قبل جريمة اغتيال المعارض والصحفي السعودي جمال خاشقجي كانت الآلة الإعلامية لولي العهد محمد بن سلمان حققت نجاحاً ظاهرياً في تقديمه للغرب كزعيم يقود حركة تجديد في المملكة، وبعد عام على الجريمة تحاول نفس الآلة المدفوعة بملايين الدولارات إعادة الكرة، فهل تفلح؟
صحيفة الإندبندنت البريطانية تناولت القصة في تقرير بعنوان: "مملكة الخداع: ماكينة العلاقات العامة السعودية وجريمة قتل خاشقجي"، للكاتب ريتشارد هول، مراسل الصحيفة في الشرق الأوسط.
عملية للتخلص من المعارضين
كان من المفترض أن تكون عملية قتل خاشقجي عمليةً هادئة، وكان المسؤولون السعوديون وراءها قد خططوا تفاصيل عملية القتل الوحشية بكل دقة وعناية. وكان القتيل سيختفي دون أي أثرٍ وراءه.
لم يكن القتلة يريدون لأي شيء أن يعكّر حملة الإصلاح الطموحة لرئيسهم في الوطن. كان ولي العهد الشاب محمد بن سلمان يحاول تغيير وجه بلاده. وكان قد أمضى السنتين السابقتين يغازل ويتودد إلى المجتمع الدولي كجزء من رؤيته الكبرى لتحديث المملكة وجذب الاستثمارات الأجنبية. لقد أعطى السعوديين حريات جديدة، غير أنه في الوقت نفسه اتّخذ إجراءات أكثر صرامة من أي وقت مضى تجاه المعارضة.
وأُنفقت مئات الملايين من الدولارات على الترويج لولي العهد وإصلاحاته. وشُنت حملةُ علاقاتٍ عامة عالمية واسعة النطاق تهدف التودد إلى قادة العالم ومشاهيره.
مجرد قاتل وحشي
وبدا الأمر ناجحاً، حتى اختفى خاشقجي. وعندما تبيّن أنَّ الصحفي المعارض قد قُتل داخل القنصلية السعودية، على الأرجح بتفويض من ولي العهد، تحطّمت تلك الصورة المنحوتة بعناية، ووجد الملكيّ نفسه في وسط فضيحة عالمية هدّدت بعرقلة جميع خططه.
وغدا جيش مشركات العلاقات العامة يواجه مهمة مستحيلة: إنقاذ صورة رجل بات يعتبره كثيرون حينها مجرد قاتل وحشي. والآن، بعد مرور عام على مقتل خاشقجي، ربما يكونون بالفعل قد نجحوا في ذلك.
كانت الآثار الجانبية لقتل خاشقجي غير متوقعة، لكن شبكة العلاقات العامة الواسعة لولي العهد كانت بالفعل على أهبة الاستعداد عندما اندلعت الفضيحة.
كانت وزارة الإعلام السعودية قد أعلنت قبلها بعام عن حملةٍ عالميةٍ "لترويج الوجه المتغير للمملكة وتحسين صورتها في العالم". وكانت هذه الشبكة من جماعات الضغط وخبراء العلاقات العامة قد أخذت تعمل بشراسة لمواجهة انتقادات ودعاية سيئة ناجمة عن حرب السعودية المدمِّرة في اليمن وحصارها على قطر. غير أن معظمها كان ينصب اشتغاله بالأساس على الترويج لولي العهد.
جولات إعلامية مدفوعة الأجر
وشرع ولي العهد في أوائل عام 2018 في جولة إعلامية رفيعة المستوى في الولايات المتحدة، وُصفت بأنه حفلة خروج إلى العلن بعد أن تولى القيادة الفعلية للسعودية من والده. وعقد اجتماعات مع الرئيس دونالد ترامب وجيف بيزوس وبيل غيتس ونجوم هوليوود وممولي وول ستريت وأوبرا وينفري، على سبيل المثال لا الحصر. وظهر في البرنامج الإخباري البارز Minutes 60 لإجراء مقابلة معه، واجتذب بعض الثناء الباهت عليه من كتاب الأعمدة الصحفية في صحيفة The New York Times.
وأعقب تلك الرحلة زيارة صاخبة مماثلة إلى لندن. وأخذت وكالات العلاقات العامة التابعة له تصدر إعلانات على صفحات كاملة في الصحف الوطنية، ودفعت من أجل لوحات دعائية عملاقة في جميع أنحاء المدينة تعلن عن الزيارة. وقال عاملون بالمجال إن الحملة قد تكون تكلفت ما يصل إلى مليون جنيه إسترليني.
