منذ أن أُجريت آخر انتخابات فلسطينية عام 2006 وحدث ما حدث من انقسام بين حركة فتح بالضفة و "حماس" في غزة، والحديث لا يتوقف عن ضرورة إجراء الانتخابات، ولكن لا بد من أن تسبقها المصالحة بين الفصيلين، فهل هناك جديدٌ هذه المرَّة وراء إعلان الرئيس محمود عباس المضي قدماً في إجراء الانتخابات؟ وما فائدة تلك الانتخابات للفلسطينيين الذين يعانون من الاحتلال؟
موقع لوب لوغ الأمريكي نشر تقريراً حول قصة الانتخابات الفلسطينية، أعده يوسف منيّر، وهو باحث غير مقيم بالمركز العربي في واشنطن، بعنوان: "عباس يدعو إلى انتخابات، لكن هل ستُجرى؟".
عباس يبدو مصمماً هذه المرَّة
قبل الخطاب الأخير الذي ألقاه رئيس منظمة التحرير الفلسطينية محمود عباس، بالجمعية العامة للأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول، قالت تقارير إنه سيطلب مساعدة دولية وحماية للانتخابات البرلمانية الفلسطينية. وبالفعل أصدر عباس هذا الإعلان خلال خطابه، وتعهد بالدعوة إلى إجراء انتخابات فور عودته من نيويورك، قائلاً: "سأدعو إلى إجراء انتخابات عامة في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس، وكل من يعارض هذه الانتخابات سيحاسَب أمام الله والمجتمع الدولي، والتاريخ".
وحين عاد عباس إلى فلسطين، أعلن لأول مرّة عن نيته المضي قدماً بالانتخابات، في اجتماع مع اللجنة المركزية لحركة فتح، في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، وكرَّر الدعوة في 3 أكتوبر/تشرين الأول، باجتماع اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، مشيراً إلى أن قضية الانتخابات التشريعية تأخرت كثيراً رغم الجهود المتكررة التي بذلتها منظمة التحرير الفلسطينية لجعلها حقيقة واقعة.
وفي 7 أكتوبر/تشرين الأول، أمر عباس رئيسَ لجنة الانتخابات، حنا ناصر، بالبدء في الاستعدادات للانتخابات التشريعية، وفضلاً عن ذلك، جدد صائب عريقات، أمين سر اللجنة التنفيذية لمنظمة التحرير الفلسطينية، الدعوة إلى المساعدة الدولية، لضمان إجراء الانتخابات، في اجتماعه مع ممثلي الأمم المتحدة.
ما الدوافع وراء التحرك المفاجئ؟
لفهم الدافع وراء التحرك المفاجئ نحو الانتخابات بشكل أفضل، من المهم فهم الملابسات التي أوصلتنا إلى هذه المرحلة. نتجت السلطة الوطنية الفلسطينية عن اتفاقيات أوسلو للسلام، وكان من المفترض أن تؤدي دور الحكومة المؤقتة إلى أن تتشكل الدولة، وهي المرحلة التي ستصبح عندها الحكومةَ السيادية َ لدولة فلسطين. وهذا، بالطبع، لم يحدث قط.
ولكن ما حدث هو أن السلطة الوطنية ظلت في طي النسيان، ولا تتمتع بسلطة فعلية كبيرة فيما يتعلق بالأمور السيادية، ولكنها تتمتع بالسلطة في بعض المسؤوليات الإدارية التي تخص السكان الفلسطينيين الذين يرزحون تحت الاحتلال، وكان من نتائج هذه الاتفاقيات أيضاً التخلص من المؤسسات الفلسطينية السابقة لتشكيل مؤسسات جديدة.
مرحلة ما بعد أوسلو
في السابق، كانت منظمة التحرير الفلسطينية تجاهد للاحتفاظ بشعار "الممثل الشرعي الوحيد للشعب الفلسطيني"؛ لكن الآليات التي يتجدد من خلالها التمثيل الشرعي ويُعبّر عنه في منظمة التحرير الفلسطينية، أصبحت بلا جدوى بعد تولي منظمة التحرير الفلسطينية قيادة السلطة الوطنية الفلسطينية. وأصبح من الضروري الآن ابتكار آليات جديدة لتجديد التمثيل الشرعي والتعبير عنه، ومن بين هذه الآليات انتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني، وهو الهيئة التشريعية والبرلمانية لدولة فلسطين المتمركزة بالكامل في الأرض المحتلة. وحلَّ هذا المجلس محل المجلس الوطني الفلسطيني الذي كان قائماً، أو على الأقل أصبح ينافسه. والمجلس الوطني الفلسطيني هو الهيئة التمثيلية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ولم يكن مقتصراً من الناحية الجغرافية على الأراضي المحتلة، وإنما امتد أيضاً إلى مجتمعات الشتات الفلسطينية والفلسطينيين في المنفى.
