ليست هذه المظاهرات كأي مظاهرات شهدها العراق من قبل، فهي تتسم بأنها غير حزبية، وأن المشاركين فيها يميلون للجرأة لدرجة تلامس الطابع الانتحاري، فلماذا حملت مظاهرات العراق كل هذا الغضب؟ ومَن يقودها؟ وما هو هدفها النهائي؟
وأسفرت المعالجة الأمنية للاحتجاجات يومَي الأربعاء والخميس عن مئات الإصابات، بينها 18 قتيلاً، وفق أحدث حصيلة، كما اتخذت الحكومة العراقية إجراءات أمنية مشددة غير مسبوقة تعكس حقيقة الأوضاع المعقدة التي يشهدها العراق، والخشية من دخول البلاد في دوامة فوضى أمنية مجهولة العواقب.
وسبق أن اندلعت مظاهرات عديدة في العراق تطالب بالإصلاح خلال السنوات الماضية في العراق المطالبة بالإصلاح، وتوفير الخدمات والقضاء على الفساد الذي كلَّف الدولة 450 مليار دولار في 16 عاماً.
ولكن هذه التظاهرات تتسم بأنَّها شعبيةٌ بصفة خالصة، ولا راية تعلو بها غير راية العراق، والأحزاب التي كانت تركب أية موجة للغضب من أجل العبور بها إلى ضفة المكاسب السياسية لم يصدر عنها أي رد فعل، على الأقل حتى كتابة هذا التقرير.
من أين بدأت التظاهرات؟ وكيف؟.. إنهم نخبة العراق
قبل هذه الموجة العالية من التظاهرات، كانت هنالك تظاهرات يومية تحدث في العاصمة العراقية بغداد، ومدن الجنوب، لكن؛ بالنسبة للعراقيين دخلت تلك التظاهرات في تصنيف العادي، وحتى التظاهرات الأسبوعية التي تخرج كل جمعة –عقب خطبة المرجعية الدينية في النجف- وخصوصاً في ساحة التحرير ببغداد، لم تكن سوى مادة تسد بها وسائل الإعلام العراقية النقص الحاصل في نشراتها ودورياتها الإخبارية.
لكنَّ شيئاً ما كان يحدث بعيداً عن الساحات تلك، وأسس بشكل قوي لما يحدث من غضب الآن؛ إنها اعتصامات حملة الشهادات العليا.
منذ عدة أشهر بدأ حمَلة الشهادات العليا العاطلون عن العمل في العراق، بما يطلقون عليه الاعتصامات المفتوحة، كلٌّ أمام وزارة تخصصه، حيث يعتصم مهندسو النفط أمام وزارة النفط، والأطباء والممرضون والصيادلة أمام وزارة الصحة، وخريجو الكليات التربوية والآداب أمام وزارة التربية، وهكذا.
وكانت الصور والفيديوهات التي تُبث من هناك على مواقع التواصل الاجتماعي تؤسس لغضب يتصاعد كلَّما تصاعد الكشف عن فضائح الفساد في مؤسسات الدولة المفككة.صورة متاحة للتضمين
الحدث الفاصل.. فض الاعتصام
في الرابع والعشرين من سبتمبر/أيلول 2019، فضت قوات مكافحة الشغب اعتصاماً مفتوحاً لحمَلة الشهادات العليا استمر 100 يوم أمام مجلس الوزراء العراقي في منطقة العلاوي وسط العاصمة بغداد، واستخدمت قوات مكافحة الشغب خراطيم المياه والغاز المسيل للدموع والقنابل الحارقة لتفريق المعتصمين.
هذا الإجراء القمعي ساهم في زيادة الاحتقان الشعبي ضد الحكومة العاجزة عن توفير أي شيء للشعب الذي يعاني منذ 16 عاماً، وانتشرت على شبكات التواصل الاجتماعي صوراً تظهر الإذلال الذي تعرض له أكاديميو العراق العاطلون عن العمل، وسرعان ما خرجت تظاهرات في مدن عراقية عدة تندد بالقمع الذي يتعرض له العراقيون على أيدي أجهزة السلطة.
كما استنكرت منظمات حقوقية استخدام القوة لفض الاعتصام السلمي، وأجبر اتساعُ رقعة التنديد وزارة الداخلية العراقية إلى تشكيل لجنة للتحقيق في أعمال العنف المرتكبة من قِبل قوة مكافحة الشغب.
وكأن كل أحداث العراق الكبرى تبدأ بفض اعتصام، إذ أدى فض رئيس الوزراء العراقي الأسبق نوري المالكي لاعتصام الأنبار عام 2013 إلى استقالة 44 نائباً من البرلمان العراقي، ويعتقد أنه له علاقة بازدياد قوة داعش.