يقول جوناثان هاردي، أستاذ الإعلام والاتصالات في جامعة شرق لندن: "إن إنفاق السعوديين كان على نطاق هائل. وضُخت تمويلات متزايدة من خلال شبكة كثيفة من شركات الدعاية والعلاقات العامة وشركات الضغط السياسي، تعمل لصالح السعودية ومصالحها الاستراتيجية".
في عام 2018، أنفقت السعودية أكثر من 34 مليون دولار على جماعات الضغط السياسي في الولايات المتحدة وحدها، وذلك وفقاً لمجموعة Center for Responsive Politics البحثية غير الربحية. واستعانت المملكة أيضاً بمجموعة من الشركات في لندن، ومنها Consulum، التي تعتمد إلى حد كبير على موظفين سابقين من Bell Pottinger، وFreuds.
يقول البروفيسور هاردي إن الهدف كان "تقديم صورة للمملكة العربية السعودية تظهر خطواتها نحو الإصلاح، وتنبُذ الجوانب السيئة من الحكومة لتخفيف الضغط السياسي الدولي، وتجذب الاستثمار لتحقيق النمو الاقتصادي، وتعطي انطباعاً بالانفتاح على فرص السياحة الأجنبية".
مجرد حملة علاقات عامة
لكن لم يكن الجميع مقتنعاً. ورأى كثيرون أن الأمر ليس إلا تأثير حملة علاقات عامة، ومنهم خاشقجي نفسه. وتتذكر نيكيتا بيرناردي، وهي مستشارة علاقات عامة تعمل في قضايا حقوق الإنسان في الشرق الأوسط، مستعيدةً حديثها عن خطط الأمير وإجراءاته مع خاشقجي.
وتقول: "لقد خضت أنا وهو هذه المحادثة خلال الأيام التي سبقت مقتله. فقبل عامٍ تقريباً، كنت في واشنطن العاصمة لتنظيم مؤتمر، كان الهدف منه التساؤل حول هذا الوجه الجديد للمملكة السعودية الذي كانوا يحاولون الترويج له. وكان جمال خاشقجي أحد المتحدثين".
"بدت حملة العلاقات العامة سطحية للغاية. لقد صممت تقريباً للدول الغربية التي احتاجت إلى أن تظهره في صورة أكثر قبولاً، حتى يتمكنوا من مواصلة الوضع القائم وبيع الأسلحة وغيرها. لقد احتاجوا إلى أن يبدو وكأنه كان يغير ويدفع الأشياء في الاتجاه الصحيح".
وفي الوقت الذي كان خاشقجي يبدي شكوكه حول ما إذا كان ولي العهد بالفعل مصلحاً حقيقياً -على المستويين الخاص والعام- كان كبار مستشاري الملك يتآمرون على قتل الصحفي.
اختفى خاشقجي في 2 أكتوبر/تشرين الأول بعد دخوله القنصلية السعودية في إسطنبول. كان قد ذهب إلى هناك لاستخراج أوراق حتى يتسنى له الزواج من خطيبته، التي انتظرته في الخارج. غير أنه لم يُرَ بعد ذلك أبداً.
أسوأ عملية تستر على الإطلاق
وأصرت السعودية في البداية على أن خاشقجي قد غادر القنصلية، لكن بعد تدفقٍ مستمر من التسريبات من قِبل محققين أتراك، غيّرت المملكة القصة، قائلةً إن الرجل البالغ من العمر 59 عاماً قُتل هناك في "شجار بالأيدي".
وقال محققون أتراك ودوليون، في وقت لاحق، إن خاشقجي قُتل داخل القنصلية وتم التخلص من جثته. وقالت أغنيس كالامارد، المقرّرة الخاصة بالأمم المتحدة التي تقود تحقيقاً مستقلاً في عملية القتل بتفويضٍ من مجلس حقوق الإنسان، إن عملية القتل "خطط لها وارتكبها مسؤولون سعوديون".
لكن تعقُّب الأدلة قاد الطريق وصولاً إلى ولي العهد نفسه. وباتت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية وبعض الدول الغربية مقتنعةً أن ولي العهد أصدر الأمر بالقتل، غير أنه أصر على إنكار ذلك.
