البحر كان يعني بالنسبة لها الموت الوشيك ولكنه اليوم أصبح مهنتها، وباتت ألمانيا كلها تتحدث عن اللاجئة السورية التي أصبحت قبطانة وهي مهنة يندر فيها النساء حتى في ألمانيا.
والآن بعد أن تتثبت السيدة السورية "نجد بوشي" من اتجاه الرياح في بحيرة تيغرن زيه البافارية، تدخل غرفة المحرك متفحصة المكان، إن كان كل شيء في مكانه أم لا.
ثم تتحرك على سطح القارب جيئة وذهاباً للتأكد من عدم وجود أناس يسبحون عند مؤخرة السفينة.. لتعطي الإذن للمحاسب المرافق لها بفك الحبال التي تربط القارب بالضفة، قبل أن تطلق من قاربها ٣ صافرات منذرة بالعودة للخلف والانطلاق.
ليست سورية بين الألمان فقط بل كسرت الهيمنة الذكورية
تقوم نجد ذات الـ 42 ربيعاً بهذه الخطوات بحرص لأنها تعرف قدر المسؤولية الملقاة على عاتقها في كل يوم عمل وتدرك أن مهمتها ليست سهلة البتة، وإلا لما كانت استطاعت كسر الهيمنة الذكورية في مجالها هذا وباتت اعتباراً من شهر مارس/آذار الماضي أول قبطانة على البحيرة، لتسبق حتى السيدات الألمانيات في ذلك.
وتتناوب نجد العمل على ما يصل لـ ٥ سفن تعمل على خط النقل على البحيرة، تارة كمحاسبة وتارة كقبطانة يرافقها محاسب، كما قالت لـ"عربي بوست" في اتصال هاتفي.
وبعد أن بدأت نجد عملها كمحاسبة في الشركة مدة عامين واقتصرت واجباتها على استلام النقود والمعاملات الورقية، بات عليها الآن التعامل مع مسؤوليات جمة.
وتقضي يوم عملها الصيفي الممتد ٨ ساعات في نقل الركاب بين المحطات المتوزعة على البحيرة.
"ابنة المدينة" تتعلم قراءة البحيرة كسكان الريف
وتحدثت نجد لـ "عربي بوست" عن يومياتها في العمل، وكيف أنها تصادف أياماً يكون عدد الركاب فيها قليلاً، أو أياماً أخرى تكتظ فيها السفينة بالركاب، وكيف يتوجب عليها التأكد من ألا يصعد أكثر من 130 راكباً، السعة القصوى للسفينة التي تقودها.
وتعتبر نجد أن أبرز الصعوبات التي تواجهها في العمل مرتبطة بالانتباه لحالة الطقس واتجاه الرياح الذي يؤثر في قيادتها بالسفينة، لا سيما وأنها "ابنة مدينة" كما يصفها العاملون معها.
ولكنها تقول إن تأقلمت واكتسبت بعض الخبرة الآن، وتستمتع بالتعامل مع الطبيعة، على حد وصفها.
وعن سبب نجاحها دون سواها في استخراج شهادة قيادة السفن، توضح بأنها تتحلى فيما يبدو بالمسؤولية وتجيد اتخاذ القرارات الصحيحة في الوقت المناسب، لتستطيع ضمان سلامة الركاب والسيطرة على السفينة وتجنب الحوادث.
واستشهدت بسباحة العديد من رواد مطعم برويشتوبرل الشهير القريب من البحيرة أحياناً وهم ثملون قرب أحد محطات مسار رحلاتها (رغم وجود لافتة تحذر من ذلك)، لذا يتوجب عليها الانتباه دوماً لتتجنب الاصطدام بهم، أو إلغاء التوقف في تلك المحطة تجنباً لإزهاق أرواح أحد الأشخاص غير الواعين لخطورة سباحتهم هناك.
من الأدب الإنجليزي للبحيرة الألمانية
وكانت السيدة التي درست الأدب الانكليزي في سوريا قد اضطرت للعمل بعد وصولها لولاية بافاريا في مجالات بعيدة عن مستواها التعليمي، منها كبائعة في مخبز قرابة عام، قبل أن تتقدم للعمل محاسبة في شركة الملاحة على بحيرة تيغرن زيه، ثم يعرض عليها رئيس الشركة بأن تقوم باستخراج شهادة قيادة القوارب نهاية العام الماضي.
