يبدو أن ثورة يناير/كانون الثاني 2011 هي "الشماعة" التي سيظل الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي يعلق عليها كل حالات الفشل في ملفات الأمن القومي، وأهمها وأبرزها ملف سد النهضة الإثيوبي الذي يهدد مصر بالعطش، فما حقيقة ما قاله الرئيس؟
ماذا قال الرئيس؟
"لو مكنش 2011 (في إشارة إلى ثورة 25 يناير) كان هيبقى فيه اتفاق قوي وسهل يراعي مصلحة الطرفين.. لكن لما البلد كشفت ضهرها -وأنا آسف- وعرَّت كتفها.. فأي حاجة تتعمل بقى (أي إنها أصبحت فريسة سهلة لكل من يريد أن يتلاعب بها)".
هذا التوصيف جاء على لسان السيسي في احتفالية بمناسبة الذكرى الـ46 لحرب أكتوبر/تشرين الأول، وهي المرة الثانية التي يلقي فيها الرئيس باللوم على ثورة يناير في تمكُّن إثيوبيا من بناء سد النهضة دون مراعاة مصلحة مصر وأمنها المائي، وهو ما وصفه السيسي نفسه من على منبر الأمم المتحدة، في سبتمبر/أيلول الماضي، بأنه "مسألة حياة أو موت".
متى كانت المرة الأولى؟
المرة الأولى كانت يوم 14 سبتمبر/أيلول الماضي، في أثناء مؤتمر للشباب عقده السيسي للرد على فيديوهات الفنان والمقاول المصري محمد عليّ الذي وجه اتهامات بالفساد إلى الرئيس وأسرته، وقال يومها: "لم نكن مستعدين عام 2011 لمواجهة التطورات الكبرى التي وقعت.. البلد تحركت صحيح، لكن السد كان قد أقيم بالفعل.. وأوكد هنا أن الشباب الطاهر الذي قاد الحراك أراد مصلحة البلاد".
وأضاف أن "البلاد تدفع -وستظل تدفع- ثمن ذلك الخطأ الوحيد (ثورة يناير 2011)"، في إشارة إلى سد النهضة.
ماذا قال السيسي نفسه عن ثورة يناير قبل أن يصبح رئيساً؟
قبل انتخابه رئيساً عام 2014، وتحديداً في 3 مايو/أيار، أجرى السيسي لقاء تلفزيونياً حاوره فيه إبراهيم عيسى ولميس الحديدي، وردَّ فيه على سؤال عن موقفه من ثورة يناير بقوله: "نحن نعيش للأسف حالة تشكيك في كل حاجة كويسة (جيدة)".
السيسي كان يتحدث بتحفُّظ عن ثورة يناير في بداية فترته الرئاسية الأولى، وكان يمزج بينها وبين أحداث 30 يونيو/حزيران 2013، التي انتهت بانقلاب عسكري قاده الجنرال، الذي كان حينها وزيراً للدفاع، على أول رئيس مدني منتخب ديمقراطياً في العصر الحديث بتاريخ البلاد وهو الرئيس الراحل محمد مرسي. لكنه تخلى عن تحفظه في سبتمبر/أيلول، وخرج عن الأعراف الدبلوماسية في حديثه الأخير، واستخدم تشبيهاً أثار ضجة على وسائل التواصل الاجتماعي؛ لما فيه من "إيحاء جنسي" مُهين للبلد الذي يتولى رئاسته.
ما حقيقة موقف مصر من سد النهضة؟
ولكن بعيداً عن موقف السيسي والنظام المصري من ثورة يناير، نجد أنه بالعودة إلى الاتفاقية الوحيدة التي تم توقيعها بين مصر والسودان وإثيوبيا بخصوص سد النهضة، وكان ذلك يوم 23 مارس/آذار 2015- يتضح أن الموقف مغاير تماماً لما أعلنه الرئيس، وأن ثورة يناير بريئة من الموقف الذي وصلت إليه الأمور.
الدكتور أحمد المفتي، العضو المستقيل من اللجنة الدولية لسد النهضة الإثيوبي وخبير القانون الدولي، قال بعد أيام من توقيع "اتفاق المبادئ" الذي وقَّعه السيسي وعمر البشير وهيلاماريام ديسالين (رئيس وزراء إثيوبيا وقتها)، إنه "أدى إلى تقنين أوضاع سد النهضة، وحوّله من سد غير مشروع دولياً إلى مشروع قانونياً".
وأضاف المفتي، المستشار القانوني السابق لوزير الري، في حوار لـ "المصري اليوم"، أن الاتفاق أسهم في تقوية الموقف الإثيوبي بالمفاوضات الثلاثية، ولا يعطي مصر والسودان نقطة مياه واحدة، وأضعف الاتفاقيات التاريخية، موضحاً أنه تمت إعادة صياغة اتفاق المبادئ بما يحقق المصالح الإثيوبية فقط، وحذف الأمن المائي، وهو ما يعني ضعفاً قانونياً للمفاوضَين المصري والسوداني.
