مع استمرار الاحتجاجات في الشوارع دون توقف في لبنان والعراق وإيران والجزائر وعدد من دول الشرق الأوسط الأخرى، استخدمت الأنظمة الحاكمة منصات التواصل الاجتماعي والمنافذ الإعلامية التقليدية لتعقب المواطنين وإحكام السيطرة عليهم وقمعهم.
تمتلك حكومات دول الشرق الأوسط مهارة في التلاعب بالمنصات الإعلامية، لأنَّ منافذ الإعلام والصحافة التقليدية، لاسيما الصحف وقنوات التلفزيون، كانت دائماً مملوكة للدولة.
وبينما أصبحت مواقع التواصل الاجتماعي واسعة الانتشار وأكثر تطوراً من الناحية التقنية، ومع إقبال شباب الشرق الأوسط على الإنترنت والمنصات الرقمية، من بينها فيسبوك وتويتر وواتساب وإنستغرام، بدأت الأنظمة في استخدام طرق وتقنيات جديدة للسيطرة على المواطنين وتتبّع المنشقين محلياً ودولياً. فقد حجبت إيران إمكانية الوصول إلى معظم مواقع الإنترنت في البلاد رداً على الاحتجاجات، التي اندلعت في الشوارع هذا الأسبوع، بحسب تقرير لموقع The Cipher Brief الأمريكي.
تسيطر معظم حكومات الشرق الأوسط، باستثناء إسرائيل ولبنان، على جميع وسائل الإعلام، التلفزيون أولاً، ثم الصحف، ومؤخراً شبكات التواصل الاجتماعي الجديدة. وتكون وسائل الإعلام المطبوعة في هذه الحالات إما مُكمّمة، أو مُتملّقة أو تحكمها الرقابة الذاتية.
الصحافة والاضطرابات السياسية
أدَّت الصحافة ووسائل الإعلام دوراً محورياً في الحركات الشعبية في الشرق الأوسط على مدى نصف القرن الماضي. استخدمت القيادة الثورية الإيرانية في عهد آية الله الخميني من منتصف إلى أواخر سبعينيات القرن الماضي أشرطة الكاسيت لتوصيل رسالتها إلى الشعب الإيراني. وبعد عقد من الزمان، استخدمت الانتفاضة الفلسطينية في أواخر ثمانينات القرن الماضي جهاز الفاكس وسيلة اتصال مفضلة. واستخدم صدام حسين وأنصاره العرب التلفزيون والإذاعة والصحف للدفاع عن حربه ضد إيران في ثمانينيات القرن الماضي.
تستخدم المنظمات الإرهابية أيضاً، من ضمنها تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، الإنترنت، ووسائل الإعلام التقليدية لبث رسائلها الإرهابية. فقد اعتمد داعش اعتماداً كبيراً على الإعلام الإلكتروني، والجانب المظلم من الإنترنت للتواصل مع أتباعه في السنوات الأخيرة. يستخدم داعش أيضاً موقع YouTube ومقاطع الفيديو وغيرها من منصات التواصل الاجتماعي لبث عمليات الإعدام المُروّعة، التي ينفذها التنظيم.
مع ظهور قناة "الجزيرة" بدأت الأوضاع تتغير
كان إنشاء قناة "الجزيرة" في العاصمة القطرية، الدوحة، عام 1996، يُمثّل ظاهرة فريدة في الخطاب السياسي العربي. تولى إدارة "الجزيرة"، التي أسستها وتموّلها دولة قطر، في سنواتها الأولى إلى حدٍّ كبير موظفون سابقون في القسم العربي بشبكة "BBC" البريطانية. بدأت قناة "الجزيرة" تقديم برامج حوارية سياسية على الهواء مباشرة لأول مرة في التاريخ الحديث للإعلام العربي، مع وجهات نظر مختلفة بشأن قضايا دينية واجتماعية وسياسية. ومن ثمَّ، حظيت "الجزيرة" بملايين من المتابعين، وخلقت بطبيعة الحال العديد من الأعداء، لاسيما وسط بعض الأنظمة العربية والدول الأجنبية. أدَّت "الجزيرة" دوراً حاسماً في تعزيز أسلوب حوار عربي إقليمي من خلال استخدام اللغة العربية الفصحى الحديثة.