وقالت نجد إنها سمعت في عام 2017، من زبائن المخبز بوجود مكان شاغر في الشركة، وتحدثت في هذا الشأن مع مدير الشركة المسؤولة عن البحرية عند زيارته للمخبز، الذي طلب مهلة للتحدث مع المدير الأعلى مرتبة، لا سيما وأنها من خارج دول الاتحاد الأوروبي، ثم أبلغها سعيداً بالموافقة على تقديمها الطلب بعد أيام.
وأضافت أنه بعد مقابلة العمل تمت الموافقة على أن تبدأ الدوام كمحاسبة في شهر أبريل/نيسان.
كيف عملت بهذه المهنة المستحيلة؟
كان من المستحيل أن يُطلب منها بشكل مباشر أن تبدأ العمل كقبطانة، حسب قولها.
إذ إن بعض الموظفات يقضين سنوات في العمل الإداري هناك دون أن يُسمح لهن باستخراج شهادة قيادة السفن.
وقالت نجد إن مديرها عرض عليها قبل قرابة عام من الآن أن تتقدم للحصول على شهادة قيادة، فكانت مترددة في البداية نظراً لحجم المسؤولية التي ستنتظرها، لكن مديرها شجعها وذكرها بأنها استطاعت الوصول من حلب لبافاريا وحدها (أما زلت تتحدثين عن المسؤولية؟).
وذكرت أنها أبدت تخوفها للمدير من إمكانية حدوث أعطال ميكانيكية، وهو الأمر الذي لا تملك فكرة عنه، فطمأنها بأن ذلك لا يندرج ضمن مسؤولياتها.
وبعد تدريب على مدار 3 أسابيع (تضمن التعامل مع الأوضاع الطارئة كنشوب حريق على السفينة أو سقوط أحد الركاب في المياه)، بدأت بالقيادة بوجود قبطان مشرف في مارس/آذار، ثم وحدها بدءاً من شهر مايو/أيار الماضي. ويمتد عقد عملها القابل للتمديد حتى العام القادم.
وعن تحدثها لوسائل الإعلام عن استغراب البعض من عملها في هذا المجال كونها امرأة، أوضحت أن الناس في بافاريا لا يستغربون قيادتها للسفينة، لكون النساء في ألمانيا دخلن في مجال القيادة مسبقاً ويمارسن كل المهن، لكن يظل ذلك نادراً بالنسبة لهم، لا سيما وأن أغلبية العاملين في هذا المجال هم من الرجال.
ويتوقع بعض الركاب الذين يركبون قارب التنزه الذي تقوده أن يجدوا رجلاً خلف المقود، لذا ألقى أحد المسنين الذي ركب القارب السلام على "السيدة القبطانة"، في لقطات صورها تلفزيون "بايرشه روندفونك" العام.
انقطعت بها السبل على جزيرة تركية خلال رحلة لجوئها.. فأحرقتها
واكتسبت نجد من رحلة اللجوء الشاقة خبرة فيما يبدو استفادت منها في مهنتها، كاليقظة حيال مخاطر الإبحار، والشعور بالمسؤولية عن سلامة من معها من لاجئين حينذاك.
وروت السيدة السورية لعربي بوست تفاصيل عن محاولتها الأولى الفاشلة للوصول لليونان انطلاقاً من تركيا في شهر سبتمبر/أيلول من العام 2014، اضطرت فيها مع آخرين للمشي لساعات طوال على الجانب التركي والانتظار لـ 3 أيام قبل أن يسمح لهم مهربون بالصعود لقارب زُعم أنه سيقلهم لليونان، ثم اكتشفوا بأنه تم أخذهم لجزيرة تركية لا يونانية (لم تسمها)، لم يجدوا فيها أحداً يمكنهم التواصل معه، وتُركوا فيها وهم لا يملكون سوى كمية قليلة غير كافية من المياه والغذاء.
وقالت إنهم عندما شعروا بأنهم متروكون لمصيرهم، وبلغ منهم اليأس أشده بعد مرور ٣ أيام دون طعام وشراب وتدفئة، اضطروا لإضرام النيران في بعض الأشجار للفت النظر إليهم، وهو ما كان لهم إذ حضر الإطفاء التركي، وتم القبض عليهم من قبل الشرطة التركية، ونقلهم لداخل البلاد.
وتمكنت نجد من الوصول لليونان في محاولة لاحقة، ثم القدوم لأوروبا بالطائرة بطريقة التفت فيها على القانون. وبعد أن استقرت في بافاريا وحدها وحصلت على حق اللجوء، استطاعت استقدام زوجها (الذي تعيش حالياً منفصلة عنه) وطفليها بعد 11 شهراً، عبر لم الشمل.
