مع حلول الذكرى الأولى لاغتيال الصحفي والمعارض السعودي جمال خاشقجي، لا تزال تبعات الجريمة التي هزت العالم تعيد تشكيل الأوضاع في المنطقة ولا يزال ولي عهد السعودية يحاول الفكاك من تأثير الاتهامات الموجهة إليه، فكيف أدت وفاة رجل واحد إلى تغيير محتمل في مصير الحاكم الفعلي للمملكة؟
صحيفة الغارديان البريطانية نشرت تقريراً بعنوان: "تبعات جريمة قتل جمال خاشقجي لا تزال تهز الشرق الأوسط"، استهلته بالقول: "في منطقة أصبحت معتادة إلى حدٍ كبير على الوحشية، خلّفت جريمة قتل جمال خاشقجي، التي اُرتكبت العام الماضي، تأثيراً استثنائياً. إذ نادراً ما حدث في التاريخ الحديث أن أدَّت وفاة رجل واحد إلى كل هذه التبعات الارتدادية".
الكل كان يسعده الظهور بجواره
عندما دخل الكاتب السعودي المعارض إلى قنصلية بلاده بإسطنبول في 2 أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي، كانت المملكة العربية السعودية تتمتع بأبرز لحظاتها في دائرة الضوء العالمي. إذ شرع زعيمها الطموح في تنفيذ محاور برنامج إصلاح واسع النطاق للتغلّب على المُشكّكين.
كان قادة العالم، من بينهم دونالد ترامب وإيمانويل ماكرون، يسعدون بالظهور إلى جانب محمد بن سلمان، هذا الأمير الشاب البالغ من العمر 34 عاماً، والذي قد وعد بتغيير العالم.
لكن كل هذا الاستحسان انقلب رأساً على عقب خلال دقائق بعد دخول خاشقجي إلى مبنى السفارة السعودية، حيث نصب له فريق من القتلة المُكلّفين من الدولة السعودية كميناً وقتلوه، وقد سجلت ميكروفونات خفية زرعها جواسيس أتراك تفاصيل حادثة القتل.
جريمة قتل مدبرة على أعلى مستوى
أظهرت التسجيلات الوحشية كاملةً، إذ فضحت جريمة قتل مُدبّرة نُفذّت على غرار مخططات العصابات، والتي سرعان ما جرى اقتفاء أثرها حتى وصلت إلى باب البلاط الملكي السعودي. ولا تزال وصمة عار قتل خاشقجي تلطخ بيت آل سعود على مدار 12 شهراً، على الرغم من النفي المتكرر لولي العهد السعودي، الأمير محمد بن سلمان، أنَّه أصدر شخصياً "أمراً بالقتل".
ولا تزال تبعات تلك الجريمة تتردد أصداؤها عبر عواصم وميادين القتال في المنطقة.
الأمير أصبح معزولاً
واجهت السعودية العديد من المتاعب جراء مقتل خاشقجي، والتي كان لها تأثيرٌ عميق على الصديق والعدو على حدٍ سواء. لقد أصبح الأمير بن سلمان معزولاً إلى حدٍ كبير في السنة التي تلت اغتيال خاشقجي. كذلك، تراجعت عبارات الاستحسان والإشادة، التي حظي بها بن سلمان أثناء طرح مجموعة بارزة من الإصلاحات، أمام موجة عارمة من الغضب والاتهامات المتبادلة.
تضرَّرت المكانة، التي حظيت بها السعودية من خلال زيارة ترامب للبلاد عام 2017، والتي أعادت ضبط واشنطن من محور عهد أوباما الأكثر انسجاماً مع إيران إلى محور الدعم الاعتيادي للسعودية.
تراجع حديث ترامب القوي عن التحالفات في الدفاع عن المملكة الصحراوية، حتى بعد أن تعرضت السعودية لهجوم بطائرات بدون طيار على منشآت نفطية. وقد ألقت واشنطن والرياض باللوم على إيران في هذا الهجوم.
وقد تسبَّب هذا الهجوم، الذي تصر واشنطن والرياض على أنه شُنّ من جانب قوات إيرانية نظامية من الأراضي الإيرانية -وليس من وكلائها الحوثيين في اليمن الذين أعلنوا مسؤوليتهم عن الهجوم- في تعطيل نصف طاقة الإنتاج النفطي السعودي، وتقليص الإمدادات العالمية اليومية بمقدار 5%.
عمل حربي دون رد عسكري
وُصف هذا الهجوم بأنَّه عمل حرب، وكان ُيتوقع على نطاق واسع أن يثير رد فعل أمريكياً. ومع ذلك، لم يحدث أي إجراء انتقامي، جزئياً بسبب إحجام ترامب عن اتخاذ أي خطوة من شأنها إلزام القوات الأمريكية بالدخول في صراع إقليمي آخر، وجزئياً أيضاً بسبب اعتبارات وحسابات سياسية تتعلق بحملة إعادة انتخابه. ويُعتقد أيضاً أنَّ ثمة عاملاً آخر يتمثّل في الخوف من العواقب المحتملة، التي قد تنجم عن الدفاع عن مثل هذا الصديق الملوثة سمعته.