كانت "الجزيرة" أول منصة إعلامية رئيسية تبث رسائل أسامة بن لادن بعد أحداث 11 سبتمبر/أيلول، الأمر الذي أثار غضب صنّاع القرار السياسي الأمريكيين، لدرجة أنَّ البعض اقترح استهداف تلك الشبكة. وقد ركَّز القادة السعوديون والبحرينيون والإماراتيون على انتقاد قناة "الجزيرة" خلال محاولتهم تبرير حملة المقاطعة المدفوعة سياسياً لقطر، والتي بدأت في يونيو/حزيران 2017. اعتمدت القيادة القطرية اعتماداً كبيراً على "الجزيرة" لانتقاد حملة المقاطعة الخليجية وتقويض دوافعها. أصبحت قناة "الجزيرة" (بنسختيها العربية والإنجليزية) خلال العقدين ونصف الماضيين مصدراً رئيسياً للأخبار على الصعيد العربي والدولي.
مواقع التواصل الاجتماعي وقمع الأنظمة
وفقاً لتقرير أصدرته شبكة "Arab Barometer" البحثية في 19 أكتوبر/تشرين الأول حول السياسات ومواقع التواصل الاجتماعي في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، يستخدم جميع مستخدمي الإنترنت في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا مواقع التواصل الاجتماعي لمدة ساعتين على الأقل يومياً، نصفهم تقريباً يمكن وصفهم بأنَّهم مستخدمون نهمون لتلك المواقع والتطبيقات. يحظى موقع فيسبوك بمتابعة 74% من مستخدمي الإنترنت. علاوة على ذلك، حسبما أفاد التقرير، أكثر من ثلث المواطنين في المنطقة يعتبرون مواقع التواصل الاجتماعي مصدراً أساسياً لمعرفة الأخبار العاجلة.
تؤدي مواقع التواصل الاجتماعي في الشرق الأوسط العديد من الأدوار المهمة. في حين تستخدم الأنظمة الحاكمة مواقع التواصل الاجتماعي أداة للقمع، يستخدمها النشطاء لأغراض الحشد والتواصل والتمكين. استخدمت كلٌّ من الثورة الخضراء في إيران عام 2009، وانتفاضات الربيع العربي عام 2011، والاحتجاجات الحالية في شوارع لبنان والعراق وإيران ومصر والجزائر وأماكن أخرى مواقع التواصل الاجتماعي، من أجل حشد المواطنين وتبادل المعلومات.
هربت الجماهير من القمع إلى التظاهر في فضاء التواصل الاجتماعي
الأهم من ذلك، عملت مواقع التواصل الاجتماعي بمثابة ساحة ميدان افتراضية للجماهير العربية، وهو تطور مُرحب به، لاسيما عندما تفرض الأنظمة الاستبدادية قيوداً شديدة على ساحة الميدان الواقعية. كذلك، ساعدت مواقع التواصل الاجتماعي، باعتبارها أداة للتنشئة الاجتماعية، المواطنين العرب على مناقشة توجهاتهم السياسية والاجتماعية والثقافية المتنوعة من خلال الفكاهة والفن والموسيقى والنقاشات السياسية.
لكن للأسف، كلّما تطورت تقنيات الإعلام الإلكتروني واتسع نطاق انتشاره، أصبح قمع النظام للمعارضين أكثر وحشية. أغلقت العديد من الأنظمة الحاكمة منصات إعلامية مختلفة، من بينها شبكة الإنترنت وتويتر وفيسبوك وواتساب وإنستغرام. مارست الحكومات كل أنواع المضايقات من اعتقال وتعذيب وقتل ضد النشطاء المعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي، بغض النظر عن مدى سلمية تلك المعارضة.
وتعتبر عملية القتل الوحشية للصحفي السعودي المعارض، جمال خاشقجي، وتقطيع جثته بأوامر من النظام السعودي قبل عام واحد ما هي إلا مثال سافر يوضح إلى أي مدى ذهبت الأنظمة من أجل إسكات المعارضة.
دول عربية استعانت باسرائيل لاستهداف المعارضة
استخدمت الأنظمة الحاكمة في السعودية والإمارات والبحرين ومصر وغيرها من دول الشرق الأوسط تقنيات الأمن السيبراني الإسرائيلية، لاستهداف المنشقين على مواقع التواصل الاجتماعي وتعقّبهم من تركيا إلى كندا، ومن إنجلترا إلى ماليزيا
باعت شركة البرمجيات الإسرائيلية "NSO Group" تقنيات تعقّب وقرصنة للمستبدين في جميع أنحاء العالم، من المملكة العربية السعودية إلى الهند، من ضمنهم العديد من الأنظمة الاستبدادية العربية. وقد أتاح برنامج التجسس "Pegasus" التابع للشركة الإسرائيلية للمخترقين إمكانية الوصول إلى سجل المكالمات الهاتفية والرسائل الخاص بالمعارضين السعوديين، مثل جمال خاشقجي وعمر عبدالعزيز، الذي طلب اللجوء في كندا، من ضمنها رسائل تويتر وواتساب.
