رأى المواطن العراقي علي سامي -حين كان قادماً من جسر الأحرار في بغداد وسط دويّ قنابل الغاز المسيل للدموع وطلقات الرصاص خلفه- شخصاً اعتقده متظاهراً شاباً يجد صعوبةً في التنفس ويتوسل طالباً للمساعدة. وبعد ذلك، انهار الشاب فجأة في أحد الأزقة، فدخله سامي ليجد نفسه محاطاً بستة رجال يرتدون ملابس مدنية. ثم نهض الرجل الذي ظنَّه سامي أحد المتظاهرين وانضم إليهم وهُم يجبرون سامي على دخول سيارة سوداء حيث عصبوا عينيه وربطوا يديه وضربوه ساعات متواصلة.
وقال سامي: "لقد هددوني، قالوا لي: سنقتلك إذا ذهبت إلى التحرير"، مشيراً إلى الميدان الذي تتركز فيه الاحتجاجات. وأضاف: "لقد عرفوني بالاسم".
الإخفاء والتعذيب والتصفية الجسدية.. تجربة متكررة
تقول مجلة Foreign Policy الأمريكية، بالنسبة للعراقيين العاديين، أصبحت هذه التجربة متكررة في الآونة الأخيرة. فمع دخول الاحتجاجات شهرها الثاني في نوفمبر/تشرين الثاني، أصبحت الحكومة العراقية أكثر استبداداً في الرد عليها.
وفي يوم 9 نوفمبر/تشرين الثاني، قتلت قوات الأمن العراقية 9 أشخاص في أثناء فضّ اعتصام المتظاهرين الذين كانوا يسيطرون ثلاثة جسور تؤدي إلى المنطقة الخضراء. وقال شهود عيان إنَّ القوات أطلقت الرصاص الحي وقنابل الغاز المسيل للدموع على المتظاهرين مباشرة.
فيما قطعت الحكومة خدمات الإنترنت مرات عدة في الشهر الجاري نوفمبر/تشرين الثاني، وفي اليوم نفسه، بدأ ظهور أولى التقارير عن أن قوات الأمن تستخدم الرصاص الحي في التصدي للمتظاهرين الذين كانوا يحاولون عبور الجسور إلى المنطقة الخضراء، حيث تتحصَّن الحكومة خلف حواجز خرسانية نُصِبَت بعد الغزو الأمريكي للعراق في عام 2003.
وصحيحٌ أنَّ ميدان التحرير ما زال ملاذاً آمناً نسبياً للمتظاهرين، لكنَّ حتى أولئك الموجودين في الميدان يقولون إنَّهم يتعرضون لموجةٍ واسعة من الاعتقالات والإخفاءات القسرية والتهديدات. وقال العديد من المتظاهرين لمجلة Foreign Policy الأمريكية إنَّهم تعرَّضوا لترهيبٍ عنيف من أجل ردعهم عن المشاركة في المظاهرات. وتحدَّث متظاهرٌ عمره 15 عاماً واسمه علي -وهو يقود عربةً توك توك حمراء للمساعدة في إنقاذ المتظاهرين المصابين- إلى المجلة الأمريكية عبر الهاتف بينما كان محتجزاً حسب ما قال، وذكر أنه اعتُقِل حين كان في المظاهرات، وتعرَّض للتعذيب، بما في ذلك الضرب والصعق بالكهرباء أثناء احتجازه.
فيما قال مسعفون وأطباء للمجلة الأمريكية إنَّ قوات الأمن استهدفتهم حين كانوا يحاولون علاج المتظاهرين الذين تعرضوا لإصاباتٍ خطرة في الصفوف الأمامية للاحتجاجات. وفي يوم الجمعة الماضي 8 نوفمبر/تشرين الثاني، عَرَض بعض المتظاهرين مقطع فيديو لطبيب يُقال إنَّ اسمه عباس أصيب في بطنه برصاصةٍ حية وتوفي لاحقاً. وقال مُسعِفٌ شاب كان طالباً في كلية طب الأسنان قبل الانضمام إلى المظاهرات: "حين ذهبنا إلى جسر السنك، بدأت قواتٌ ترتدي ملابس سوداء في استهدافنا، وضربنا بالغاز المسيل للدموع وقنابل الصوت. كانوا يستهدفون الرؤوس والأظهُر مباشرة، وليس الأطراف".