من وجهة نظر خصوم المملكة السعودية، عرقل مقتل خاشقجي خطوات الأمير محمد بن سلمان، وأضعف حُجّة عائلته بأنَّها حامية أقدس المواقع الإسلامية، وهي مكانة يستمد من خلالها بيت آل سعود الكثير من شرعيته. تدعي أيضاً إيران وتركيا التحدّث نيابةً عن الإسلام ولكلٍ منهما نفوذ أقوى على المستوى الإقليمي.
تركّزت جهود الدعاية التركية على الحط من قدر الأمير بن سلمان إلى درجة يتعذر بعدها النظر إليه باعتباره وريثاً واضحاً لوالده، الملك سلمان بن عبدالعزيز.
وبذلك، يعتقد الرئيس التركي، رجب طيب أردوغان، أنَّه أضعف محوراً معارضاً يتشكّل من ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان، ولي عهد إمارة أبو ظبي، الشيخ محمد بن زايد، والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
وأصبح خاشقجي، الذي أعرب عن دعم منتظم للإسلام السياسي، بما في ذلك في أحد مقالاته الأخيرة التي كتبها لصحيفة واشنطن بوست الأمريكية، قضية رأي عام أساسية بالنسبة للرئيس التركي، وكذلك بالنسبة لأولئك، الذين يزعمون أنَّ برنامج الإصلاح بقيادة بن سلمان ما هو إلا ستار لإخفاء إجراءاته الوحشية الحقيقية إلى حدٍ كبير.
محاولات معاودة الظهور
وافق ولي العهد على إجراء مقابلتين تُبثّان قبيل ذكرى وفاة خاشقجي، وذلك بعد تواريه عن الأنظار لفترة طويلة من العام.
وقال بن سلمان في برنامج "Frontline"، المذاع على قناة PBS الأمريكية: "أنا أتحمّل المسؤولية كاملة لأن جريمة قتل خاشقجي حدثت في عهدي".
هذا التذرّع الجماعي، بدلاً من الشخصي، لم يجدِ كثيراً في إرضاء أولئك، الذين يطالبون بمثول المسؤول الفعلي أمام العدالة العالمية على إثر جريمة القتل، التي أُلقيت مسؤوليتها على عاتق فريق مكون من 15 رجلاً أُرسلوا من الرياض بهدف الترصّد لخاشقجي وقتله.
وقد أُشارت واشنطن بأصابع الاتهام إلى سعود القحطاني، أحد أكثر مستشاري الأمير بن سلمان الموثوق بهم، باعتباره العقل المُدبّر للجريمة. لم يُتّهم القحطاني بارتكاب أي جريمة، لكنَّه أعفي شكلياً من جميع مسؤولياته.
يواجه خمسة أشخاص من فريق الاغتيال السعودي المزعوم عقوبة الإعدام في الرياض، حيث لا تلقى المطالب العالمية بالانتقام لجريمة قتل خاشقجي نفس القدر من الاهتمام.
السعوديون يخافونه ولكن هل يحترمونه؟
تهيمن الأجندات المحلية على مسار الأحاديث في السعودية، حيث نادراً ما تُناقش قضية خاشقجي. وينطبق الأمر نفسه على مصير المعارضين الآخرين، الذين تحدوا الدولة السعودية ويقبعون حالياً في السجن، مثل لجين الهذلول، الناشطة في مجال حقوق المرأة المسجونة منذ عامين بتهمة تقويض الأمن الوطني السعودي.
لا يزال الكثير من المواطنين السعوديين يحجمون عن التحدُّث علناً داخل البلاد، بل حتى يخشون فعل ذلك في رحلاتهم إلى الخارج. قالت إحدى السعوديات في بيروت: "لقد تعلّمنا الطريقة السورية. يمكن أن نحظى بالحريات التي تقول الدولة أنَّها لدينا. ويبقى هذا أفضل من اللا شيء".
قبل ثلاثة أشهر، أسقطت قوانين نظام الوصاية، الذي يفرض قيوداً على قدرة المرأة السعودية على اتّخاذ العديد من قرارات حياتها، من بينها الطلاق والسفر، وهي ربما الخطوة الأكثر جذرية حتى الآن بين مجموعة الإصلاحات الثقافية والاقتصادية، التي يواصل طرحها الأمير بن سلمان.
جهود ولي العهد السعودي في الداخل لإعادة تشكيل الدولة السعودية في صورة دولة بوليسية قومية عربية -على غرار نموذج أبو ظبي وليس القاهرة- لا تزال مستمرة كما هو مخطط لها.
لكن محاولته لإعادة صياغة نفسه كرجل دولة قد فشلت، وقد لا يستطيع استعادة تلك المحاولة أبداً، ويبدو من المؤكد أنَّ وفاة خاشقجي ستظل تُشكّل تهديداً للمصير الذي يراه لنفسه، المتمثّل في تتويجه ملكاً بعد وفاة والده، البالغ من العمر 83 عاماً.
وبينما يظل بن سلمان المرشح المرجح للفوز بعرش المملكة، أصبحت محاولته للفوز بالمنطقة مجهولة على نحوٍ كبير الآن.