وما كان محاولةً لإسكات خاشقجي، حمل لقتلته التأثير المعاكس. فقد أشعل اختفاءُ الصحفي شرارةَ عاصفةٍ نارية عَتَت على ولي العهد. وبلغ الأمر أن وصف دونالد ترامب، الذي دائماً ما كان مقرباً من ولي العهد السعودي، محاولات إنكار عملية القتل بأنها "أسوأ عملية تسترٍ على الإطلاق".
لقد عرقلت جريمة القتل عملية الترويج وإعادة تقديم ولي العهد المُعدّة بعناية. فقد اُتهم ولي العهد، خلال الأسابيع التالية لذلك، بالتورط المباشر، وبدأ عدد كبير من الشركات في النأي بنفسها عن المملكة. وأعلنت شركة Freuds وشركة Pagefield Global Counsel اللتان تتخذان من لندن مقراً لهما أنهما لم تعُودا تعملان مع السعودية، فضلاً عن شركة Milltown Partners، التي كان يديرها مسؤول الاتصالات السابق الخاص بالأمير تشارلز ولي عهد المملكة المتحدة.
وذكرت مجلة PR Week أن كلاً من شركات Gladstone Place Partners، وGlover Park Group، وBGR، وPortland Communications، وGibson, Dunn، وCrutcher قد أنهت جميعها العمل لصالح الحكومة السعودية.
عودة العجلة للدوران
لكن على الرغم من أن المملكة فقدت الكثير من قوتها في مجال العلاقات العامة، فإن الشركات التي ظلت متمسكةً بالعمل معها "أخذت تعمل بكامل قوتها"، حسبما قال بين فريمان، المختص بتتبع تأثيرات السياسات الدولية في مركز Centre for International Policy البحثي، صحيفة The Washington Post الأمريكية.
وشملت تلك الشركات، شركة Qorvis Communications، وهي شركة مختصة بإدارة اتصالات الأزمات، يقع مقرها في الولايات المتحدة، وقد عملت شركتها الأم MSL، مع الحكومة السعودية لمدة تقارب العقدين. وقد تلقت شركة MSL، وفق ما ورد في صحيفة The Washington Post أكثر من 18 مليون دولار من الحكومة السعودية منذ أكتوبر/تشرين الأول 2018.
كما وقعت الحكومة السعودية عقداً جديداً بقيمة 120 ألف دولار شهرياً مع شركة Karv Communications في وقتٍ سابقٍ من هذا العام، وفقاً لصحيفة Financial Times، "لرفع قيمة وتعزيز صورة" صندوق الاستثمارات العامة السعودي، الذي يترأسه ولي العهد.
ويذهب البروفيسور هاردي إلى أن الاستراتيجية التي تبعتها شركات العلاقات العامة تغيّرت على إثر الشكوك التي تشير إلى مشاركة ولي العهد في جريمة القتل، فقد استبدل بالتركيز المستمر على ولي العهد حملات إقناعٍ أكثر استهدافاً وتوجيهاً للرأي العام.
ويقول هاردي: "لقد أرسلت الحكومة السعودية مبعوثين كباراً لإقناع شخصيات رئيسية في وسائل الإعلام والسياسة والأعمال بمصداقية التحقيقات التي تجريها في عملية القتل، وهكذا أخذت تسير بخطوات بطيئة وفي اتجاهات منفصلة لإعطاء تطمينات وإعادة بناء الثقة".
"إننا نشهد حالياً جهداً متعدد الجوانب. إذ تستثمر السعودية في تأثير مجهودات "القوة الناعمة" مثل الرياضة والسياحة. وقد أدت مثل تلك المساعي للتأثير على تصورات الجمهور على نطاق واسع من خلال أشياء مثل الاستثمار الرياضي، بالبعض إلى اتهامها بتهمة تبييض السمعة من خلال الرياضة (sportswashing)".
ويستدل البروفيسور هاردي على كلامه بمباراة الملاكمة القادمة بين أنتوني جوشوا وأندي رويز للحصول على اللقب العالمي في الوزن الثقيل، والتي ستقام في المملكة.
ويوم الجمعة الماضي 27 سبتمبر/أيلول، أي قبل أيام من حلول ذكرى مقتل خاشقجي، أعلنت الحكومة السعودية عن تفعيل برنامج تأشيرة سياحية جديدة لمواطني 49 دولة.
وبعد مرور عام على مقتل خاشقجي، عاد ولي العهد إلى دائرة الضوء، وظهر في برنامج 60 Minutes مرة أخرى، لينفي خلال المقابلة أي تورط شخصي له في عملية قتل خاشقجي.
