أسفر قرار دونالد ترامب بمنح تركيا الضوء الأخضر لدخول شمالي سوريا عن سيل انتقاداتٍ من العواصم الأوروبية للجمهوريين في واشنطن. إذ أشارت تلك العواصم حسب تعبيرها، إلى أنَّ "تحرُّك أنقرة سيُعيد إحياء تنظيم الدولة الإسلامية (داعش)، ويتسبب في مقتل عددٍ لا حصر له من المدنيين، ويُكسِب الولايات المتحدة سمعةً دائمةً بوصفها حليفاً غير موثوق في كافة أنحاء الشرق الأوسط".
تقول صحيفة The Guardian البريطانية: لكن الغرب بدأ يفقد جاذبيته داخل سوريا على مدار العامين الماضيين، وربما يكون رد فعل روسيا وإيران، اللتين تمتلكان قوات على الأرض هو أكثر ما يُثير قلق الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، إذ إنَّ ردود أفعالهما قد تكشف الكثير أيضاً عن مستقبل الحرب السورية المُستمرة منذ ثماني سنوات على المدى البعيد. وحتى الآن، طالبت طهران وموسكو أردوغان بضبط النفس، لكنَّهما ستشهدان فرصاً وسط الفوضى الناجمة عن "تهوُّر ترامب".
فرصة بوتين الذهبية
تقول الغارديان، بكل بساطةٍ سيرى الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، الذي يسعى لترسيخ نفوذ روسيا داخل الشرق الأوسط، في تلك الفوضى، فرصةً لاستغلال خيانة ترامب للأكراد، الذين كانوا بمثابة كبش فداء الولايات المتحدة الدامي في الحرب ضد داعش. والدرس هنا واضح: إذ سيجادل بوتين بأنَّه حين تتأزَّم الأمور لن تحمي الولايات المتحدة ظهرك، وعلى الرياض أن تعي الدرس جيداً.
لكن بوتين يرغب أيضاً في إنهاء الحرب السورية، فمع خروج الولايات المتحدة من المشهد ربما يُحاول صياغة "صفقة القرن" الخاصة به، بين أردوغان والنظام السوري والأكراد.
ومنذ نشر الجنود الروس في سوريا لدعم الرئيس بشار الأسد عام 2015، بدأت روسيا تنتزع العملية السياسية من الغرب تدريجياً. إذ أجبرت مثلاً مبعوثي الأمم المتحدة على الرضا بمحادثات أستانا، وهو المقترح الذي وضعه بوتين من أجل مستقبل سوريا لتحدِّي الأمم المتحدة، وقد نجح في كبح جماح الجميع بالتزامن مع إحراز روسيا والأسد لانتصارات عسكرية ضد قوات المُعارضة.
"منجزات" دبلوماسية روسية
لكن محادثات أستانا -التي شملت إيران وتركيا وروسيا- أدَّت على نحوٍ مُتقطِّع إلى إنشاء "اللجنة الدستورية السورية" المدعومة من قبل الأمم المتحدة، وهي الفكرة التي اقترحها بوتين لأول مرة في يناير/كانون الثاني عام 2018. والهدف من الفكرة هو كتابة دستورٍ جديد لسوريا، والتحضير للانتخابات.
وأعلن غير بيدرسون، المبعوث الأممي إلى سوريا، عن اللجنة رسمياً في الـ23 من سبتمبر/أيلول الماضي. وزعم بيدرسون أنَّ اللجنة تُمثِّل "أول اتفاقٍ سياسيٍّ ملموس" بين الحكومة من ناحية، وبين جماعات المُعارضة من ناحيةٍ أخرى، مما "يدُلُّ على قبولٍ واضح للحوار مع الطرف الآخر".
وتتألَّف اللجنة من 150 عضواً، مُقسَّمين بالتساوي بين حكومة الأسد، وبين المُعارضة والمجتمع المدني السوري. وسيرأس هادي البحرة المُعارضة، ومن المُقرَّر أن تعقد اللجنة أولى جلساتها داخل مقر الأمم المتحدة في جنيف يوم 30 أكتوبر/تشرين الأول الجاري.
