشطتنا الحالية على المدى القصير. في الزمن الجيولوجي، من المرجح أن تشير السجلات الكيميائية إلى وجودنا أكثر من البقايا المادية للحضارة البشرية. سوف تروي نظائر الكربون حكايات عن غازات الاحتباس الحراري وارتفاع درجات حرارة الكوكب، وسوف تعكس رواسب المحيطات ارتفاع حموضة المياه مع انخفاض الأكسجين، وسوف تُظهر سجلات الحفريات مدى سرعة انهيار التنوع البيئي بعد ظهور البشر في المشهد.
في خضم تلك المناقشات الجارية، علينا أن نسأل أنفسنا: لماذا نهتم بفكرة الاعتراف بحقبة الأنثروبوسين من عدمها؟ ولماذا نهتم بكل ذلك؟ الدببة القطبية، التي تعاني خطر الانقراض، لن تهتم بالمسمى الذي نطلقه على العصر الذي نعيشه الآن. لا يهمها إلا أن يتوقف الجليد عن الذوبان. ولكنها طريقة موجزة وملائمة للتعبير عن أضرار وتأثير البشر على الكوكب. إذا كانت الفكرة، جزئياً على الأقل، جذب الانتباه إلى مسؤوليتنا ورفع مستوى الوعي بعواقب أفعالنا، فربما ينبغي أن نكون أكثر شمولاً. لا يمكننا أن نتجاهل أصلنا. لكي يكون لمصطلح "الأنثروبوسين" الأثر الأكبر، ينبغي أن يمتد ليشمل عمر البشر منذ حدوث أول تغيرات في نمط الحياة أدت إلى حضارتنا المعروفة اليوم، أي منذ أن عرف البشر الزراعة وما جلبته من تغيرات لا رجعة فيها على مجتمعنا وعالمنا.