وتابع المفتي: "المشروع الإثيوبي كشف عن تقصيرٍ مصري سوداني 100%، لأن البلدين تجاهلا أن أساس أي مشروع مائي على الأنهار الدولية المشتركة يعتمد على المدخل القانوني، وتقدير الوزن القانوني قبل الشروع في تنفيذ المشروع".
وسائل التواصل الاجتماعي حائط الصد الأخير
هذه الحقيقة المتمثلة في "إعلان المبادئ" الذي وقعه الرئيس المصري، وأيضاً الموقف الغريب الذي قام به العام الماضي في مؤتمر صحفي مع رئيس وزراء إثيوبيا آبي أحمد، عندما طلب من الأخير أن يقسم أمام الصحفيين، قائلاً: "والله ما هضرّ مصر"، لا تجد صدى في التغطية الإعلامية المصرية حول تطورات موقف سد النهضة، حيث يسيطر النظام المصري على وسائل الإعلام ويفرض عليها رقابة صارمة.
ومن ثم يلجأ البعض إلى وسائل التواصل الاجتماعي لنشر بنود "إعلان المبادئ"، ومحاولة توثيق الحقيقة وتبرئة الثورة من الفشل في أهم ملفات الأمن القومي المصري، في حين تركز الحكومة ووسائل الإعلام على إيجاد بدائل، متمثلة في إنفاق مليارات على تحلية مياه البحر وإعادة استخدام المياه، وهي الرسالة التي أكدها السيسي أيضاً.
تعذيب النشطاء يؤكد العداء للثورة
وتزامن تصريح السيسي بشأن الثورة، مع تعرُّض اثنين من أبرز رموزها الشباب -وهما علاء عبدالفتاح وإسراء عبدالفتاح- للتعذيب داخل معتقلات النظام، بحسب محامي كلٍّ منهما. علاء تعرَّض للضرب والتعذيب والإهانة، وتم تحذيره وتهديده إذا تحدَّث عما تعرض له أمام النيابة، لكنه تحدَّث بالتفصيل وفي حضور محاميه، الذين نشروا كلامه على وسائل التواصل الاجتماعي.
وبالطريقة نفسها تم الكشف عن تعرُّض إسراء عبدالفتاح للتعذيب، وأنها دخلت في إضراب عن الطعام؛ اعتراضاً على ما تتعرض له، وذلك في أثناء عرضها على النيابة العامة، للنظر في تجديد حبسهان وهو ما تم بالفعل.
اللافت أن علاء عبدالفتاح تعرَّض للاعتقال رغم أنه لم يشارك ولم يدعو إلى التظاهر في احتجاجات سبتمبر/أيلول، والأمر نفسه ينطبق على إسراء عبدالفتاح والناشطة الحقوقية ماهينور المصري والأكاديمي حسن نافعة وغيرهم من رموز ثورة يناير، حيث يواصل النظام المصري استهدافه كل من شارك في الثورة، وذلك بعد نحو ثماني سنوات، وهو ما جعل البعض يسميها "الكابوس" الذي يخشاه الرئيس عبدالفتاح السيسي.
السيسي نفسه كرر أكثر من مرة وفي أكثر من مناسبة، أن ما حدث في 2011 (يقصد ثورة يناير) لن يتكرر مرة أخرى بمصر، وهذا ما يفسر حملة القمع الجديدة التي شهدتها البلاد في سبتمبر/أيلول الماضي، بعد وصول الغضب الشعبي لدرجة خطيرة مع تصريح الرئيس بأنه "يبني قصوراً رئاسية وسيواصل بناء مزيد منها"، وهو ما جعل شريحة جديدة من أبناء الطبقة الكادحة يخرجون للاحتجاج الجمعة والسبت 20-21 سبتمبر/أيلول، ويطالبون السيسي بالرحيل.
الجمعة التالية شهدت تحركات متوترة من جانب النظام، حيث تم حشد بعض موظفي الدولة رافعين شعارات التأييد للسيسي، وانتشرت قوات الشرطة والجيش في القاهرة وعلى الطرق السريعة بصورة مكثفة، وتم اعتقال أكثر من ألفي شخص، لمنع أي تظاهرات احتجاجية، وتزامن مع ذلك اعتقال من تبقوا من رموز ثورة يناير والزج بهم في السجون.
واتخذ السيسي بعض الإجراءات لتخفيف الاحتقان مثل إعادة تفعيل مليوني بطاقة تموينية (لصرف بعض السلع الأساسية المدعومة جزئياً، خصوصاً الخبز)، وتخفيض لتر البنزين 25 قرشاً للتر (نحو ما يزيد قليلاً على سنت وربع)، ويظل السؤال: هل تفلح تلك الإجراءات في تأدية الغرض منها في ظل تصريحات الرئيس، التي غالباً ما تسبب مزيداً من الاحتقان، وآخرها تصريح "تعرية الظهر والكتف"؟