"عادت ريما إلى عادتها القديمة"، "كلام الليل مدهون بزبدة"، و "الحداية لا ترمي كتاكيت"، أمثلة مصرية شعبية تنطبق على الوضع الحالي بمصر، بعد تراجع السلطات المصرية عن وعودها بتحقيق انفراجة سياسية وصفتها بالضرورية عقب المظاهرات التي خرجت متأثرة بفيديوهات المقاول محمد علي قبل أسابيع.
ووعد مسؤولون وبرلمانيون مصريون حينذاك بإجراء إصلاحات سياسية، ودعا سياسيون وصحفيون إلى انفتاح السلطات على المعارضة والأحزاب السياسية وإعادة الثقة بين الإعلام والمواطنين، وتبني نهج أقل تشدداً، بدعوى الإصلاح، في حين كان الهدف تهدئة "الشارع".
من هو الجهاز الذي روّج طبخة الإصلاح؟
وضجت القنوات الفضائية، والصحف الورقية، والمواقع الإلكترونية بالحديث عن الانفتاح السياسي، من خلال محاورة سياسيين وإعلاميين وكتاب كانوا محظورين سابقاً، هو الجهاز الذي روج لطبخة الإصلاح، وتصريحات برلمانيين وصحفيين مقربين من دوائر صنع القرار.
وكان مصدر مطلع كشف في وقت سابق لـ "عربي بوست" عن ملامح الانفتاح الذي تمت الدعوة له من "مطبخ" المخابرات العامة، وأن الهدف منه هو "إعادة البرودة في أوصال الشارع المصري، الذي بدأ يغلي ويفور".
مخاوف سبقت الوعود
إلا أن المصدر كشف حينئذ عن وجود رفض لمثل تلك الدعوة بالقول إن الدعوة انطلقت "رغم معارضة بعض القيادات بالسماح بخروج "العفريت من القمقم"، في إشارة إلى أن تخفيف القبضة الأمنية قد يخرج الأمور عن السيطرة.
وتوقَّع المصدر أن "تظلّ قبضة النظام قابضةً على كل مقاليد الأمور، وتحت أعينها، وأن يكون اللجام في يدها للتحكم في أي تمدد في الحالة السياسية أو الاقتصادية أو الحقوقية، مع استمرار تضييق الخناق على التيار الإسلامي بأشكاله كافة".
سر تراجع السلطات المصرية عن وعودها بتحقيق انفراجة سياسية
ولكن سرعان ما تبين أنه حتى هذا الانفتاح الشكلي المحدود مجرد سراب، ولم يحدث أي تغيير.
بل أفادت معلومات خاصة لـ "عربي بوست" بأن يد القمع امتدت لداخل النظام، حيث حدثت إقالات وتغييرات في المناطق التي رأت السلطة أن القمع لم يكن كافياً فيها لمظاهرات 20 سبتمبر/أيلول الماضي.
فيما تتراجع وتيرة الانفتاح الشكلي المحدود التي ظهرت على استحياء خلال الأيام الأولى لفترة ما بعد 20 سبتمبر/أيلول 2019.
التراجع عن الوعود بالانفتاح السياسي دفع نواب البرلمان الأوروبي، الأسبوع الماضي، إلى إدانة السلطات المصرية في مجال انتهاكات حقوق الإنسان، مطالبين بالإفراج عن جميع المتظاهرين المعتقلين البالغ عددهم نحو 4300 متظاهر.
كما نددوا بمقتل نحو ثلاثة آلاف مصري خلال السنوات الماضية من دون محاكمات حقيقية، بينهم أطفال ونساء، مطالبين بوضع حد لجميع أعمال العنف والتحريض ضد المدافعين عن حقوق الإنسان، والصحفيين، والناشطين، والإفراج عن المعتقلين منهم فوراً.
فهل نفضت السلطات المصرية يدها من وعدها السابق، بعد أسابيع من عودة الهدوء للشارع، وجمع المحتجين في مراكز الاحتجاز، والسجون، وإطلاق يد الأمن في اعتقال رموز العمل السياسي والأكاديمي والعمالي، بل والتنكيل بهم؟
ولماذا هذا التراجع، هل كانت مجرد خدعة لتهدئة الرأي العام أم صراعات أجهزة؟
كيف حُسم صراع الصقور والحمائم؟
يقول مصدر مطلع مقرب من دوائر صنع القرار في إعلام النظام المصري لـ "عربي بوست" إن "الدعوة منذ إطلاقها واجهت مقاومة شديدة من قبل معارضين داخل دائرة المقربين من النظام؛ لأن الدولة لن تتحمل نتائج مثل هذا الانفتاح"، حسب قولهم.
