"لو كان عبدالفتاح السيسي قد اختار مهنةً بديلة لكانت التمثيل في المسرح بالتأكيد؛ إذ كانت نبرة صوته حين كان يعمل في المخابرات الحربية متعاطفةً وهو يؤكِّد لليبراليين والإسلاميين في ميدان التحرير، في يناير/كانون الثاني من عام 2011، أنَّ الجيش يقف إلى جانبهم. وبعد ذلك تظاهر أمام الرئيس الراحل محمد مرسي بدور القائد العسكري الأصغر سناً الملتزم دينياً"، يقول ديفيد هيرست رئيس تحرير موقع Middle East Eye البريطاني.
السيسي المنقذ؟
يتابع هيرست: لقد كانت يداه ترتجفان، وتظهر عليه انفعالاتٌ مسرحية حين كان منتظراً في غرفة جانبية في القصر الرئاسي بينما كان رئيساه آنذاك: محمد حسين طنطاوي وسامي عنان يتعرضان للإقالة من منصبي وزير الدفاع ورئيس الأركان.
وتظاهر بدور الخادم الصامت المطيع في اجتماعات مجلس الوزراء مع الرئيس مرسي، الذي كان يخطط لخيانته، إذ كان طوال الوقت ينتظر من السعوديين والإماراتيين أن يمنحوه 20 مليار دولار لإنجاح انقلابه.
وحين "استنجد" به الشعب لتخليص مصر من حكم الإخوان المسلمين، أصبح "المنقذ البطل" في يونيو/حزيران من عام 2013. وتظاهر هذا القائد العسكري "الصادق" بأنَّه لم يكن يسعى إلى الحصول على السلطة من أجله، لكنَّه سرعان ما أعلن ترشيح نفسه للرئاسة "بدافع الضرورة" دون إلحاحٍ من الشعب، غير أنَّ خلع الزيِّ العسكري وارتداء حُلَّة رسمية كان مجرَّد تغيير آخر في الملابس.
السيسي بثلاث شخصيات
بعد توليه الرئاسة، أدَّى السيسي دور ثلاث شخصياتٍ أخرى على الأقل: طبيب الفلاسفة الذي لا يتخذ قراراً دون طلب الإرشاد الإلهي أولاً، ومشيِّد المشروعات الكبرى مثل توسيع قناة السويس والمدن الجديدة، والفرعون الذي أخبر شعبه بأنَّهم سيتعين عليهم تحمُّل الفقر.
ثم توقفت عملية التظاهر بالأدوار التي يؤديها السيسي فجأةً، حين ظهر "ممثلٌ آخر" عالِم ببواطن الأمور في السُّلطة. ويبدو أنَّ معرفة حقيقة خداع شخص ما تتطلَّب شخصاً آخر يتبع نفس أساليبه، يقول هيرست.
محمد علي.. النسخة المصرية من "ديل بوي"
منذ ثلاثة أسابيع، تتعرَّض صورة السيسي لتشويهٍ كبير على يد محمد علي، وهو عالِمٌ ببواطن الأمور داخل السُّلطة تحوَّل إلى كاشفٍ عن الفساد، الذي سيطرت مقاطع الفيديو التي ينشرها من منفاه الاختياري في إسبانيا على مصر، وأصابتها بالشلل.
غير أنَّ محمد علي ليس بطلاً، باعترافه الشخصي. وبصفته أحد المتعاقدين العشرة الذين يستعين بهم الجيش فهو فاسد، فضلاً عن أنَّه غادر مصر مع عائلته وثروته، لأنَّه كان مديناً بفواتير لم يسددها، بالإضافة إلى أنَّه ليس ناشطاً حقوقياً.
وكذلك فمحمد علي ليس إسلامياً ولا يسارياً ولا باحثاً متعلماً، ولا يتحدث عن الشريعة. بل إنَّ بطل مصر الشعبي الجديد يحب السيارات الفارهة والتمثيل وإنتاج الأفلام وتطوير العقارات.
لذا يُمكن القول إنَّه نسخةٌ مصرية من شخصية ديل بوي، وهو بائعٌ متجول طموح على درايةٍ بأساليب الحياة في الشارع والتعامل مع المواقف اليومية الصعبة التي يلاقيها في الشوارع، ظهر في مسلسل Only Fools and Horses البريطاني الكوميدي، لكنَّ الاختلاف هو أنَّ محمد علي لديه سيارةٌ زرقاء من طراز فيراري، وليس عربة صفراء بثلاث عجلات.
فالاستماع إلي محمد علي يشبه سماع سائق توك توك وهو يسب سائق توك توك آخر، لكنَّه حين يتحدث فإنَّه يتحدث باللغة العامية الدارجة في الشارع، والشارع يستمع إليه، وهذه مشكلة السيسي.