حملة قمع عنيفة
هذا ويطالب المتظاهرون برحيل النظام، ولكن لا يبدو أنَّ أيَّاً من الطرفين مستعدٌ للتزحزح عن موقفه. وفي هذا الصدد، قال ريناد منصور، الباحث في معهد تشاتام هاوس البريطاني: "الحكومة تصف المتظاهرين بالمُخرِّبين. لذا فهي تراهم مُفسدين ومثيرين للإزعاج والاضطرابات".
ويبدو أنَّ الحكومة تحاول إضفاء الشرعية على حملتها القمعية بالتذرُّع بقوانين مكافحة الإرهاب. إذ قال منصور: "دعوة رئيس المحكمة العليا في العراق إلى حضور الاجتماعات الأمنية، ثم خروجه واستشهاده بمواد قانون مكافحة الإرهاب، يمنح الحكومة مبرراً قانونياً لاستخدام العنف، لكي يصبح جزءاً من هذا القمع".
وأضاف: "يبدو أن الحكومة قد سئمت هؤلاء المتظاهرين. وهي الآن لديها المبررات القانونية والمبررات السياسية لتتخذ إجراءات صارمة وتحاول طرد هؤلاء المحتجين من الشوارع".
وبالرغم من المؤشرات السابقة على أنَّ المسؤولين الحكوميين كانوا يتفاوضون بشأن استقالة رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي، فما زال مستمراً في منصبه. وذُكر أنَّ هذا يرجع إلى تدخُّل قاسم سليماني، قائد فيلق القدس الإيراني التابع لقوات الحرس الثوري، الذي زار العراق لمنع إطاحة عبدالمهدي.
ومن جانبها أصدرت الأمم المتحدة بياناً في 10 نوفمبر/تشرين الثاني يحدد خطةً للإصلاحات ويدعو إلى إنهاء العنف في الاحتجاجات. وحذَّر البيان كذلك من "المخرِّبين" الذين قد يستولون على المظاهرات، بلهجةٍ تشبه تصريحات النخبة السياسية العراقية، التي أشار إليها منصور. ولم تتضمن خطة العمل التي طرحتها بعثة الأمم المتحدة لمساعدة العراق أي إشارةٍ إلى استقالة عبدالمهدي أو حكومته، التي تعد أحد المطالب الرئيسية للمتظاهرين.
وفي الواقع، فالعديد من المحتجين لا يُطالبون بتغيير الحكومة فحسب، بل يطالبون كذلك بتغيير كاملٍ للنظام الحكومي، الذي يعتمد على المحاصصة الطائفية. إذ قال ناشطٌ مدني ومتظاهر من مدينة الناصرية: "مطلبنا هو سقوط النظام، وتحديداً النظام الذي طُبِِّق بعد الاحتلال الدولي للعراق في عام 2003".
فيما قال محللٌ عراقي، طلب عدم الكشف عن هويته: "مطلب المحتجين هو إحداث تغييرٍ جذري في النظام القائم، وتجديده وتغييره تماماً. وأوضح المحلل أنَّ النظام البرلماني أنشأته الولايات المتحدة والدول الأوروبية شريكتها بعد غزو عام 2003. وقال المحلل: "لذا فمطالب المحتجين تقوِّض نظاماً يحاول المجتمع الدولي بأسره الحفاظ عليه من كلا الجانبين: الجانب الإيراني والجانب الأمريكي".
الاحتجاجات ليست وليدة اليوم
وجديرٌ بالذكر أنَّ هذه ليست المرة الأولى التي تقمع فيها الحكومة العراقية الاحتجاجات بعنف، وإن كان حجم الاحتجاجات الحالية والعدد الهائل من القتلى استثنائيان. فالعراق لديه تاريخ طويل من الاحتجاجات ضد الفساد يمتد من عام 2011 إلى الوقت الحالي. ففي عامي 2015 و2016، شهدت بغداد حركة احتجاج كبيرة أخرى قوبلت بحملةٍ قمعية كذلك. وفي العام الماضي 2018، اندلعت احتجاجات تُطالب بتوفير المياه النظيفة والخدمات الصحية والوظائف في محافظة البصرة الجنوبية التي تعاني الفقر مع أنَّها غنيةٌ بالنفط.
