عوّل الأردن أكثر من أي دولة عربية أخرى على جني عوائد ضخمة من اتفاقية السلام مع إسرائيل، والرؤية التي طُرحت عن "سوقٍ شرق أوسطية مشتركة في المستقبل".
لكن بعد سنوات من خيبة الأمل فيما يتعلق بسلوك إسرائيل تجاه الفلسطينيين، والتي توّجت بدعم إدارة ترامب المتحيز لإسرائيل وعدائها البادي للفلسطينيين، بات الأردنيون على امتداد الطيف السياسي –بمن فيهم أعضاء البرلمان- مقتنعين الآن أكثر من أي وقت مضى بأن إسرائيل عدو لا يمكن التوافق معه.
تقول صحيفة Haaretz الإسرائيلية، إن لطالما شدّد الملك عبدالله الثاني عاهل الأردن على الحاجة إلى إقامة سلام عادل وشامل ودائم في المنطقة. ومع ذلك، فإن موقف إسرائيل المتشدد من حل الدولتين، إلى جانب الخطاب الأمريكي المفتقر إلى التوازن إلى حد خطير فيما يخص القضية الفلسطينية (وهو ما ستصدّقه رسمياً خلال وقت قريب ما يطلق عليها "صفقة القرن" في الشرق الأوسط، بمجرد الكشف الكامل عنها) قد أخذ يزيد من صعوبة بقائه على موقفه.
ملك الأردن في مأزق
يجد الأردن الآن نفسه عالقاً بين مطالب معسكر ترامب أحادي الجانب المؤيد لإسرائيل والمنصرف عن توجيه أي مساعدات إلى الفلسطينيين، والرأي العام المحلي الآخذ في الغضب إلى حد الرغبة في القطع الكامل للعلاقات الدبلوماسية والتجارية مع إسرائيل.
هناك ضغوط متزايدة على المستوى الشعبي للتخلي عن صفقة الغاز البالغة قيمتها 15 مليار دولار مع إسرائيل. إضافة إلى السخط من تأخر إسرائيل في إعادة الأراضي التي تحتلها في منطقة الباقورة في الشمال والغمر في الجنوب المؤجّرتين من الأردن بموجب اتفاقية السلام الأردنية الإسرائيلية في عام 1994. علاوةً على أن الأردنيين لم ينسوا الحادث الذي وقع في عام 2017، والذي يتعلق بإطلاق حارسٍ إسرائيلي النار على أردني ليرديه قتيلاً بالقرب من السفارة الإسرائيلية في عمان.
تقول هآرتس: يرى الأردنيون من كافة المراتب الاجتماعية إلى العمليات الإسرائيلية في الضفة الغربية وغزة على أنها هجمات غير مبررة وجائرة على المدنيين الأبرياء. ثم هناك ما تدعي المملكة أنها مساع مزعومة لترامب وإسرائيل لتغيير الوضع التاريخي والقانوني القائم فيما يتعلق بالمسجد الأقصى وموقعه.
أصبح الملك الأردني الراحل حسين بعد إبرامه معاهدة سلام مع إسرائيل في 26 أكتوبر/تشرين الأول 1994، محققاً إحدى المصالح الاستراتيجية الأمريكية العليا، أول رئيس عربي يتصالح مع الدولة اليهودية منذ أن قاد الرئيس أنور السادات مصر إلى اتفاق مماثل في عام 1979. تضيف هآرتس: "البلدان رغم أنهما كانا يعلنان سابقاً العداء لبعضهما، فإنهما تشاركا مخاوف متوازية، تشمل ما يتعلق بنزعة وطنية فلسطينية يرى كثيرون في الدولتين أنها تطعن في شرعية وجود دولة أردنية أو إسرائيلية حديثة".
لا يوجد سلام كامل
تضيف الصحيفة الإسرائيلية أنه على الرغم من "الفوائد الكثيرة" التي جناها الاقتصاد الأردني من إنهاء حالة الحرب مع إسرائيل، فإن رؤية إقامة سلام دائم لم يكتب لها التحقق قط. من جهة الأردن، شُطبت الديون الخارجية الحرجة وأتت المساعدات الخارجية بوفرة، ووُقّعت اتفاقيات تجارية تفضيلية واحدة تلو الأخرى.