إذ قال محمد علي في مقاطعه إنَّ السيسي "رجلٌ فاشل" و "عار" و "قزم" يستخدم مساحيق التجميل، ويرفع سراويله إلى الأعلى بدرجةٍ أكثر من اللازم. ووصفه بأنَّه محتالٌ يُحدِّث الناس عن ضرورة التقشف، في الوقت الذي يبني فيه قصوراً لزوجته انتصار.
وذكر محمد علي لمتابعيه قائمةً بأسماء هذه القصور: منزل فخم في الحلمية (قيمته 6 ملايين دولار)، مقر رئاسي في الإسكندرية (قيمته 15 مليون دولار)، وقصر في العاصمة الإدارية الجديدة، وآخر في مدينة العلمين الجديدة غرب الإسكندرية.
مصر.. بين الفقر و "قصور" السيسي
وقد أثار هذا الكشف عن قصور السيسي غضب قطاعٍ كبير من الشعب المصري، الذي يقبع في هاوية الفقر، أو يترنح على حافته؛ إذ أشار تقريرٌ نشره البنك الدولي في أبريل/نيسان الماضي إلى أنَّ "حوالي 60% من سكان مصر إمَّا فقراء أو عُرضة للفقر".
أي أنَّ حوالي نصف السكان يعيشون الآن عند خط الفقر -الذي رُفِع في مصر إلى حدٍّ أكبر من أي مكانٍ آخر عمداً- أو بالقرب منه. ووفقاً لإحصاءات الحكومة المصرية، ارتفعت نسبة المصريين الذين يعيشون تحت خط الفقر من 25.2 إلى 32.5% منذ عام 2011.
وشهد معظم المصريين انخفاضاً في دخلهم الحقيقي، بينما تتعرَّض مصر لتراكم كمٍّ هائل من الديون الخارجية، في إطار برنامج التقشف الذي يدعمه صندوق النقد الدولي. إذ كانت الديون الخارجية في عهد مرسي تبلغ 43 مليار دولار، لكنَّها وصلت الآن إلى 106 مليارات دولار. ويُخصَّص حوالي 70% من الضرائب الآن لسداد هذه الديون. فيما يزيد الدين الداخلي في البلاد عن 5 تريليونات جنيه مصري (حوالي 306 مليارات دولار). وبهذا المعدل يتجه الاقتصاد المصري نحو الإفلاس.
ولا شك أنَّ كل مواطنٍ مصري يتذكر الخطابات التي ألقاها السيسي حول الحاجة إلى أن يتقشفوا. فحين أجبر صندوق النقد الدولي الدولة على خفض الدفع كان رد السيسي: "أعرف أن الشعب المصري قادر على تحمُّل المزيد… وعلينا أن نفعل ذلك. وستدفعون، ستدفعون لا محالة"، حسبما قال السيسي في أحد الخطابات بعد مرور عامٍ على توليه الرئاسة.
وأضاف: "أقول هنا إنَّكم ستدفعون، ستدفعون لا محالة، هل تعرفون ماذا يعني أن يكون هناك صندوقٌ تحت إشرافي؟ هذا يعني أنَّكم لن تستطيعوا الحصول على جنيه واحد منِّي".
وأردف: "أتحدث إليكم بجدية، أنتم لا تعرفونني، اسألوا الجيش (عني)، اسألوا الجيش عمَّا كنت أفعله بفضل الله سبحانه وتعالى حين كنت في صفوفه. اسألوا المقاولين الذين عملوا معي وقت خدمتي في الجيش عمَّا كنت أفعله…".
لذا لا عجب في أن يُنصِت الجميع إلى المقاول محمد علي حين يرد على هذه التصريحات مباشرة. إذ قال محمد علي في أحد مقاطعه: "الآن تقول إننا فقراء للغاية، وإننا يجب أن نجوع، فهل تشعر أنت بالجوع؟ إنَّك تنفق ملياراتٍ وتهدرها في أشياء لا جدوى منها. ورجالك يُهدرون الملايين، أنا لا أقول سراً، أنتم مجموعة من اللصوص".
الشعب المصري صار ينصت الآن
وكان ردّ السيسي هو تأكيد كل ما قاله المقاول محمد علي. والأسوأ من ذلك أنَّه بدا وكأنه يعترف بأنَّ معلومات محمد علي كان لها تأثيرٌ في الرتب الصغيرة في الجيش. وقال السيسي: "من حقكم أن تعرفوا. إلى جميع الأمهات المسنات اللائي يصدقنني ويدعين لي، أود أن أقول لهن: ابنكم شريف ومخلص وأمين".
وأضاف: "نعم، بنيت قصوراً رئاسية، وسأواصل بناء المزيد. فأنا أبني دولةً جديدة، ولا يوجد شيء مسجل باسمي، بل باسم مصر".