غادرت حلب التي تحبها مكرهة
تؤكد نجد أن مغادرتها حلب وتركها مكان عملها كان قراراً صعباً للغاية عليها، فهي المكان الذي كبرت فيه ودرست ثم عملت فيه، لكنها شعرت بأنه لا ينبغي أن تصل الأمور إلى درجة فقدان أحد أفراد العائلة في قصف أو تفجير لتقدم على هذه الخطوة.
وتشدد على أنها اضطرت مكرهة في عام 2014 إلى المغادرة بعد أن ساء الوضع الأمني كثيراً وباتت تخشى على ابنتها وابنها عندما يذهبان للمدرسة.
وتحدثت لـ "عربي بوست"، كيف لم يعد بوسعها البقاء ومواصلة العمل في الجامعة، وكيف كانت متواجدة في كلية وشقيقتها في كلية أخرى في عين المكان عندما تعرضت الجامعة للقصف في العام 2013، ولم يكن بوسعهما الاطمئنان على بعضهما البعض أو أن تتواصل هي مع عائلتها لتعرف إن كانوا بخير.
وقالت إن أجواء أمنية مخيفة كانت سائدة في مكان العمل مع خروج تظاهرات معارضة، يخشى المرء فيها التحدث بكلمة، خشية التعرض للتحقيق والمساءلة من قبل النظام السوري.
اهتمام إعلامي كبير بقصتها.. فنان "يرفع القبعة لها"
ولفتت قصة نجد بوشي الأنظار في الولاية ككل، فبعد نشر مقال عنها في جريدة ميركور المحلية، تحدثت نجد عن لقائها شخصاً في مكان عملها، قال لها إنه يقيم في مكان يبعد مسافة 3 ساعات، وعلم بقصتها من الصحف المنتشرة في الولاية، مهنئاً إياها.
كما خصص كريستيان شبرينغر، وهو فنان كوميدي صاحب برنامج شهير على القناة البافارية العامة، فقرة عن نجد بدأها بالدعوة ساخراً للابتعاد قليلاً عن قضية الساعة وهي الكارثة المناخية، للحديث عن نهاية العالم الحقيقية، المتمثلة بتعدد الثقافات على بحيرة تيغرن زيه، وعمل لاجئة سورية كقبطانة هناك، رغم كفاح قيادات الحزب المسيحي الاجتماعي منذ عقود ضد ذلك وقول الرئيس الحالي له ماركوس زودر إن تعدد الثقافات لن ينجح.
وسخر الفنان، الذي يشتهر بجمعيته "مساندة الشرق" لمساعدة اللاجئين السوريين في لبنان، خلال حديثه عن نجد من الحزب المسيحي الاجتماعي البافاري، قائلاً إن السؤال المطروح لدى الحزب المذكور في قصة نجد، ما هو أسوأ هل كونها امرأة أم أنها لاجئة، في إشارة إلى انتقادات توجه للحزب لندرة تواجد النساء بين قياداته، وبموقفه المتشدد حيال اللاجئين.
وذكر شبرينغر الحضور بأن ابنة نجد أهدتها شالاً أخضر جالباً للحظ قبيل مغادرتها سوريا، وقامت الأم بدورها بعد وصولها بسلام لألمانيا وجلب ابنتها بإعادة الشال لها متمنية أن يجلب الحظ لها في حياتها الجديدة في ألمانيا.
ويخمن شبرينغر أن تكون نجد تفكر وهي تقود السفينة الآن بالذين يغرقون في البحر وهم في طريقهم لأوروبا، الأمر الذي نجحت في تجاوزه، داعياً الساسة للتفكير في أنهم بسياساتهم المناهضة لدخول اللاجئين للبلاد، ربما لم يساعدوا أناساً كالقبطانة نجد لتصل بسلام للضفة الأخرى، منهياً حديثه بتوجيه التحية والترحيب بنجد بمختلف اللغات/اللهجات العربية والألمانية "رافعاً القبعة" لها، مؤكداً أنه يعرف موطنها حلب مسبقاً ويحب المدينة كثيراً.
من جانبها، ترى نجد أن من واجبها تشجيع النساء على عدم الاستسلام للمصاعب عبر سرد قصتها، لذا فهي في صدد البحث عن دار نشر تتبنى طباعة كتاب عن رحلة لجوئها لألمانيا، والمصاعب التي واجهتها على الطريق إلى هناك ثم نجاحها، بدأت بتدوينه بمساعدة فنان صديق يدعى هيلو فوكس.