وقال: "لقد كانت جريمة بشعة. لكنّي، وبوصفي قائداً في المملكة العربية السعودية، أتحمل المسؤولية بالكامل، خاصةً وأن مرتكبيها أفراد يعملون في الحكومة السعودية"، وقال: "أنا أتحمل المسؤولية، لأن الجريمة وقعت وأنا قائدٌ للمملكة العربية السعودية".
استراتيجية جديدة للخداع
ويقول برناردي، مستشار العلاقات العامة، إن المقابلة تمثل استراتيجية جديدة: "لم يكن ثمة كثير يمكن فعله لحماية سمعته. فقد كان الضرر كبيراً جداً. وخلال عام كامل منذ وفاة جمال، يمكنك أن ترى كيف تغيرت القصة السعودية عن الجريمة. فأولاً، كان الإصرار على الإنكار، تلو الإنكار، تلو الإنكار، ثم قالوا إن مرتكبيها عملاء منشقون، إلى أن وصلنا الآن إلى ولي العهد يقول: (لقد حدثت الجريمة وأنا قائد المملكة، فعليّ تحمل المسؤولية)".
"وهذه عبارةٌ يتجلى فيها بوضوح تأثير فريق علاقات عامة. بالنسبة إليّ يبدو وكأنه كلام أُعد مسبقاً وتمرّن ولي العهد عليه. إنها مجرد كلمات فارغة. ما الذي تتحمل المسؤولية عنه؟! لا شيء مطلقاً".
وقالت أغنيس كالامارد، خبيرة الأمم المتحدة المعنية بتقديم تقارير حول حالات الإعدام، والتي توصل تحقيقها إلى "أدلة موثوقة" تربط ولي العهد بجريمة القتل، لـ Reuters، إن تصريحات ولي العهد ترجع إلى "استراتيجية لإعادة التأهيل في مواجهة الغضب العام عليه في جميع أنحاء العالم".
"إنه يخلق مسافةً بينه وبين الجريمة. ويعفي نفسه من المسؤولية الجنائية المباشرة في عملية القتل. ويخلق طبقات فوق طبقات فوق طبقات من الفاعلين والمؤسسات التي تحول بينه وتحميه من المساءلة عن مسؤوليته المباشرة في عملية القتل".
ومع ذلك، فإن ثمة دلائل تشير إلى أن المجتمع الدولي قد تجاوز بالفعل جريمة القتل وأنه راضٍ تماماً عن السماح لولي العهد بالعودة إلى الساحة. وبعد أن ربطت ولي العهد في البداية بجريمة القتل، صرّحت إدارة ترامب بشكل واضح بأن جريمة الاغتيال لن تؤثر على العلاقات الأمريكية السعودية بأي طريقة ذات معنى.
وخلال العام المقبل، ستستضيف المملكة العربية السعودية قمة مجموعة العشرين في الرياض، حيث من المحتمل أن يحتل ولي العهد المنصة الرئيسة. لكن على الرغم من أن الدول ستستمر على الأرجح في التعامل مع السعودية، فإنه لَمن المستبعد أن تتعافى صورة ولي العهد من الأضرار التي لحقت بها بالكامل.
يقول يحيى عسيري، مدير "منظمة القسط لحقوق الإنسان"، وهي منظمة توثق الانتهاكات وتدعم حقوق الإنسان في السعودية: "لقد استخدم محمد بن سلمان مجموعةً واسعة من التكتيكات لتحسين صورته المتضررة جرّاء جريمة القتل، وشمل ذلك حملات العلاقات العامة باهظة التكاليف، والمهمات الدعائية والإصلاحات الاجتماعية المتواضعة".
"لكن هذه المحاولات قد أخفقت إلى حد كبير بسبب سجل حقوق الإنسان الذي يزداد سوءاً في السعودية، وما ينطوي عليه من احتجاز للمعارضين واستهداف لهم، وتعذيب ممنهج، وإعداد جماعي، فضلاً عن عدم محاسبة المسؤولين عن جريمة قتل خاشقجي".
"لقد شهدنا ضغوطاً دولية متزايدة على السعودية، شملت بيانين مشتركين من الأمم المتحدة، وقراراً لمجلس النواب الأمريكي، وحكم محكمة في المملكة المتحدة".
"غير أن هذه الإجراءات لم تقم الحكومات المعنية على متابعة تنفيذها بشكل كافٍ، ومن ثم فمن الواضح أن هناك حاجة إلى مزيدٍ من الضغط، فلم يعد هناك محل لأن تجري الأمور بالطريقة التي كانت تُدار بها".