وأوضح المصدر أن "ما تشهده الدائرة المقربة من جهات صنع القرار من تجاذبات أو اختلافات في الرأي أحياناً -لصالح النظام وليس لصالح الشعب- أشبه بما يحدث بين جناحي الصقور والحمائم داخل الحزب الواحد المتطرف ".
وأوضح أن "المسؤولين انقلبت سياستهم من قرار إرخاء الحبل إلى شده مجدداً لسببين: أولهما عودة الهدوء إلى الشارع، ثانياً انتصار الجناح الرافض لسياسة إرخاء الحبل، وإعادة الأمور إلى نصابها قبل 20 سبتمبر/أيلول مجدداً".
السادات: أين الوعود؟
هذا التحول أو التراجع عن اتخاذ خطوات فعلية على أرض الواقع في اتجاه الانفتاح السياسي المزعوم لم يكن مفاجئاً لكثير من المراقبين الذين تحدثوا لـ "عربي بوست"، ورأوا فيها أنها كانت محاولة لامتصاص غضب الجماهير، و "تبريد" الشارع.
وتساءل رئيس حزب الإصلاح والتنمية، محمد أنور السادات، في تعليقه على ما شهدته العاصمة المصرية القاهرة من عقد مؤتمرات دولية تتعلق بالأمن والاتصالات والمياه، عن دور القوى الوطنية، قائلاً: "ماذا عن مشاركة القوى الوطنية ممثلة في أحزاب ونقابات ومنظمات المجتمع المدني وغيرهم لمعرفة ما يحدث وإلى أين نحن ذاهبون؟".
وأضاف السادات في بيان له، اطلع "عربي بوست" عليه: "ماذا عن دعوات الاصطفاف الوطني، وتوسيع المشاركة السياسية، وفتح المجال العام فيما يتعلق بملف الحقوق والحريات"، واختتم حديثه: "لماذا التردد؟ ولمصلحة من؟ الرجوع للحق فضيلة".
النظام شعر بالخطر
قال الناشط السياسي في حركة 6 إبريل، محمد نبيل: "للأسف الوعود لم تكن رسمية، وكانت عبارة عن تسريبات صحفية، ورغم حديث عبدالعال "رئيس البرلمان" لم يحدث أي جديد".
وأضاف في حديثه لـ "عربي بوست": أعتقد أن النظام شعر بالخطر بعد مظاهرات 20 سبتمبر/أيلول؛ فقرر وقف أي حديث عن مبادرات لفتح المجال العام، وقرر أن يُكمل على نفس الخط".
ورأى أن "النظام أصبح أكثر قلقاً بعد مظاهرات 20 سبتمبر/أيلول ، واهتزت ثقته في قبضته الحديدية بشدة، خصوصاً في الطغمة الحاكمة حوله".
الإصلاح مرهون بهذه الشروط
قلل رئيس لجنة حقوق الإنسان بمجلس الشورى المصري السابق، عز الكومي، من جدية الوعود قائلاً: "الحقيقة أن السيسي لم يعد بإصلاحات سياسية، هي كانت مجرد دعوات جاءت على لسان الصحفي المقرب من الجيش ياسر رزق ورئيس البرلمان علي عبدالعال الذى طالب بمزيد من حرية الحركة للمعارضة السياسية، وقال إنها "جزء من النظام، وأي أغلبية لن تستمد شرعيتها إلا من تلك المعارضة".
وأضاف في تصريحات لـ "عربي بوست": "لكن أرى أن التصريحات حول الإصلاح السياسي ما هي إلا محاولة لامتصاص حالة الغضب التي سادت الشارع المصري بعد فديوهات محمد علي التي تتهم نظام السيسي وأسرته ورموز حكمه بالفساد، خاصة المؤسسة العسكرية."
رهن الكومي أي إصلاح سياسي "بإلغاء التعديلات الدستورية الآخيرة، بالإضافة إلى الإفراج عن كافة المعتقلين بتهم ملفقة من داخلية الانقلاب وأحكام صادرة من قضاء مسيس".
ورأى أنه "بعد انطفاء جذوة فيديوهات محمد علي، وقمع المظاهرات التى خرجت يومي 20 و27 سبتمبر/أيلول الماضي عاد النظام يُحكم قبضته الحديدية لقمع الشعب والقتل خارج إطار القانون والاختفاء القسري".