وقد أدَّى الاستخدام الواسع النطاق لتقنيات التجسس والمراقبة من جانب الأنظمة الاستبدادية إلى حدوث انتهاكات شاملة ومنهجية لحقوق الإنسان. وفي هذا الصدد، أفادت صحيفة The New York Times الأمريكية في وقتٍ سابق من الشهر الجاري، أنَّ وزارة العدل الأمريكية اتّهمت اثنين من موظفي شركة تويتر، منهم مواطن سعودي يُدعى علي الزبارة، والمواطن الأمريكي أحمد أبوعمو، "باستغلال مناصبهم في الشركة وقدرتهم على الوصول إلى أنظمة تويتر الداخلية لمساعدة السعودية في الحصول على معلومات تخص مواطنين أمريكيين ومنشقين سعوديين عارضوا سياسات المملكة وقادتها". واتهمت وزارة العدل أيضاً أحمد المطيري، وهو مواطن سعودي، بالعمل كوسيط بين على الزبارة والمخابرات السعودية المقربة من ولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بهدف نقل معلومات حسّاسة عن مستخدمي تويتر إلى النظام السعودي.
بناءً على هذه الإفادة، رفع عمر عبدالعزيز، الناشط السعودي المنشق المقيم في كندا، دعوى قضائية ضد شركة "NSO Group" الإسرائيلية وتويتر، لمساعدتهما النظام السعودي على تعقّب كل من يدعو إلى الإصلاح والحرية في المملكة العربية السعودية وإسكاته.
لا تمارس الأنظمة الحاكمة في الشرق الأوسط القمع ضد المعارضين على مواقع التواصل الاجتماعي فحسب، بل ضد الإصلاح السياسي والاجتماعي، والمشاركة المدنية، وحقوق الإنسان والديمقراطية.
تبذل الأنظمة في العالم العربي جهداً كبيراً للسيطرة على مواقع التواصل الاجتماعي
من المُقدّر لوسائل التواصل الاجتماعي، مع تطور تقنياتها، أن تلعب دوراً أكبر في تحديد "الحقيقة" ونقلها أو تشويهها. في حين تعتمد الصحافة التقليدية على مصدرين على الأقل لتأكيد صحة معلومة ما، فإنَّ وسائل التواصل الاجتماعي تنشر دائماً ادعاءات دون مراعاة تحرّي الحقيقة.
تساهم الأنظمة الحاكمة في تأجيج الحرب السيبرانية على وسائل الإعلام والصحافة بصورة متزايدة، من أجل إحكام السيطرة على أي آراء معارضة، والتأثير عليها وقمعها. تميل الأنظمة القمعية والقادة المستبدون إلى استخدام مواقع التواصل الاجتماعي والصحافة بوجهٍ عام لزرع الانقسام والتعصّب القبلي والحزبي، ونشر صورة مفزعة للمجتمع.
وإذا استمرت هذه الاتجاهات، فستكون الديمقراطية نفسها في خطر. إنَّ التأثيرات العالمية على الصحافة من خلال عمليات القرصنة والرسائل المزيفة والقيود المالية تزيد من صعوبة حماية المبادئ والمؤسسات الديمقراطية في بلدٍ ما.
ويشير الموقع الأمريكي إلى أنه في سبيل مواجهة هذا الاعتداء على الصحافة والإعلام، يجب على المواطنين المُطّلعين والمعنيين البدء في مختبرات جديدة للديمقراطية في كل شارع وكل حي، لتثقيف إخوانهم المواطنين بشأن خطورة استهداف وسائل الإعلام والأخبار الكاذبة.
ومع حقيقة أنَّ الانتخابات الحرة والنزيهة هي العمود الفقري للديمقراطية الحقيقية، يجب حماية قدسية صندوق الاقتراع وضمان المشاركة لجميع المواطنين، بغض النظر عن العرق أو اللون أو الجنس أو الأصل القومي أو الديانة.