فيديو
الملاحظ في كل هذه التظاهرات وما سبقها، وحتى تلك التي كان ينظمها التيار الصدري، ميلها إلى المجاهرة في رفض التدخل الإيراني وتبعية الأحزاب الحاكمة لإيران، ولا يفوت العراقيون أي تجمَّع جماهيري دون ترديد هتافات من مثل: "إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة".
ولعل النبرة الأعلى ضد النفوذ الإيراني كانت في التظاهرات التي انطلقت عام 2016 وجرى خلالها اقتحام مقرات الأحزاب الإسلامية "الشيعية" الموالية لإيران، كحزب الدعوة الإسلامي، وحزب الفضيلة، ومقر ميليشيا عصائب أهل الحق الممولة من إيران.
انتفاضة ضد الفاسدين
ليس كما يُشاع في الأوساط غير العراقية؛ من أن التظاهرات الحالية خرجت للدفاع عن الفريق الركن عبد الوهاب الساعدي الذي شغل منصب نائب قائد قوات جهاز مكافحة الارهاب العراقية منذ 2014 حتى 2019 والذي نُقِل بقرار من رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي إلى إمرة الجيش، وهذا ما عدَّه الساعدي تحجيماً له وإهانة لتاريخه العسكري في القتال ضد تنظيم داعش.
ففي حديث لموقع عربي بوست يرى الصحفي والباحث في تحليل الأزمات صفاء خلف أن "تجدد الاحتجاجات في العراق، بالعاصمة بغداد ومدن الفرات الأوسط والجنوب، بهذا الاتساع والعفوية يعبر عن رفض حقيقي لبقاء النظام والسلطة الحاكمة، بعد أن فشل بتجربة الحكم طيلة 16 عاماً" وهذا الفشل بحسب صفاء خلف: "بات معقداً ومركباً نتيجة تعقيد بنية الفساد وتعدُّد رؤوس نهب الثروة العراقية وإفقار الناس إلى درجة استنزاف موارد البلاد على نحو غير مسبوق".
غضب من توجيه كل موارد البلاد إلى إيران وسوريا
"إنَّ غياب أية محاولات حقيقية للإصلاح وإصرار السلطة الحاكمة من أحزاب وتيارات وميليشيات على تسويف المطالب وإهمال البلاد وتوجيه الموارد نحو خدمة إيران ونظام الأسد في دمشق، إضافة إلى تعزيز موقعها كقوة غاشمة بالداخل، رسخ الاعتقاد أن السلطة لا تريد تغييراً حقيقياً، بل تحاول ترسيخ شبكة زبائنية الفساد داخل المجتمع"، حسبما يقول صفاء خلف لـ "عربي بوست".
وعن تعريف هذه التظاهرات، يقول صفاء خلف: "إنَّها انتفاضة تعبّر عن يأس عميق من قدرة هذا النظام على التغيير، وتعبر عن رغبة الناس بالانتحار الجماعي عبر التظاهر أمام قسوة وهمجية القمع بالرصاص الحي كموقف شجاع للخلاص من الواقع المزري"، حسب تعبيره.
"وما يميز هذه الاحتجاجات أنها انطلقت من مجموعات شبابية من خريجي الجامعات وحملة الشهادات العليا، انضم إليهم أطياف شبابية من العاطلين عن العمل اليائسين"، حسب تعبيره.
سأل "عربي بوست" صفاء خلف عن موقف السلطة مما يحدث في الشارع العراقي المشتعل، وكان رده: "السلطة الآن بموقف اليائس، لا يمكنها احتواء الاحتجاجات بأية وعود سوى عبر القمع. فهي عاجزة عن التوظيف، أو إيجاد مصادر تمويل لإنعاش الاقتصاد، بعد استنزفت كامل مبيعات النفط البالغة 80 ملياراً سنوياً، مع عجز متوقع العام المقبل يصل إلى 50 مليار دولار.، لذا فالناس باتت على قناعة بأن النظام لا يمكن إصلاحه، والجيل الجديد لا يمكنه أن يصدق شعارات الإصلاح لقناعته بفساد السلطة وأحزابها".
حصيلة يومين من التظاهرات والقمع
رغم دعوات ضبط النفس، فإنَّ قوات الأمن ولليوم الثاني على التوالي لم تتوانَ عن استخدام الرصاص الحي والغاز المسيل للدموع لتفريق التظاهرات في العاصمة العراقية بغداد ومدن الجنوب، ونتج عن هذا العنف وقوع ضحايا في صفوف المتظاهرين، حيث وفي آخر تحديث نشرته وكالة رويترز للأنباء نقلاً عن مصادر طبية عراقية، بلغ عدد القتلى منذ اندلاع الاحتجاجات 18 قتيلاً وإصابة أكثر من 400.