انضم الأردن إلى "منظمة التجارة العالمية"، وأنشئت "مناطق صناعية مؤهلة – كويز" -هو شكل خاص من اتفاق "التراكم القطري" الثلاثي بين الولايات المتحدة والأردن وإسرائيل، والذي يرمي إلى "مكافأة" الأردن على مشاركته في عملية السلام في الشرق الأوسط، وتقريب البلاد من إسرائيل- في جميع أنحاء البلاد. وقد ساعدت المناطق الصناعية المؤهلة خلال السنوات العشر الأولى بعد إطلاقها، في زيادة صادرات الأردن إلى الولايات المتحدة بشكل كبير، من مجرد 15 مليون دولار إلى صادرات بلغت قيمتها أكثر 1.5 مليار دولار.
لكن قليلاً من هذه الثروات والنمو الاقتصادي شعر به المواطنون الأردنيون العاديون. الواقع أن دخل الفرد شهد انخفاضاً خلال السنوات التي تلت إبرام معاهدة سلام مع إسرائيل، وارتفعت نسب البطالة. وحتى الآن، لم تنفذ بعد أي من مشاريع التطوير التي كانت قد أعلن عنها مثل مشروع "قناة البحرين" التي تربط البحر الأحمر بالبحر الميت، وعلى عكس التوقعات الأولية، لم يفتح السوق الفلسطيني أبوابه أمام التجارة الأردنية.
أخذت خيبات الأمل في معاهدة السلام تتنامى. وشيئاً فشيئاً، بدأ يسأل الأردنيون بغضب: "أين هي ثمار السلام؟"
فشل مروّع
تتساءل الصحيفة: ما هي أسباب هذا الفشل المروّع؟ على الجانب الإسرائيلي، أخفق النظام السياسي الإسرائيلي في التعبئة لدفع خطط التعاون الإقليمي والسلام، مفضلاً الإذعان لمطالب الضغط المحلية المتطرفة. في الوقت نفسه، حالت الإجراءات الأمنية المفرطة دون وصول الأردنيين إلى إسرائيل بأعداد كبيرة.
على الجانب الآخر، عطّلت بيروقراطية مفرطة في قلقها وارتيابها وامتناعها عن المساعدة، الجهود المبذولة للتقدم في تنفيذ الاتفاقية.
في الوقت نفسه، لا يزال النشاط التجاري الأردني داخل إسرائيل سرياً ومتواضعاً للغاية. ولا تزال حركة البضائع بين الاقتصادين محدودة وتقل كثيراً عن أيام الازدهار الأولى منذ 14 عاماً عندما كانت المناطق الصناعية المؤهلة منتعشة.
تردف الصحيفة: صدّر الأردن بضائع إلى إسرائيل بقيمة 84 مليون دولار في عام 2018 (تشكل مواد كيميائية غير عضوية ما يقرب من نصف مجموع هذه الصادرات)، في حين أن التجارة في الاتجاه الآخر بلغت 71 مليون دولار. وهكذا كانت القيمة المضافة الإسرائيلية الإلزامية في منتجات المناطق الصناعية المؤهلة وراء التوسع في واردات الأردن من إسرائيل. إذ إن الشرط الأساسي للمنتج لكي يتمكن من الحصول على مزايا المناطق الصناعية المؤهلة هو أن يتشارك الأردنيون والإسرائيليون في القيمة المقدرة للمنتج، مع مساهمة محتملة من الولايات المتحدة أو الفلسطينيين.
لا فوائد اقتصادية حقيقية
وترى هآرتس أنه لم يكن الجانب المشرق الوحيد في خيبات الأمل الاقتصادية هذه يتعلق بالجانب الإسرائيلي: فبفضل المناطق الصناعية المؤهلة، وهي جزء من عائد السلام، برز الأردن كقاعدة لمعالجة الألبسة الجاهزة المتجهة إلى السوق الأمريكية، وأصبحت تلك الصناعة أكبر قطاع تصدير في الأردن من منتصف إلى أواخر العقد الأول من القرن العشرين.
