أعطت الولايات المتحدة، الأحد 7 أكتوبر/تشرين الأول 2019، الضوء الأخضر لتركيا في دخول شمال سوريا والمواجهة المباشرة مع القوات الكردية المعروفة باسم "قوات سوريا الديمقراطية" وهي الذراع العسكرية لحزب الاتحاد الديمقراطي الذي يتشارك الأيديولوجية السياسية المؤسسة لحزب العمال الكردستاني والمصنف من قبل تركيا وقطاع واسع من باحثي الدراسات الأمنية الدولية باعتباره منظمة إرهابية تستعمل العنف في تحقيق أهداف الانفصال السياسي.
وجاءت التصريحات الأخيرة للرئيس الأمريكي دونالد ترامب لتوضح أن الولايات لن تدعم ولن تمنع التدخل التركي في شمال سوريا وأنها –أي القوات الأمريكية- إنما تنسحب بعد انتهاء المهمة التي أتت لها وهي إنهاء الوجود العسكري لتنظيم الدولة الإسلامية (داعش).
وكانت القوات الأمريكية في غمار حربها على تنظيم الدولة قد قامت بدعم ومساندة "قوات سوريا الديمقراطية" في مواجهة تنظيم الدولة في سوريا، ويسيطر الأكراد على غالبية قيادات وجنود القوات.
ما هي قوات سوريا الديمقراطية؟
كان الوجود السياسي لما يعرف الآن بـ "قوات سوريا الديمقراطية" أسبق من تشكيلها العسكري الذي نعرفه الآن، حيث أعلن في عام 2013 "حزب الاتحاد الديمقراطي الكردي" إقامة مناطق حكم ذاتي للأكراد بدعم ذراعه العسكرية "قوات حماية الشعب الكردي" والتي عرفت حينها بـ "قوات سوريا الديمقراطية" في شمال شرق سوريا (غرب الفرات) وتحديداً مناطق الحسكة والرقة والقامشلي ودير الزور والتي تمثل نحو 27 بالمئة من مساحة سوريا.
وجاء التأسيس الرسمي لتلك القوات بدعم أمريكي في أكتوبر 2015 في محافظة الحسكة بسوريا لمقاتلة تنظيم الدولة الذي ارتفعت أسهمه في ذلك الحين، وتشكلت القوات من تحالف يضم قوات عربية وكردية وسريانية وتركمانية وأرمنية، لتنقسم إلى "وحدات حماية الشعب" و "وحدات حماية المرأة" وتعرف كلاهما اختصاراً باسم "قسد".
وكانت القوات الكردية قد أصدرت عند تأسيسها بياناً عرفت فيه نفسها أنها "قوة عسكرية وطنية موحدة لكل السوريين تجمع العرب والكرد والسريان وكافة المكونات الاخرى" وكان تأسيسها تابعاً لإعلان الولايات المتحدة الأمريكية نيتها عن دعم قوات مسلحة بعينها لمواجهة تنظيم الدولة، ثم بدأت بتلقي التدريب والدعم العسكري من الولايات المتحدة فضلاً عن الدعم الجوي أثناء المعارك مع تنظيم الدولة والذخيرة وناقلات الجنود والأسلحة الثقيلة.
وفي مارس/آذار 2016 أعلن حزب "الاتحاد" الحكم الفيدرالي المكون من ثلاثة أقاليم : الحسكة (إقليم الجزيرة)، الرقة ودير الزور (إقليم الفرات)، وإقليم عفرين الواقعة في حلب، وأقر الأكراد بنهاية 2016 دستوراً سموه "العقد الاجتماعي"
قوام القوات الأميركية وتمركزها في سوريا
وقاتلت القوات الكردية البالغ عددها نحو 60 ألف مقاتل إلى جانب الجيش الأمريكي طوال سنوات سقط خلالها 10 آلاف قتيل من الأكراد، بينما تراوح عدد عناصر قوات الجيش الأمريكي من 50 فقط في نهاية 2015 إلى أكثر من ألفي عنصر مقاتل، ليبلغ العدد الحالي قرابة 1000 ينتشرون عبر القواعد الحربية الأمريكية من شمال غرب الحسكة "المبروكة" إلى "التايهة" جنوب شرق منبج، بينما يبلغ عدد العناصر الأمريكية في منبج نحو 400 مقاتل أمريكي.
وتعد أهم القواعد الأمريكية في سوريا:
1- قاعدة "رميلان" غرب مدينة القامشلي.
2- قاعدة "خراب عشق" غرب مدينة عين عيسى.
3- قاعدة "عين عيسى" وهي الأكبر مساحة.
4- قاعدة "عين عرب" في ريف حلب الشمالي وتضم خبراء للإشراف على عمليات التحالف.
5- قاعدة "تل بدر" شمال محافظة الحسكة والقامشلي.
6- قاعدة "تل أبيض" على الحدود مع تركيا وفيها نحو 200 جندي أمريكي.
