للمرة الأولى، رفع المحتجون في العراق سقف مطالبهم للمطالبة بإسقاط الحكومة، على غير موجات احتجاجات سابقة في سنوات 2016 و2018، كان غالباً التيار الصدري، بالتحالف مع قوى سياسية أخرى، التيار المدني والحزب الشيوعي، هو المنظم لها بسقف مطالب لا تتعدى الخدمات والإصلاح السياسي ومكافحة الفساد.
احتجاجات بعيدة عن الطائفية
الاحتجاجات اتسع نطاقها بنسب متفاوتة لتشمل، بالإضافة إلى العاصمة، نحو تسع محافظات في جنوب العراق ووسطه، ذات كثافة شيعية، ورغم عدم وجود أي مؤشرات على مشاركة المحافظات السنية في غرب وشمال غرب العراق بهذه الاحتجاجات لأسباب تتعلق بتوقعات استخدام القوات الأمنية وسائل قمع "عنيفة"، تبقى الاحتجاجات خالية من أي بُعد طائفي.
وأسفرت المعالجة الأمنية للاحتجاجات يومي الأربعاء والخميس عن مئات الإصابات، بينها 12 قتيلاً، وفق أحدث حصيلة، كما اتخذت الحكومة العراقية إجراءات أمنية مشددة غير مسبوقة تعكس حقيقة الأوضاع المعقدة التي يشهدها العراق، والخشية من دخول البلاد في دوامة فوضى أمنية مجهولة العواقب.
ليس هناك ما يؤكد الجهة المتسببة بمقتل وإصابة مئات المحتجين، وكذلك العشرات من عناصر القوات الأمنية، في ذات الوقت الذي أعلنت فيه الحكومة العراقية تشكيل لجنة للتحقيق في تلك الحوادث.
حاولت الحكومة العراقية فرض سلطتها في العاصمة والمدن الأخرى عبر سلسلة من إجراءات غلق الطرق المؤدية إلى ساحة التحرير وسط بغداد والمنطقة الخضراء مركز الحكم ومقرات السفارات الأجنبية، وحجب كلي لمواقع التواصل الاجتماعي عن مناطق التوتر في الأحياء الشرقية من العاصمة، وهي أحياء ذات أغلبية شيعية.
وأعلنت وزارة الدفاع العراقية حالة التأهب القصوى، فيما أعلن رئيس الوزراء بصفته القائد العام للقوات المسلحة حظراً للتجوال في بغداد منذ فجر الخميس 3 أكتوبر/تشرين الأول دون تحديد موعد لرفعه.
سيكون من نتائج قرار فرض حظر التجوال أن تخف حدة الاحتجاجات في العاصمة وضواحيها مع احتمالات أكبر لانتقالها إلى محافظات وسط وجنوب العراق بشكل "قد" يتخذ طابعاً أكثر عنفاً وخروج محافظة أو أكثر عن سيطرة الحكومة المركزية.
لا شك أن هذه الموجة من الاحتجاجات، وهي الموجة الرابعة، هي الأعلى صوتاً في رفض مجمل العملية السياسية والمطالبة بإسقاط الحكومة، والتركيز على إخراج إيران من العراق، وهو ما أعلنت عنه صراحة شعارات وهتافات للمحتجين.
طهران أم واشنطن.. هل من محرك؟
تركيز المحتجين على إخراج إيران من العراق خلق رأياً لدى قادة فصائل مسلحة بوجود صلة ما بين المحتجين والأمريكيين.
وفي حين لا توجد مؤشرات على ارتباط المحتجين بأي جهة خارجية، وأن مطالبهم في الأساس اقتصادية اجتماعية، هناك ثمة "اتهامات" من أطراف محلية حليفة لإيران بوجود صلة ما بين المحتجين والولايات المتحدة.
وقبيل انطلاق الموجة الجديدة من الاحتجاجات في الأول من أكتوبر/تشرين الأول، صرح الأمين العام لحركة "عصائب أهل الحق"، قيس الخزعلي، بأن "التظاهرات التي يزعم انطلاقها الثلاثاء، 1 أكتوبر/تشرين الأول مرتبطة بصفقة القرن (الأمريكية لتسوية القضية الفلسطينية) في سياق عمل كبير من جهات داخلية مع خطاب إعلامي متصاعد لتطويع الرأي العام مع صفقة القرن"، وأن هذه "التظاهرات ذات دوافع سياسية".
من جهته، أكد أن التيار الصدري الذي يقود تحالف سائرون أكد أن "التظاهرات لا تمثل التحالف أو توجه زعاماته على الرغم من عدم تحقيق الحكومة أي إنجازات على الساحة الخدمية أو الاقتصادية أو السياسية"، وهي عوامل دفعت التيار الصدري لتنظيم احتجاجات عدة طيلة السنوات الماضية.