لكن انهيار هذه المؤسسات أمر مهمٌّ، لأنه أثر في شرعية القيادة، ورغم أنها ما تزال تزعم أنها تمثل المصالح الوطنية الفلسطينية على طاولة المفاوضات، حيث من المفترض أن تناقش حقوق مجموعة كبيرة من أصحاب المصلحة الفلسطينيين، ستحصل القيادة الفلسطينية -في أحسن الأحوال- على تفويض من جزء من أصحاب المصلحة الذين تدَّعي أنها تمثلهم من حين إلى آخر. بدأ هذا التوتر بالفعل في خلق أزمة شرعية للقيادة الفلسطينية، تلك الأزمة التي تفاقمت مع استمرار مفاوضات أوسلو، التي اتضح أنها لا تقدم سوى القليل للفلسطينيين، خاصةً اللاجئين الفلسطينيين ومواطني إسرائيل.
انقسام داخلي
وما زاد من تعقيد أزمة الشرعية هذه، كان الانتخابات التشريعية التي أُجريت عام 2006 والتي أدت إلى انقسام سياسي داخل آخر، ففي تلك السنة وللمرَّة الأولى، قررت حركة "حماس" خوض انتخابات المجلس التشريعي، وهي لم تفعل ذلك في انتخابات المجلس التشريعي السابقة. ولكن "حماس" لم تخض انتخابات عام 2006 فحسب، بل تمكنت من السيطرة على المجلس التشريعي بعدها. وما كان يعنيه هذا هو أن قيادة "حماس" أصبح بإمكانها تشكيل حكومة السلطة الوطنية الفلسطينية، رغم أن من يرأس السلطة الوطنية الفلسطينية كان منافسها السياسي الذي انتُخب قبل عام، (عام 2005)، بعد وفاة رئيس منظمة التحرير الفلسطينية القديم ياسر عرفات.
عباس اختار واشنطن وليس "حماس"
كانت نتيجة انتخابات عام 2006 تعني أنه ينبغي لعباس اتخاذ قرار حاسم: هل يخاطر بعلاقاته مع واشنطن ويتعاون مع "حماس" لتصل إلى الحكم، أم أنه سيعارض "حماس" ويخاطر بتحطيم النسيج السياسي الضعيف بالفعل في المجتمع الفلسطيني المحتل؟ لقد اختار الطريق الثاني. ونتيجة لذلك، حين بدأت القوى الغربية في خنق المجلس التشريعي الفلسطيني الذي تقوده "حماس"، ازداد العداء بين "فتح" و "حماس"، وبلغ ذروته بالقتال في غزة عام 2007. وقد أدى ذلك إلى انقسام سياسي في السلطة الفلسطينية، أدارت فيه "حماس" أحد جوانبها في غزة، زاعمةً أنها تستمد شرعيتها من صناديق الاقتراع، في حين أدار عباس و "فتح" الجانب الآخر برام الله.
وهذا الانقسام الذي استمر منذ ذلك الحين، أضعف الفلسطينيين وتسبب في انعدام الثقة والعداء بين الفصائل المتناحرة. ورغم مساعي المصالحة المتعددة، لم يكن من الممكن تحقيق مصالحة سياسية حقيقية، كما أن التقسيم الجغرافي بين الضفة الغربية وغزة زاد الأمور تعقيداً.