7- قاعدة "التنف" قرب الحدود مع العراق والأردن.
8- قاعدة "الزكف" نحو 70 كيلومتراً من الشمال الشرقي لـ "النتف".
لماذا تغير الموقف الأمريكي؟
مثل وجود القوات الأمريكية عائقاً رمزياً أمام القوات التركية وأمام توسع النفوذ الروسي والإيراني وكذلك عودة تنظيم الدولة الإسلامية، كما يدين الجنود الأمريكيون بالولاء للقوات الكردية التي قاتلت إلى جانبهم.
وحتى الأسبوع الماضي كان الاتفاق على أن يتم إنشاء "آلية للتأمين" يشارك فيها عناصر من القوات الأمريكية، ولم تكن المفاوضات قد حسمت بين الطرفين التركي والأمريكي بشأن مساحة "المنطقة الآمنة" حيث دفعت الولايات المتحدة لأن تكون مساحتها بعمق 5 كيلومترات وطول 100 كيلومتر فقط من الأراضي السورية وهي المنطقة التي لا تحتلها قوات سوريا الديمقراطية.
ومن ثم تلقى الكونغرس الأمريكي قرار "ترامب" الذي أعقب محادثة هاتفية مع نظيره "أردوغان" يوم الأحد بمعارضة شديدة، نظراً لتوقعات قيام القوات التركية بإنهاء الوجود الكردي على خط حدودها، ولكون الأكراد يحتجزون أسرى تنظيم الدولة المنتمين لدول أوروبية ترفض استعادتهم، بل تصر وزارة الخارجية الفرنسية على ضرورة إبادتهم في المكان الذي تواجدوا فيه كونهم تورطوا في عمليات إرهابية، ولم تسمح في الأشهر الماضية إلا باستعادة بعض الأيتام تحت سن العاشرة وسط رفض تام لاستعادة أمهاتهم اللاتي شجعت بعضهن عمليات "تنظيم الدولة"، ويبقي الحقوقيون والقضاة في فرنسا في موقف متأزم كون 89 بالمئة من الفرنسيين يرفضون عودة الأسرى الجهاديين – ذوي الجنسية الفرنسية – و67 بالمئة يرفضون عودة أطفالهم.
ورغم المعارضة الشديدة من طرف الكونغرس للقرار الأخير، إلا أن الرئيس الأمريكي برر قرار انسحاب القوات بأنها قد أنهت مهمتها في القضاء على تنظيم الدولة وأن بقاءها يعني مشاركتها في حروب قبلية لا نهاية لها، مؤكداً حاجة الولايات المتحدة على سحب جنودها خارج المنطقة، وأنها "سوف تحارب حيثما كانت لها منفعة وتحارب لتفوز فقط"، خاصة أن الموقف الإنساني والسياسي للأسرى –وغالبيتهم من الأطفال والنساء- محرج على كافة الأوجه.
ومؤخراً طرأ تعديل ضئيل يقضي بإعادة توزيع ما بين خمسين إلى مئة وحدة عسكرية في مناطق أخرى من سوريا
وكانت الحكومة التركية قد طلبت مساعدة الولايات المتحدة عسكرياً للقضاء على القوات الكردية ولتأمين "المنطقة الآمنة" إلا أن تصريحات "ترامب" أصرت على عدم معاونة أي من الفريقين، مهدداً في الوقت نفسه: "لو قامت تركيا بأي فعل مخالف – بحسب ما تقتضيه حكمتي العظيمة والمتفردة- فسوف أقوم بتحطيم الاقتصاد التركي ومحوه بشكل كامل"، كما نفى مسؤولون في الإدارة الأمريكية دعم "ترامب" التدخل التركي بأي حال وأياً كان شكله.
وفيما يتعلق باحتمالية وقوع مذابح للأكراد على الحدود، يقول مسؤول أمريكي إن تحذير ترامب يتعلق بالأساس بسلامة القوات الأمريكية، ولكنه يمتد للأكراد.
الطرف التركي
بالنسبة لتركيا، فالهدف من التدخل العسكري لإنشاء المنطقة الآمنة هو: (1) التخلص من العناصر الإرهابية (قوات سوريا الديمقراطية) الواقعة على الحدود، (2) منع قيام دولة كردية على حدودها و (3) إعادة نحو 2 مليون لاجئ سوري (عودة طوعية) إلى سوريا.
وتستهدف تركيا تأمين المنطقة الآمنة التي حددتها مع دول الناتو في أغسطس/آب الماضي، وتمتد بعمق 30 كيلومتراً (18 ميلاً) وبطول نحو 480 كيلومتراَ (خلافًا للطرح الأمريكي) على أمل أن يتم تعميقها في وقت لاحق لتصل إلى دير الزور والرقة، ولكي تستوعب اللاجئين السوريين في أوروبا ودول العالم، لكن بالأساس نحو مليون إلى مليوني سوري من تركيا التي يتهالك اقتصادها تحت وطأة الضغوط الدولية وتراجع قيمة العملة، خاصة أن تصريحات الرئيس التركي "أردوغان" تشير لزيادة عدد المواليد السوريين في تركيا بنحو 500 ألف مواطن في السبع سنوات الأخيرة.
