ما هي القصة؟: ثمة سؤال هام يثير العديد من علامات الاستفهام حول قدرة حركة طالبان على البقاء والاستمرار في محاربة قوات التحالف الدولي الذي تقوده أمريكا منذ 2001 من أجل إسقاط الحركة، لكن الأمر لم يحدث بل بالعكس وجدت أمريكا نفسها مجبرة على الجلوس على طاولة المفاوضات مع قادة الحركة الذين مازالوا يرونها إرهابية ومارقة؟
إجابة هذا السؤال رصدها أروين راحي المستشار السابق لحاكم إقليم باروان الأفغاني في مقال لمجلة The National Interest الأمريكية.
الإجابة: لم تستفد أفغانستان كما ينبغي من الوجود الأمريكي، بسبب انعدام الكفاءة وعدم المسؤولية الجماعية للمجتمع الدولي. إذ بُدِّدَت مليارات الدولارات من دافعي الضرائب الأمريكيين من خلال عقود وعقود من الباطن أبرمها المجتمع الدولي، وبسبب فساد المسؤولين الأفغان الذين أصبحوا بدورهم عاملاً مساعداً في المساهمة بتعزيز دور طالبان.
فبعدما أعادت الحركة تنظيم صفوفها، شنَّت عام 2006 عملية عسكرية كاملة ضد الولايات المتحدة. ومع تصاعد الحرب برز اتجاهان متوازيان مثيران للقلق: الأول هو زيادة الولايات المتحدة أعداد قواتها بصورة مستمرة حتى عام 2010 دون التمكُّن من اقتلاع جذور مقاومة طالبان، والثاني هو أنَّ هجمات طالبان أصبحت أكثر فتكاً. وفي ظل عدم تحقيق أي الطرفين للانتصار، أُعيد تقديم مصطلح "الجمود" في قاموس الحرب الأفغانية بعد عقدين من الزمن، في إشارة تذكرنا بمساعي الاتحاد السوفيتية الفاشلة لهزيمة مجاهدي حرب العصابات في الثمانينيات. وبالطبع لم يُبشِّر ذلك بخير للولايات المتحدة وحلفائها الأفغان.
ومع تواصل ما يُسمَّى بـ"الجمود" في ساحات القتال، لا تزال هناك قضية حاسمة تفتقر إلى الاهتمام المرغوب بشدة: وضعية قتال طالبان في السياق الأوسع لتاريخ أفغانستان. فحين كانت الحركة في الحكم، وقعت العديد من الأخطاء، لكن حين أصبحت حركة مقاولة ضد الولايات المتحدة، باتت على وشك تحقيق إنجازٍ كبير. فما هي إلا مسألة وقت حتى تُستأنَف المباحثات بين الولايات المتحدة وطالبان. إذ لا يبدو أنَّ هناك بديلاً عنها في ظل عجز الولايات المتحدة عن هزيمة طالبان في ساحة القتال. وعلى هذا النحو،
أمريكا ستنسحب من أفغانستان
نتيجةً للأسباب الأربعة التالي ذكرها، سيجري بعد انسحاب الولايات المتحدة تبنّي تمرُّد طالبان باعتباره جهداً أفغانياً شاملاً على مستوى أفغانستان كلها اضطلعت به الأمة الأفغانية.
أولاً، لا تختلف طالبان اليوم كثيراً عن المجاهدين الأفغان في الثمانينيات. فكان المجاهدون هم أيضاً يتبنون وجهات نظر جهادية –لا تختلف عن موقف طالبان الحالي بخصوص كثير من القضايا- ظلَّت تُمثِّل مصدر قلقٍ مستمر في المناطق الحضرية. إذ أمطر المجاهدون على نحوٍ مشابه المدن والقرى بالصواريخ وفجَّروا العبوات الناسفة أينما كان ذلك ممكناً طيلة سنوات.