وفي هذا الصدد، قال ريناد منصور إنَّ الحكومة تمكَّنت من إرضاء المحتجين في عام 2016، فيما استطاع المسؤولون في البصرة قمع احتجاجات العام الماضي. وأضاف: "كانت الحكومة تُفضِّل أن ترد على (الاحتجاجات الحالية)… على غرار ردها في عام 2016، لذا تعهَّدت بهذه الإصلاحات، وإجراء تعديل وزاري، وتغيير القوانين على أمل أن يقول المتظاهرون: حسناً، هذا رائع، لنذهب الآن إلى منازلنا لأنَّنا لدينا كل هذه الوعود".
لكنَّ الكثير من المحتجين يقولون هذه المرة إنَّهم لا يعتزمون العودة إلى منازلهم أو التفاوض مع الحكومة. وقد أصبحوا كذلك أكثر تنظيماً، إذ عسكروا في خيامهم، بل وأوصلوا التيار الكهربائي إلى مبنى مهجور يُعرف باسم المطعم التركي، ويُطل على جسرٍ يؤدي إلى المنطقة الخضراء.
إذ قال متظاهرٌ يبلغ من العمر 27 عاماً ويُدعى علي سالم كان يجلس في خيمةٍ في ميدان التحرير مع مجموعةٍ من المتظاهرين وسط بطانيات ومراتب تبرَّع بها بعض الأشخاص: "جميعنا هنا منذ 14 أو 15 يوماً، لقد تركنا منازلنا وعملنا وأفراد أسرنا للبقاء هنا. مطلبنا هو تغيير الحكومة بالكامل. هذا هو مطلبنا الرئيسي: أن تكون الحكومة عراقية وتخدم الشعب العراقي فقط، وألَّا تكون تابعةً لأي بلدٍ آخر".
المئات يقتلون بدم بارد
هذا وشهدت الاحتجاجات مقتل أكثر من 300 شخص وإصابة الآلاف منذ بداية الشهر الماضي أكتوبر/تشرين الأول. وعرض بعض المتظاهرين لمجلة Foreign Policy مقاطع فيديو تُظهِر محتجين يتلقون قنابل الغاز المسيل للدموع في رؤوسهم التي يتدفق منها الدم ويتصاعد الدخان. وذكر تقريرٌ صدر مؤخراً عن منظمة العفو الدولية أنَّ قوات الأمن المتظاهرين تستهدف المتظاهرين مباشرة بقنابل غاز مسيل للدموع من الطراز العسكري.
هذا ويعتقد المتظاهرون أنَّ الحكومة قطعت خدمات الإنترنت لمنع التنظيم بين المحتجين، والتعتيم على العنف. إذ قال متظاهرٌ وناشط مدني يُدعى علي شزاب: "لقد قطعوا الإنترنت حتى يتمكنوا من مهاجمة المحتجين مباشرة. وكي لا نستطيع توصيل الأخبار إلى الشعب. والدليل واضح: إنهم يقطعون الإنترنت، والكهرباء لمدة ساعة". وأضاف أنَّ أي شخص يغادر الاحتجاجات في ذلك الوقت "معرضٌ للاعتقال".
ويخشى شزاب وغيره من المحتجين أن يشي بهم المخبرون التابعون للحكومة أو مخبري الجماعات شبه العسكرية، بما في ذلك الميليشيات التي تدعمها إيران داخل قوات الحشد الشعبي. وكذلك أقام المتظاهرون نقاط تفتيش غير رسمية في الأجزاء الرئيسية من ميدان التحرير للحرص على عدم إدخال الأسلحة. وقال شزاب متحدثاً عن ذلك: "إنها حرب نفسية".
فيما قال المتظاهر مسلم فضل فلاح البالغ من العمر 26 عاماً والحاصل على ماجستير في الاقتصاد، الذي سافر من الناصرية إلى بغداد للمشاركة في احتجاجات العاصمة: "لقد زرعوا مخبرين بيننا لأنهم يريدون عدم استمرار هذه الاحتجاجات. فمناصبهم وسلطتهم هي أهم شيء بالنسبة لهم".
وقال مؤمل عبدالشهيد السمري، وهو طالبٌ ينظم فعاليات تلقَّى تهديدات لمشاركته في الاحتجاجات، وهو يجلس في مطعمٍ بالقرب من ميدان التحرير، إنَّه يشعر بتعبٍ نفسي وجسدي بالغ لدرجة أنَّه لا يستطيع تناول الطعام. وقال إنَّ أربعة من أصدقائه قُتلوا في الأيام القليلة الماضية، وإنَّه ليست لديه توقعات كبيرة بشأن المستقبل. وأضاف: "لا أحد بجانبنا، ولا حتى الله".