نال رئيس النظام السوري بشار الأسد مكاسب مرةً أخرى من القوى العالمية، التي تتخذ تحرُّكاتٍ مُناوِرة في الحروب متعددة الجبهات المندلعة في بلاده. فمن دون إطلاق رصاصة واحدة، عادت قواته إلى بلداتٍ وقرى في شمال شرق سوريا لم تطأها أقدامها منذ سنوات، بحسب تقرير لوكالة Voice of America الأمريكية.
وقال محللون إنَّ الأسد نال مكسباً من قرار الرئيس الأمريكي دونالد ترامب سحب القوات الأمريكية من شمال شرق سوريا، ثم جنى مكسباً آخر من اتفاقٍ أبرِمَ بين تركيا وروسيا، حليفة دمشق.
مكاسب لجميع الأطراف
إذ لم يكن أمام المقاتلين الأكراد، الذين هجرتهم القوات الأمريكية وأصبحوا في وجه المدفع التركي، أي خيار سوى اللجوء إلى نظام الأسد وروسيا لحمايتهم من عدوهم الأول.
ولأول مرة، أصبحت مصالح دمشق وموسكو وأنقرة متوافقةً مع بعضها البعض. إذ قررت تركيا أنَّ وجود قوات الأسد على طول حدودها، بمساعدة روسيا، أفضل من وجود مقاتلين تابعين لقيادة الأكراد الذين تعتبرهم إرهابيين.
لذا أبرم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، يوم أمس الأول الثلاثاء 22 أكتوبر/تشرين الأول، اتفاقاً مع نظيره الروسي فلاديمير بوتين، يسمح لقوات الأسد بالعودة إلى جزء كبير من الأراضي، وضمان بقاء المقاتلين الأكراد خارجها.
وكان الأكراد يأملون في أن يعزز تحالفهم مع واشنطن طموحاتهم إلى الحكم الذاتي، لكنَّهم تُرِكوا الآن وأصبحت أقصى آمالهم أن يتمكنوا من الحصول على تنازلاتٍ من موسكو ودمشق للحفاظ على بعض جوانب حكمهم الذاتي على الأقل.
وقالت لينا الخطيب، رئيسة برنامج الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في معهد تشاتام هاوس، إنَّ تركيا، التي كانت تدعم المعارضة التي تحاول إطاحة الأسد، اعترفت ضمناً بالأسد "اعترافاً فعلياً".
وأضافت: "الأسد وروسيا يريان أنَّ هذا الاعتراف يُمثِّل بدايةً لتطبيع المجتمع الدولي مع نظام الأسد، ودليلاً على انتصارهما في الحرب".
وتجدر الإشارة إلى أنَّ الأسد استخدم هذه الطريقة بنجاحٍ من قبل، إذ صوَّر نفسه على أنَّه أخف الضررين في نظر أولئك الذين كانوا يرغبون في رحيله. فطوال الحرب الأهلية في سوريا، صوَّر الصراع على أنَّه اختيارٌ بينه وبين الجهاديين. ومن ثَمَّ، أسفر خوف واشنطن والحكومات الغربية الأخرى من المتطرفين عن تخفيف حماستهم لتقديم دعمٍ كامل إلى المعارضة، بحسب الصحيفة الأمريكية.
وفي هذا الصدد، قال جو ماكارون، وهو زميل مقيم في المركز العربي في العاصمة الأمريكية واشنطن: "لقد استفاد الأسد من سرديتين: تصوير الانتفاضة السورية على أنَّها حربٌ إقليمية، والتذكير بعدم وجود بديلٍ عملي لحكمه".
ترامب أنقذ الأسد دون أن يشعر
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ سياسة "أمريكا أولاً" التي يتبنَّاها ترامب، مع تحولاتها الفوضوية والمندفعة في بعض الأحيان، كانت بمثابة هبة من السماء للأسد.
ففي العام الماضي 2018، وصف ترامب الأسد بأنه "حيوان"، في أعقاب هجومٍ كيماوي يُشتبه في أنَّ الرئيس السوري نفذه بالقرب من دمشق، فشنَّ غاراتٍ جوية محدودة على سوريا عقاباً له.
لكنَّ الرئيس الأمريكي قال مراراً وتكراراً إنَّه غير مهتم بإزاحة الأسد من السلطة أو إبقاء القوات الأمريكية متورطة في "حروب لا نهاية لها" في "رمال المنطقة المليئة بالدماء". ويبدو أنَّه يُرحِّب بملء روسيا ونظام الأسد للفراغ الذي خلَّفه في سوريا.
وصحيحٌ أنَّ الدعم من روسيا وإيران مكَّن الأسد من التغلُّب على خصومه. فبمساعدة الغارات الجوية التي تشنها القوات الروسية منذ عام 2015، استعاد جيش النظام السوري مدينةً تلو الأخرى من قوات المعارضة، التي تخلَّى عنها معظم حلفائها واستنفدت قوتها، فرضخت مراراً لإبرام اتفاقات مع الأسد سمحت لهما بمغادرة مناطقها المحاصرة عبر ممرٍ آمن إلى الشمال. لكنَّ الاتفاق الروسي التركي ليس خبراً ساراً للأسد من جميع الجوانب.