ظل العنوان الأهم للاحتجاجات معاناة العراقيين من تردي الأوضاع المعيشية وسوء الخدمات الأساسية ومكافحة الفساد الذي ينخر مؤسسات الدولة العراقية، الأمنية والعسكرية والاقتصادية والخدمية، بالإضافة إلى توفير فرص العمل، ولا يبدو للآن أنها مسيّسة من أي جهة.
قد تكون الاحتجاجات الراهنة هي التحدي الأخطر الذي يواجه حكومة رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي منذ تشكيلها قبل أقل من عام.
وفي محاولة منه للخروج من الأزمة، عقد رئيس الوزراء اجتماعاً لمجلس الأمن الوطني برئاسته استنكر أعمال العنف التي رافقت الاحتجاجات مع وعود باتخاذ تدابير لحماية المواطنين والممتلكات العامة والعمل على تلبية مطالب المحتجين.
وألقت وزارة الداخلية العراقية مسؤولية "التحريض على العنف على مجموعة من مثيري الشغب".
ماذا بعد؟
يعتقد خبراء أن ردود أفعال الحكومة العراقية "مبالغ فيها"، وأنها تسببت في إبراز الاحتجاجات إلى صدارة المشهد الإعلامي والاهتمام السياسي لدول مثل الولايات المتحدة ومنظمات دولية عدة.
ولم تتفق الرئاسات الثلاث على موقف موحد إزاء الاحتجاجات.
في بيانين منفصلين، أيد رئيس الجمهورية ورئيس مجلس النواب الحق في التظاهر السلمي مع ضرورة عدم الاعتداء من قبلهم على القوات الأمنية والممتلكات العامة.
أما رئيس الوزراء عادل عبدالمهدي فقد أكد حرص حكومته على "وضع حلول حقيقية جذرية للكثير من المشاكل المتراكمة"، وأن الحكومة "لا تفرق بين المتظاهرين الذين يمارسون حقهم الدستوري في التظاهر السلمي".
لكن اجتماعاً ثانياً عقدته الرئاسات الثلاث أصدرت فجر الخميس 3 أكتوبر/تشرين الأول بياناً "عمومياً" شدّد على ضرورة التواصل مع المحتجين وتشكيل لجنة للتعامل مع مطالبهم، بالإضافة إلى الشروع في تنفيذ قانون الضمان الاجتماعي مع إطلاق حوار وطني شامل.
قلق إقليمي من التظاهرات
طابع العنف الذي اتسمت به الاحتجاجات الراهنة سواء من قبل المحتجين أو من قبل القوات الأمنية، أثار قلق الأطراف الإقليمية المهتمة بالشأن العراقي، مثل إيران، والأطراف الدولية، مثل الولايات المتحدة.
وتتابع الولايات المتحدة الاحتجاجات في العراق، وفق مسؤول في الخارجية الأمريكية دعا "جميع الأطراف إلى تخفيف حدة التوتر".
منذ تصاعد حدة التوترات في أيار/مايو الماضي بين الولايات المتحدة وإيران على خلفية تشديد العقوبات الأمريكية، تحول العراق بشكل ما إلى ساحة صراع بين البلدين عبر فصائل عراقية مسلحة حليفة لإيران هددت واستهدفت مرات عدة مصالح أمريكية في بغداد والبصرة.
وتستضيف الحكومة العراقية ما بين 5 إلى 8 آلاف عسكري أمريكي.
تتخوف الولايات المتحدة على مصير جنودها وآلاف العاملين في المرافق الدبلوماسية والشركات الأمريكية من استهداف القوات الحليفة لإيران.
لذلك تبذل الولايات المتحدة ما يلزم من الجهود لعدم انزلاق العراق إلى حالة من عدم الاستقرار وغياب سلطة الدولة العراقية، والحفاظ على العملية السياسية من منطلق التزامها باتفاقية الإطار الاستراتيجي لعام 2009 مع العراق.
في بيان لها، أيدت السفارة الأمريكية في بغداد "الحق في التظاهر سلمياً"، وهو حق أساسي في جميع الديمقراطيات على ألا يكون هناك مكان للعنف من أي طرف.
السفارة دعت جميع الأطراف إلى ضبط النفس.
يمكن أن تكون بواعث القلق الأمريكي أبعد من الخشية على أرواح جنودها والعاملين في العراق، ومصالحها الاقتصادية، إلى احتمالات فقدان الحكومة المركزية سيطرتها على الأوضاع في العراق.
إن فقدان الحكومة المركزية سيطرتها على الأوضاع الأمنية قد يغري القوات الحليفة لإيران لفرض الأمر الواقع والسيطرة على العاصمة والسلطة أيضاً في استنساخ لتجربة سيطرة جماعة الحوثي على العاصمة اليمنية في سبتمبر/أيلول 2014.