بغداد وبابل والناصرية والسماوة والنجف وديالى وواسط كلها محافظات شهدت احتجاجات واسعة، حيث لجأ المتظاهرون إلى إشعال الإطارات في الشوارع لمنع قوات الأمن من الوصول إليهم، وقد حصل "عربي بوست" على فيديوهات خاصة من بغداد وبابل والسماوة تُظهر اتساع رقعة الاحتجاجات.فيديو
المتظاهرون يسيطرون على منطقة كاملة 4 ساعات
الصحفي خليل بركات نقل لـ "عربي بوست" مشاهداته عن التظاهرات في محافظة المثنى، مؤكداً أنَّها خرجت عن سيطرة القوات الأمنية، حيث انقسمت إلى تظاهرتين كبيرتين، واحدة في قضاء الرميثة، حيث قطع المتظاهرون كل الطرق المؤدية إلى القضاء، والثانية في مركز مدينة السماوة، حيث اشتبك المحتجون مع قوات الأمن ورشقوها بالحجارة، ومن ثم تجمهر المدنيون في ساحة الاحتفالات المقابلة لمبنى مجلس المحافظة، وبحسب ما أكد خليل بركات لـ "عربي بوست" فإن المتظاهرين سيطروا على تلك المنطقة لمدة أربع ساعات، قبل أن تدخل قوات مكافحة الشغب وتطردهم من المكان.فيديو
خليل بركات أضاف لـ "عربي بوست" أنَّ تنسيقية شباب المثنى بدأت الحشد لتظاهرة كبيرة لإجبار السلطات على سماعهم والاستجابة لمطالبهم، وتوفير فرص عمل لائقة بأبناء المحافظة.
أما في بابل فقد قطع المتظاهرون الطريق الرابط بين مدينة الحلة وبغداد، ومن ساحة الحرية في الحلة توجه المحتجون لاقتحام مبنى الحكومة المحلية في بابل، مهددين باعتصام مفتوح لحين الاستجابة لمطالبهم.
السلطات العراقية تقطع الإنترنت للسيطرة على المتظاهرين، ولكن النتيجة فاجأتها
بعد جلسة طارئة خرج مجلس الأمن الوطني العراقي الذي يضم قيادات عسكرية وأمنية ببيانٍ، يدعو إلى حرية التظاهر والتعبير، ويؤكد على المطالب المشروعة للمتظاهرين، ولكن في الوقت نفسه قرّرت السلطات التي يتبع لها المجلس قطع شبكة الإنترنت في عموم العراق، من أجل السيطرة على غليان الشارع، ومنع تمدد خارطة الغضب في بقية مدن العراق.
"عربي بوست" حصل على خطاب سرّي موجَّه من مكتب رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي إلى كلٍّ من: وزارة الاتصالات، وجهاز المخابرات، وجهاز الأمن الوطني، ووزارة النقل والمواصلات، وهيئة الإعلام والاتصالات، يدعو فيه رئيس الوزراء إلى قطع شبكة الإنترنت، وحجب مواقع التواصل الاجتماعي، مستشهداً بتجربة سابقة يقول الكتاب إنَّها ساهمت في احتواء المتظاهرين حينها والسيطرة عليهم، من خلال قطع الإنترنت. صورة
بعد قطع الإنترنت، وعلى عكس ما خطَّطت له الحكومة، توسَّعت دائرة الاحتجاجات وازدادت معها وتيرة القمع في جميع المدن العراقية الغاضبة. ففي بغداد، وخلال الليلة الثانية (التي فُرض فيها حظر للتجوال) اندلعت اشتباكات بين قوات الأمن والمتظاهرين في ساحة التحرير، انتهت بتفريق الناس الذين توجَّهوا إلى ساحة الطيران، وسط المدينة، ومنها بدأت محاولات اقتحام المنطقة الخضراء شديدة التحصين.
في بغداد أيضاً تجمَّع آلاف المتظاهرين في ساحة عباس بن فرناس، القريبة من مطار بغداد الدولي، وبادرت قوات الأمن إلى قطع الطريق الرابط بين بغداد والمحافظات الجنوبية، وهناك في الجنوب لم يكن الوضع أقل توتراً مما هو عليه في بغداد، حيث اقتحم متظاهرون مبنى مجلس محافظة ميسان، وأضرموا فيه النيران، فيما حاصر محتجون مبنى محافظة كربلاء، في محاولة لاقتحامه أيضاً، وفي محافظة الديوانية أيضاً أحرق متظاهرون مدخلَ مجلس المحافظة.