تراجع الثقة بالسلطة
وبينما يتكشف هذا السيناريو، ظل عباس في منصبه منذ عام 2005 لولايةٍ مدتها أربع سنوات، استمرت 14 عاماً. وانتهت مدة ولاية أعضاء المجلس التشريعي كذلك، رغم أن البعض قد يقول إنهم لم تُتَح لهم فرصة حقيقية للعمل في هذه الفترة من الأساس، بسبب تقسيم السلطة الوطنية الفلسطينية عام 2007. وتضاءلت شرعية كل من رئاسة السلطة الوطنية الفلسطينية والبرلمان بمرور السنوات، لأن أمل الفلسطينيين في مشروع بناء الدولة، الذي كان من المفترض أن تنفذه هذه السلطة، أصبح ضعيفاً. ثم في ديسمبر/كانون الأول عام 2018، أصدرت المحكمة الدستورية العليا حكماً يحلُّ البرلمان ويدعو الرئيس إلى إعلان الانتخابات في غضون ستة أشهر.
وقد أنشأ محمود عباس هذه المحكمة في أبريل/نيسان عام 2016، بعد مرور عقد على قانون دعا إلى إنشائها. وينظر إليها كثيرون على أنها شديدة الولاء لعباس، وأنها مؤسسة يمكن الاعتماد عليها لتلبية احتياجاته. وكان تشكيل المحكمة واستغلالها لتهميش الخصوم السياسيين موضع انتقادات من جانب جماعات حقوق الإنسان الفلسطينية.
والآن يبدو أن عباس يتحرك لتنفيذ حكم المحكمة -الذي ربما يكون هو نفسه قد سعى إلى إصداره- والموعد النهائي الذي حددته المحكمة نفسها فات بالفعل.
هل يمكن إجراء الانتخابات؟
إذا ذهب الفلسطينيون إلى صناديق الاقتراع اليوم، فماذا ستكون النتيجة؟ الإجابة على هذا السؤال ليست مطمئنة كثيراً لعباس وحلفائه السياسيين، إذ إن استطلاعاً لآراء الفلسطينيين يخبرنا بأن فوز عباس في الانتخابات بعيد عن أن يكون شيئاً أكيداً. في الواقع، يشير آخر استطلاع للرأي أُجري قبل أقل من شهر، إلى أن 61% يرغبون في أن يستقيل عباس، في حين يريد 35% فقط بقاءه بمنصبه. وحين وضعه في مقارنة مباشرة مع إسماعيل هنية، رئيس حركة حماس، فيما يتعلق بالرئاسة، حصل عباس على نحو 48% وهنية على 46%.
وعلى الجانب البرلماني، يبدو أن الصورة أكثر تفاؤلاً لحركة فتح التي يتزعمها عباس، والتي حصدت 38% من الأصوات، في حين حصلت "حماس" على 29% فقط من الأصوات. وتجدر الإشارة أيضاً إلى أن نحو 23% من المشاركين لم يحسموا أمرهم بعد. وفضلاً عن ذلك، كان أحد الدروس المهمة لانتخابات عام 2006، أنه في عديد من المنافسات، كانت الأصوات الفلسطينية تتأثر بالمرشحين الفرديين والمنافسات في مناطق معينة أكثر من تأثرها بقوائم المرشحين نفسها. ولا يمكن أن يشعر عباس بأن الانتخابات ستحقق له ولحزبه فوزاً ساحقاً بأي حال، حين ينظر إلى هذه الأرقام. وتعارض الأغلبية الساحقة من الفلسطينيين فكرة إجراء انتخابات برلمانية دون انتخابات رئاسية، إذ يقول 72% منهم إنهم يريدون انتخابات رئاسية وبرلمانية معاً.
نقاط اختلاف قائمة
ورغم هذه الأرقام، التي لا يمكن الوثوق بها، قد لا يضطر عباس إلى القلق كثيراً، لأنه من الصعب أن نرى إجراء انتخابات فعلياً وعملياً، إذ لم تُسَد الفجوة بين الضفة الغربية وغزة. وقالت "حماس" إنها تريد انتخابات برلمانية ورئاسية في الضفة الغربية وغزة والقدس المحتلة. ولا يبدو واضحاً أن عباس يريد انتخابات رئاسية في الأساس. لذا، ما لم يحدث اتفاق على هذه النقاط، فإن التقدم فيها سيكون صعباً للغاية.
علاوة على ذلك، سيتطلب انعدام الثقة بين الطرفين اتفاقات بشأن إدارة انتخابات حرة ونزيهة، وسيمثل هذا أيضاً تحدياً. وأخيراً، تريد جميع الأطراف الفلسطينية تضمين القدس الشرقية المحتلة، حيث يعيش نحو 340 ألف فلسطيني، في التصويت، لكن من المستبعد أن تسمح إسرائيل بذلك.