وبحسب الغارديان، يُشارك ممثِّلون أكراد مُستقلون على علاقةٍ بالمعارضة في اللجنة، لكنها تجاهلت دعوة "وحدات حماية الشعب"، وأدَّى هذا الإقصاء إلى اندلاع احتجاجاتٍ أمام مكاتب الأمم المتحدة في مدينة القامشلي شمالي سوريا.
وقال الأسد إنَّه لم يكُن مُستعداً لرؤية من يعتبرهم انفصاليين من "حزب العمال الكردستاني" -المرتبط بـ "وحدات حماية الشعب"- يُشاركون في المحادثات، نظراً لأنَّه يعتبرهم تهديداً لسلامة الأراضي السورية.
كيف سيستفيد بوتين من العملية العسكرية التركية؟
لكن اللجنة الدستورية هي من بنات أفكار بوتين، وبالتالي لن يرغب في تعرُّضها للتهديد نتيجة القتال في شمال شرقي سوريا. وبدلاً من ذلك سينظر فيما إذا كانت العملية العسكرية التركية ستخلق فرصة لصياغة مصالحةٍ "غير محتملة" بين الأكراد وبين النظام السوري.
وجادل بعض الأكراد السوريين الذين شهدوا الإشارات المُتراكمة على أنَّ ترامب سيتخلَّى عن وعده لهم، بأنَّ أمنهم مُستقبلاً يكمُن في التوصُّل إلى نوعٍ من المُصالحة مع دمشق، على أساس دولةٍ "سورية فيدرالية". وقال مظلوم كوباني، قائد "قوات سوريا الديمقراطية" التي غالبيتها من الأكراد، الأسبوع الماضي: "نحن نُفكِّر في شراكةٍ مع الرئيس السوري بشار الأسد، بهدف قتال تركيا".
ولم يقل بوتين الكثير حتى الآن، بالتزامن مع سعيه للجمع بين الكثير من الأضداد. إذ اتصل هاتفياً بأردوغان لحثِّه على "التفكير ملياً في الوضع، حتى لا يضرَّ الجهود الكلية المبذولة لحل الأزمة السورية".
وفي الوقت ذاته لن يرغب بوتين في الإساءة إلى أردوغان بالاعتراض على العملية، أو التشكيك في المخاوف التركية بشأن إرهاب التنظيمات الكردية على الحدود التركية السورية. إذ أمضى الفترة الماضية في محاولة اجتذاب تركيا بعيداً عن فلك حلف الناتو، ونجح في إقناع أردوغان بشراء منظومة دفاعٍ جوي روسية، تقول الغارديان.
مقترح بوتين
ويعتمد مُقترح بوتين المُحدَّد، الذي يدعمه الرئيس الإيراني حسن روحاني، على إعادة إحياء اتفاقية أضنة، التي وقَّعتها سوريا مع تركيا عام 1998. وهي فكرةٌ بدأ الدفع بها منذ ثلاث سنوات. وفي جوهرها، تُقِرُّ الفكرة بمخاوف تركيا المشروعة بشأن "حزب العمال الكردستاني"، لكن الحل المُقترح فيها ليس إقامة منطقة آمنة تُديرها تركيا داخل سوريا، بل يعتمد الحل على تقديم النظام السوري لضمانات أمنية بالسيطرة على "حزب العمال الكردستاني". وبالمثل، لن تكون طريقة التعامل مع اللاجئين السوريين داخل تركيا هي نقلهم إلى شمال شرقي سوريا، حيث سيُقابلهم الأكراد بعدائية، بل سيأتي الحل عن طريق إنهاء الحرب السورية، بحسب الصحيفة البريطانية.
وتكمُن الاتفاقية بين الأكراد والأسد والأتراك في قلب المُعضلة. وفي حال نجاح بوتين في توقيع الاتفاقية فستُمثِّل صفقة القرن الحقيقية، وفي حال فشله فسينتهي به الأمر إلى موافقة ترامب في رأيه القائل بأنَّ الشرق الأوسط لا يجلب سوى "الرمال والموت".