إذ يسمح لتركيا بالسيطرة على جزءٍ كبير من شمال شرق سوريا، يتمثِّل في حزامٍ من الأراضي طوله 120 كيلومتراً، وعمقه 30 كيلومتراً، أصبح تحت سيطرتها بعد العملية العسكرية الأخيرة، وكذلك تحتفظ تركيا بالفعل بجزءٍ أكبر من الأراضي الحدودية في الشمال الغربي سيطرت عليها في عملياتٍ سابقة.
الأكراد حققوا مكاسب أيضاً
وسوف تنتقل قوات النظام السوري إلى بقية المنطقة الحدودية. باستثناء قطاعٍ يقع على الحدود مباشرةً، سيشهد تنظيم دورياتٍ مشتركة بين القوات الروسية والتركية، مع وجود عددٍ محدود فقط من قوات "حرس الحدود" السورية.
بينما سيتبقى جزءٌ كبير من شرق سوريا تحت سيطرة المقاتلين التابعين للأكراد، ويشمل ذلك الجزء الأكبر من حقول النفط السورية، مما سيحرم دمشق من السيطرة على مورد حيوي ويمنح الأكراد ورقة مساومة كبيرة. وقد قال ترامب إنَّ بعض القوات الأمريكية ستبقى هناك لمساعدة الأكراد في "تأمين" حقول النفط.
وقال ماكارون: "بالنظر إلى الأماكن التي كانت واقعة تحت سيطرة النظام قبل بضعة أشهر، يتضح أنَّه يوسِّع سيطرته"، لكنَّه مضطرٌ إلى التعايش مع وجود خصومه على أرضه، ومع أنَّ روسيا ستمنع اندلاع أي مواجهة معهم.
وعلى الصعيد السياسي، أوضحت الصور التي نُشِرت يوم الثلاثاء لأردوغان وبوتين وهما يتأملان في بعض الخرائط، ويرسمان مستقبل شمال سوريا، مدى عدم أهمية دمشق في المفاوضات.
وربما تعمَّد الأسد زيارة المناطق التي استعادها جيشه من المعارضة في محافظة إدلب، التي كانت آخر معاقلها في سوريا، للمرة الأولى من أجل غرضٍ ما. وعرض التلفزيون الحكومي الأسد وهو يُحيِّي القادة العسكريين، ويشاهد الجنود وهم يطلقون نيران المدفعية. وتحدث عن حشد "مقاومةٍ شعبية" ضد تركيا، "لطرد الغزاة عاجلاً أم آجلاً"، بحسب الصحيفة الأمريكية.
لكنَّ الاتفاق الجديد جعل إجراء أي عملية عسكرية سورية ضد القوات التركية أمراً شبه مستحيل.
لذا فمن المرجح أن ينتظر الأسد خروجهم، ويناوِر للحصول على فرصةٍ من أجل استعادة بقية الأراضي السورية.
وليس من المستبعد تماماً إبرام صفقةٍ سياسية تُحقِّق له ذلك في وقتٍ ما. إذ كان الأسد وأردوغان تربطهما علاقة عمل وثيقة. ففي عام 2004، أصبح الأسد أول رئيس سوري يزور أنقرة، مما ساعد في تجاوز عقود من العداوة، بسبب النزاعات الإقليمية وموارد المياه، ودعم دمشق آنذاك للانفصاليين الأكراد في تركيا.
ثم بدلت تركيا موقفها ودعمت قوات المعارضة في الحرب الأهلية في سوريا، لكنَّه في السنوات الأخيرة أصبح أكثر اهتماماً بتجنيد فصائل المعارضة لمحاربة الأكراد. وفي العام الماضي، أشارت أنقرة إلى أنها ستفكر في العمل مع الأسد مرةً أخرى إذا فاز في انتخاباتٍ حرة نزيهة.
والآن، أصبحت تركيا تأتمن الأسد على جزءٍ من الأراضي الواقعة على حدودها.
وكذلك خَلُصت بلدانٌ أخرى إلى أنَّها لا تملك خياراً آخر.
إذ تزداد المطالبات من بعض الدول العربية لإعادة ضم سوريا إلى الجامعة العربية. فيما أعادت دولة الإمارات العربية المتحدة فتح سفارتها في دمشق، وهي أبرز مبادرة عربية حتى الآن تجاه نظام الأسد، وجاءت بتنسيقٍ شبه مؤكَّد مع المملكة العربية السعودية. ثم حذت البحرين حذو الإمارات في اليوم التالي.
وكذلك تأمل دول الخليج السنية كبح عدوتها الشيعية إيران، التي شهدت نفوذها يتوسع بسرعة في حرب سوريا.
وقالت لينا الخطيب: "سيستغل الأسد التطورات في شمال شرق سوريا، لمواصلة اتِّباع استراتيجيته المتمثلة في تقديم نفسه على أنَّه السلطة الفعلية الرابحة في سوريا، التي لا يملك المجتمع الدولي بديلاً لها سوى التعاون مع الجماعات المتطرفة".