الصحفي والناشط المدني كرار علي، من بغداد، رفض خلال حديثه لـ "عربي بوست" محاولات الحكومة، وما سمَّاها جيوش الأحزاب الإلكترونية لتشويه صورة التظاهرات وبثّ الشائعات، التي تفيد بوجود مندسّين أو بعثيين أو دواعش، وقال: "هذه شماعة الحكومة التي تعلق عليها فشلها، وكليشة الأحزاب الموالية لإيران وميليشياتها التي تدّعي حمايتنا، وهاي هي تقتلنا في الشوارع فيما هم يتنعمون في القصور".
وأضاف "اليوم في الزعفرانية أطلقوا النار على سيارة مدنية وأحرقوها، واحترقت معها طفلة في الصف الرابع الابتدائي، كانت عائدة من المدرسة إلى بيتها، إنّهم يقتلوننا بلا رحمة".
وعن الوضع في بغداد قال كرار علي لـ "عربي بوست" إنَّ جميع الطرق الرئيسية مغلقة، وهنالك انتشار غير مسبوق لقوات الأمن، وبخاصة قوات مكافحة الشغب المتهمة بقمع المتظاهرين، لكنه تحدث أيضاً عن عزم الأهالي هناك على الخروج بتظاهرة مليونية يوم الجمعة القادم لـ "إسقاط النظام"، حسب تعبيره.
أما في محافظة ذي قار، فقد فرضت السلطات هناك حظراً للتجوال، بعد اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الأمن، سقط خلالها قتيلان اثنان وعشرات الجرحى، وفيما دعا محافظ ذي قار يحيى الناصري إلى التهدئة وضبط النفس والتعاون مع القوات الأمنية، أكد ناشطون أنَّ قوات مكافحة الإرهاب نزلت إلى شوارع المحافظة لبسط السيطرة ومنع التظاهر هناك.
الموقف الرسمي من الاحتجاجات الشعبية
بالعودة إلى بغداد، ولكن ليس إلى شوارعها الغاضبة؛ بل إلى قصورها، حيث عقدت الرئاسات الثلاث (الجمهورية والوزراء والبرلمان) اجتماعاً عاجلاً ضمَّ كلاً من: رئيس الجمهورية برهم صالح، ورئيس الحكومة عادل عبدالمهدي، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي، وقال عنه تلفزيون العراق الرسمي إنه "لبحث آلية الاستجابة لمطالب المحتجين".
أما وزارة الدفاع العراقية، فقد أعلنت عن تأهّب قطاعاتها العسكرية في جميع البلاد لـ "حفظ سيادة الدولة والمنشآت الحكومية والأهداف الحيوية والسفارات والبعثات الدبلوماسية كافة"، ليعقب ذلك إعلان حظر التجوال في عموم مناطق بغداد حتى إشعار آخر.
على غير العادة عند اندلاع أي تظاهرات، فلَم تَصدر حتى وقت كتابة هذا التقرير أيُّ مواقف سياسية أو ردود فعل من قِبَل الأحزاب المشاركة في السلطة.
وفي حديثه مع "عربي بوست" عزا أستاذ العلوم السياسية في جامعة السليمانية، الدكتور الناصر دريد، هذا الإحجام عن إصدار أي بيان إلى "ذهول الطبقة السياسية وصدمتها من تحرك الشارع العراقي بهذه العفوية والغزارة ضد كل الأحزاب، وما جاءت به بعد 2003". وأكد الناصر دريد على "هشاشة النظام العراقي الحالي وتآكله من الداخل، واستقوائه بالميليشيات المسلحة لردع أي محاولة للتغيير".
ولكن ماذا عن موقف التيار الصدري؟
"عربي بوست" حاول الحصول على موقف التيار الصدري، الذي اعتاد قبل فوزه بانتخابات عام 2008 على الخروج بمظاهرات مليونية ضد الفساد، لكن ورغم محاولات كثيرة للاتصال بالسيد صلاح العبيدي الناطق الرسمي باسم التيار الصدري لم يأت الرد.
إلا أنَّ موقف التيار من الاحتجاجات التي خرجت عن دائرته هذه المرة يمكن معرفته من تغريدة لزعيمه مقتدى الصدر، الذي رأى فيها أنه من غير المصلحة تحول التظاهرات الشعبية إلى ما سمَّاها "تظاهرات تيارية"، وإلا كان أَمَر أنصاره بمساندتها، لكنه ترك الباب مفتوحاً على احتمالية دخول على الخط، حين دعا إلى أنصاره إلى تعزيزها باعتصامات مفتوحة وإضراب عام يشترك به كل الشعب.