لذلك، ما لم تُجرَ انتخابات لكل من الرئاسة والبرلمان وبصورة حرة ونزيهة في غزة والضفة الغربية والقدس، فمن المحتمل ألا تحدث. ولأن جميع من يعنيهم الأمر، ومن ضمنهم الإسرائيليون، سيتعين عليهم التعاون ليصبح إجراء الانتخابات ممكناً. ونظراً إلى انعدام الثقة الكبير بين جميع الأطراف، فسيلزم تنسيق بعض المساعي الخارجية لدفعهم في هذا الاتجاه. وسيتعين على واشنطن أن تتدخل، ولكن يبدو أن إدارة ترامب لا تهتم بذلك بتاتاً. وهذا يعني أنَّ فرص إجراء الانتخابات من ضئيلة إلى منعدمة، وأن هناك أطرافاً مختلفة تتحمل مسؤولية مثل هذا الاحتمال.
وبدراسة الإشارات التي تقول إن الدعوة إلى انتخابات لن تتحقق، وبعدها لوم الآخرين حين لا تتحقق، حتى لو قال إن "الله والمجتمع الدولي والتاريخ" سيحاسبهم، يمكن أن يحاول عباس تجديد ولايته، لا من خلال صندوق الاقتراع، ولكن بحجة أن خصومه وغيرهم جعلوا هذا المسار مستحيلاً.
وهذا ليس موقفاً جديداً بالطبع، فلطالما أعلن كل من عباس و "حماس" استعدادهما لإجراء الانتخابات، لكنهما أخفقا دوماً في اتخاذ الخطوات اللازمة لتنفيذها. وثمة جولة أخرى من لعبة اللوم تتبع ذلك عادةً، ثم يعود كل منهما إلى سجنه الخاضع للسيطرة الإسرائيلية، بعد إنهاء المحادثات عن الانتخابات فترة أخرى من الوقت.
ولكن هل يمكن أن يكون ثمة شيء جديد هذه المرَّة؟
ليس سراً أن من سيخلف عباس سؤال مفتوح في السياسة الفلسطينية، إذ إن عباس آخر من تبقَّى من أعضاء منظمة التحرير الفلسطينية القدامى، يبلغ من العمر 84 عاماً. ومشروعه المميز، وهو إقامة دولة فلسطينية عبر مفاوضات تتوسط فيها واشنطن، أبعد ما يكون عن الواقع اليوم أكثر من أي وقت مضى، في التاريخ الحديث.
والفلسطينيون متعطشون حقاً إلى قيادة جديدة، لكنهم يتوقون أيضاً إلى رؤية جديدة للمضي قدماً في مشروع التحرر الوطني. وبالنظر إلى سنّ عباس والمشاكل الصحية العرضية التي يتعرض لها، قد يجد الفلسطينيون أنفسهم في موقف، دون إخطار مسبق، تكون فيه القيادة فارغة. قد توحي هذه الحقيقة بأنَّ حل البرلمان من قِبل المحكمة التي شكَّلها عباس يتعلق بتوضيح التساؤلات حول من سيخلف عباس أكثر من تعلُّقه باتجاه البلاد نحو إجراء انتخابات.
من الناحية الفنية، إذا أصبح الرئيس عاجزاً، فسيصبح رئيس المجلس التشريعي الرئيسَ المؤقت. وكان عزيز الدويك، الذي ينتمي إلى حركة حماس، هو آخر رئيس للمجلس التشريعي الفلسطيني. ولكن بعد قرار المحكمة الدستورية العليا حلَّ المجلس التشريعي الفلسطيني، من الواضح أن هذا المنصب أيضاً خالٍ الآن. وإذا لم تحدث الانتخابات، وهو الأمر المحتمل، فقد يسعى عباس إلى استخدام المحكمة لإضفاء الشرعية على مناورة بديلة، لوضع خطة عمَّن يخلفه في هذا الظرف الاستثنائي الذي حُلّ فيه البرلمان، ولا يمكن إعادة انتخابه. أما كيف ستبدو هذه العملية بالضبط؟ ومن قد يسعى عباس لترشيحه خليفة له؟ فلم يتبين بعد.