وترفض الأمم المتحدة خطة تركيا في إعادة تسكين اللاجئين في المنطقة الآمنة حيث تقتضي القوانين الدولية عودتهم للأماكن التي هجروا منها في المقام الأول، بينما عدد المهجرين من الشمال السوري أقلية بين اللاجئين في تركيا
كما تعارض القوات الكردية من إعادة توطين السوريين في الشمال السوري بما يؤدي لتغيير الثقافة والتكوين السكاني للمنطقة، وما يتبعها من حقوق للفئات التي تشكل المجال الحيوي لسوريا في المستقبل، وهو نفس المنطق الذي ترفضه تركيا أولاً لأن أقلية محدودة العدد في أطراف الحدود لا ينبغي أن تقيم كياناً سياسياً مستقلاً يشكل تهديداً لوحدة الأرض التركية والسورية على السواء، خاصة أن تركيا تواجه جماعات PKK الكردية منذ الثمانينات، وثانياً، لأن "جرائم الحرب" التي ارتكبتها قوات "سوريا الديمقراطية" الكردية تجاه السوريين – كما وثقتها تقارير العفو الدولية وهيومان رايتس ووتش HRW في عامي 2014 و 2015 هي ما أدت لنزوح مئات الآلاف من السوريين إلى تركيا هرباً من القتل والاختطاف وتجنيد الأطفال وتدمير المنازل، الأمر الذي تصفه التقارير بحملات "تطهير عرقي"، ومن ثم يخاف المهجرون العودة إلى بلدانهم وقراهم الأصلية أو حتى شمال سوريا ما لم تقم القوات التركية بتأمين المنطقة.
ومن جهة أخرى يبقى إشكال عالق بخصوص "أسرى" تنظيم الدولة الإسلامية، المنتمين للدول الأوروبية والذين ترفض دولهم استردادهم لأراضيها وبالتالي بقوا في حوزة القوات الكردية وسط تنديدات أمريكية بإطلاق سراحهم ما لم تتسلمهم البلدان التي ينتمون إليها، وحيث تُخلي الولايات المتحدة مسؤوليتها تجاههم، فإن الموقف التركي عموماً يشير للالتزام بقواعد القانون الدولي الإنساني فيما يخص الأسرى والمهجرين.
لماذا تقلق الأمم المتحدة؟
وفيما يأتي بمثابة الرد على تخوف "الأمم المتحدة" من تكرار مشاهد "سربرنيتشا" في الشمال السوري والتأكيد على رفض "المجتمع الدولي" لعمليات نزوح قسري مجددة، تؤكد تصريحات مستشار رئيس الجمهورية التركي "ياسين أقطاي" و المتحدث باسم الرئاسة التركية "إبراهيم كالين" رفض تركيا للتهجير القسري للاجئين وعزوفها عن احتلال الأراضي السورية، من ناحية، وسعيها لحفز الدعم الدولي لإعمار المنطقة الآمنة بما يسمح بعودة اللاجئين إلى حياة طبيعية. ويضيف "توران كشلاكجي" –الصحفي ورئيس جمعية الإعلاميين العرب والأتراك- أن المستهدف توطينهم في المنطقة الآمنة هم أولاً السوريون المفتقرون إلى إقامات وأعمال مستقرة في تركيا ولم يحصلوا على الجنسية التركية إلى الآن.
ومن ثم قدمت تركيا مشروعاً لإعمار "المنطقة الآمنة" يرتكز على تأسيس 140 قرية و10 مناطق بحيث تستوعب كل قرية عدد 5,000 من السكان وكل منطقة نحو 30 ألفاً، وتشمل الأحياء السكنية خدمات الصحة والشباب والتعليم والجامعات على مساحة 92 مليون كيلومتر مربع إضافة لـ 140 مليون متر مربع للإنتاج الزراعي، وصرحت الرئاسة التركية بأن تكلفة المشروع تبلغ نحو 26.4 مليار دولار أمريكي لإسكان مليون مواطن سوري، ويرصد مراقبون سعي تركيا الحثيث لتحصيلها من الأطراف الإقليمية العربية مثل قطر والكويت وعمان والمؤسسات الخيرية الدولية.
مآل الحرب المقبلة
يبقى نجاح المشروع التركي مرتبطاً بتطور الصراع مع القوات الكردية التي اكتسبت خبرة من القتال لسنوات بجانب القوات الأمريكية ضد تنظيم الدولة، لكنها في أضعف حالاتها إزاء الهجوم الجوي والمدفعية الثقيلة، ما يعني أن على القوات التركية أن تحضر نفسها لنصر سريع أو لحرب استنزاف طويلة المدى قد ترهق الموازنة العامة لسنوات مقبلة.