وبعد انسحاب القوات السوفيتية، أقدم كثيرون من الأفغان الموالين للسوفييت على مغادرة البلاد أو على تغيير مواقفهم، ربما لأسبابٍ سياسية. ولتهدئة الأمور أكثر، لا يَقصر كثيرٌ من الأفغان اليوم النضال العسكري ضد السوفييت على المجاهدين وحدهم. فقد كانت معركة طرد السوفييت مهمة وطنية شاملة. مع ذلك، وبصرف النظر عمن كان يقف إلى جانب مَن آنذاك، تُمثِّل هزيمة السوفييت اليوم مصدر فخرٍ جماعي للأفغان. وليس مستبعداً أن يجري النظر إلى الانسحاب الأمريكي باعتباره هزيمةً ألحقتها بهم الأمة الأفغانية برمتها.
ثانياً، يكون الأمر مهماً على نحوٍ كبير في مناطق أفغانستان الريفية، حيث يعيش غالبية الأفغان. إذ أخفقت الحكومتان الأمريكية والأفغانية معاً في تطوير البنية التحتية والاستثمار في الزراعة بالمناطق الريفية، وبالتالي تفويت فرصة مهمة للفوز بقلوب وألباب غالبية السكان. ولم تهتم الولايات المتحدة إلا بالمشروعات قصيرة المدى وقصيرة العمر بتعاقدات من الباطن وتقوم على تنفيذها المنظمات غير الحكومية، والتي بدورها لا تترك إلا آثار قليلة طويلة الأجل على حياة القرويين.
علاوة على ذلك، تركَّز معظم القتال بين الولايات المتحدة وطالبان في المناطق الريفية، حيث خلَّفت الولايات المتحدة ضحايا مدنيين في الغارات الجوية وشنَّت مداهمات ليلية في المنازل الخاصة، مُنتهِكَةً بذلك خصوصية الأفغان من ناحية ومُوجِدةً سبباً "مُبرَّراً" للغضب والرغبة في الانتقام من ناحية أخرى. وعلى هذا النحو، فقدت الولايات المتحدة الشعبية التي اكتسبتها في بادئ الأمر في القرى الأفغانية. وفي حين قد يكون لدى طالبان عدد قليل من المتعاطفين في المدن الكبرى، تملك الحركة الأفضلية في المناطق الريفية التي تقطنها غالبية من المتدينين المحافظين. وفي حال انسحبت الولايات المتحدة، سيكون هناك كثيرون في القرى يحتفون بالانسحاب.
ثالثاً، يُظهِر التاريخ الأفغاني على مدار المائتي عام الماضية أنَّه إذا ما تعثَّرت أو تراجعت قوة غازية في أفغانستان، سيُلقي الأفغان الذين لم يكونوا قد حددوا موقفهم بعد بثقلهم خلف رفاقهم الأفغان الذين يقاتلون الغزاة. ولا يأتي الدعم من الرفاق الأفغان دوماً في صورة عسكرية. فلمحةٌ من التقدير أو التعاطف ستكون كافية. وقد تعلَّم البريطانيون في القرنين التاسع عشر والعشرين هذا الجانب من النفسية الأفغانية بالطريقة الصعبة.
واليوم، يُعَد موقف طالبان في جزءٍ منه نتيجة لهذه العقلية. ففي ظل تواصل "الجمود"، يُرجَّح أن تُفضِّل المزيد والمزيد من القرى طالبان على الولايات المتحدة. ومع أنَّ طالبان لا تملك شيئاً مهماً تقدمه للقرويين، فإنَّ الحركة تشاركهم نفس الدين والثقافة، بعكس القوات الأجنبية.
رابعاً وأخيراً، مع مرور الوقت واختفاء الجيل الحالي، الذي تأثر مباشرةً بسياسات طالبان، يُرجَّح أن يبدأ مزيد والمزيد من الأفغان إما بقرن أنفسهم مع موقف طالبان أو التعلُّق به. ناهيكم عن أنَّ أولئك الذين لم يتضرروا من سياسات الحركة سيصبون تركيزهم على المسائل الأكثر إلحاحاً والمعاصِرة. وستصبح هذه المشاهد أكثر إغراءً بالخصوص حين يُوضَع اسم الولايات المتحدة إلى جانب اسم الاتحاد السوفيتي وبريطانيا العظمى في قائمة القوى الكبرى المنهزمة في أفغانستان.