إحدى الرسائل الرئيسة التي أعقبت هذا "السلام الاقتصادي" هي أن حصة إسرائيل من "كعكة عوائد السلام" هي بكل وضوح أهم بكثير من تلك التي تمتع بها الأردن. إذ على الرغم من مرور 25 عاماً على معاهدة السلام مع إسرائيل، لم يكن الأردنيون قد حظوا بأي استفادة بعد من الخبرة الإسرائيلية في القطاعات الصناعية التي بدت أرجح للتعاون، مثل الصناعات الخفيفة أو مجالات التقنية.
كذلك لم يستفد الأردن ولو حتى بشكل غير مباشر من تدفقات استثمار أجنبي مباشرة أكبر، وأكثر استدامة. بل على العكس من ذلك، انخفضت هذه التدفقات فعلياً خلال الفترة الأولى لتوقيع المعاهدة، ولم تعاود التعافي سوى في منتصف إلى أواخر العقد الأول من القرن العشرين.
ميزان الفائدة يميل لصالح إسرائيل
على الناحية الأخرى، كانت نتيجة اتفاقية السلام مع الأردن مختلفة تماماً فيما يخص إسرائيل. إذ لم تحرر الاتفاقية إسرائيل فقط من كونها دولة منبوذة في المنطقة، بل جلبت معها تدفقات هائلة من الاستثمار الأجنبي المباشر إلى الداخل، وفتحت آفاقاً تجارية جديدة مع آسيا ودول أخرى كان قد حظر التعامل مع إسرائيل فيها لعقود.
لا تقتصر الصعوبات على المجال الاقتصادي وحده. فقد توصّل الأردن إلى سلام مع إسرائيل بعد مدة وجيزة من إبرام اتفاق أوسلو، في ظل توقعات وقتها بأن يكون هناك حل سريع للصراع الإسرائيلي الفلسطيني. مثّل هذا الحل المأمول أساسَ شرعية مصالحة الأردن مع الدولة العبرية. لكن التطورات اللاحقة، خاصة بعد اغتيال رئيس الوزراء الإسرائيلي إسحاق رابين في عام 1995، اتخذت اتجاهاً مختلفاً تماماً.
إسرائيل دمرت عملية السلام
لقد أخذ الرأي العام الأردني يتعاظم قلقه بسبب عدم إحراز تقدم، بل وحتى الانحدار، فيما يتعلق بالحقوق الفلسطينية. وكانت مشاريع الاستيطان التي أُطلقت في القدس الشرقية مؤذية على نحو خاص، إذ لم يعتبرها الأردن انتهاكاً فحسب لنص وروح اتفاقية أوسلو، بل ولالتزام إسرائيل إزاء الأردن بموجب المادة التاسعة من معاهدة السلام. وقد تسبب هذا في حدوث احتكاكات بين قيادة المملكة والحكومات الإسرائيلية، أخذت تضعف من الثقة المتبادلة بين الطرفين.
أما المجال الوحيد الذي أبدى استقراراً وثقة فهو مجال التعاون الأمني، إذ يبدو أن أجهزة الاستخبارات في البلدين "تنام في أحضان بعضها بعضاً"، تقول هآرتس.
تقول الصحيفة الإسرائيلية إنه لا يمكن للأردن ولا ينبغي له أن يبني مستقبله الاقتصادي، أو حتى حصة كبيرة منه، على العلاقات الاقتصادية مع إسرائيل. إذ حتى إن فتحت الدولة العبرية سوقها للأردن على قدم المساواة مع البلدان الأخرى التي تستورد منها، تظل الحقيقة أن المملكة لديها قاعدة إنتاج محدودة للغاية، ويعاني اقتصادها من انخفاض معدلات نمو الناتج المحلي الإجمالي وارتفاع معدلات البطالة.
التغيير لا يمكن تحقيقه إلا إذا تعقّلت قيادة إسرائيل وشرعت في التوصل إلى سلام عادل ودائم وشامل في المنطقة. خلاف ذلك، قد تؤول الأمور إلى نشاط تجاري أكثر تضاؤلاً، وإحباط سياسي أكثر تفاقماً، وتدهور العلاقات الثنائية بين البلدين عبر نهر الأردن.