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ قناة محمد علي على موقع يوتيوب شوَّهت في ثلاثة أسابيع صورة السيسي بقدرٍ أكبر من التشويه الذي ألحقه بها الإخوان المسلمون والليبراليون واليساريون -الذين تعرضوا لقمعٍ شديد بصفتهم القوى السياسية النشطة في مصر- طوال ست سنوات من الاحتجاج السياسي.
وصحيحٌ أنَّ هذه القوى يُنسب إليها الفضل في عدم انهيار المعارضة تماماً، إذ دفعت ثمن الدفاع عن موقفها بحياتها وحريتها، ولكن من العار عليها أنَّها لم تنجح في جعل الشعب المصري ينصت إليها، يقول هيرست. ويبدو أنَّ الشعب المصري صار ينصت الآن.
هذه المرة مختلفة
وتجدر الإشارة إلى أنَّ السيسي نجا من عدة عواصف سابقة، لدرجة أنَّه أقصى منافسيه العسكريين الحاليين أو السابقين على العرش بلا رحمة، إذ أقال رئيس أركان الجيش السابق محمود حجازي، وشوَّه صورة أحمد شفيق، وألقى بسامي عنان في السجن.
وهو حالياً في محطة تزوُّد بالدعم في نيويورك، حيث يتلقى إشادة من الرئيس الأمريكي دونالد ترامب. إذ قال ترامب رداً على التقارير التي تشير إلى وجود اضطراب في القاهرة: "مصر لديها قائدٌ عظيم، إنه محترم للغاية، لقد فرض النظام، وقبل قدومه كان هناك قدرٌ ضئيل للغاية من النظام -وكانت هناك حالةٌ من الفوضى- لذا فأنا لست قلقاً من ذلك على الإطلاق" .
هذا، ويعتقد السيسي أنَّه يستطيع القضاء على كل ذلك، كما قضى على التحديات التي واجهته في الماضي. إذ تعرَّض مئات المتظاهرين منذ يوم الجمعة الماضي 20 سبتمبر/أيلول للاعتقال. إذن، فلماذا يعد الوضع مختلفاً هذه المرة؟
أولاً، السيسي لديه خياران، أحدهما سيئ والآخر أسوأ: السيئ هو تجاهل المظاهرات على أمل أن تتلاشى تدريجياً، لكنَّه يجب أن يستفيق من ذلك الوهم بنظرةٍ واحدة إلى هؤلاء المتظاهرين؛ فهُم مصريون عاديون، معظمهم رجالٌ غاضبون، وهم غير منحازين إلى طرفٍ سياسي، ولا يتبعون قيادة معينة. وهؤلاء هم الأشخاص أنفسهم الذين ساندوه ضد جماعة الإخوان المسلمين في عام 2013.
والسيسي يعرف ذلك، على الرغم من أنه حين سُئِل في نيويورك عن هذه المظاهرات تمسّك بتوهُّم أنَّ الإسلام السياسي "يحاول الوصول إلى السلطة في بلادنا". عجباً؟! ألم يسحق الإخوان كما زعم؟!
أمَّا الخيار الأسوأ فهو القمع، لكن هذا الخيار كذلك يُمثِّل مصيدة مميتة للسيسي، إذ يتذكر أنَّ المظاهرات الأولى التي شهدها ميدان التحرير في يناير/كانون الثاني من عام 2011 كانت أصغر من تلك التي اندلعت في القاهرة والسويس والإسكندرية يوم الجمعة الماضي. فهذه المظاهرات الأولى كانت تدعو إلى الإصلاح، وليس رحيل حسني مبارك. أمَّا مظاهرات يوم الجمعة الماضي فشهدت تمزيق صور السيسي، وهتافاتٍ تُطالب برحيله.
لمّ شمل المصريين مجدداً كما لم يكن من قبل
وتجدر الإشارة إلى أنَّ كل ما استطاع السيسي فعله في هذه الأعوام هو إعادة خلق الظروف نفسها التي أجَّجت الربيع العربي في عام 2011، بل إنَّ الظروف الحالية أسوأ.
والسبب الثاني وراء اختلاف الوضع هذه المرة هو أنَّ "المعارضة" تضم جميع الأطراف: مصريين عاديين، وضباطاً ذوي رتب صغيرة ساخطين في الجيش، ورجال أعمال من عهد مبارك. وهذا تحالف عريض من القوى، لذا يُمكن القول إنَّ مصر قد لُمَّ شملها على يد حاكمٍ مستبد مرةً أخرى.
والسبب الثالث هو أنَّ ممولي السيسي -أي السعودية والإمارات- توقفتا عن تمويل مصر على عكس الوضع في عام 2013. فكلتا الدولتين الخليجيتين صارت لديها مشكلاتها الخاصة، وتدخلاتٌ أجنبية ذات سلبياتٍ متفاقمة، سواءٌ في اليمن أو ليبيا.
وقد كانت هناك لحظةٌ مُعبِّرة عن استياء السيسي من ذلك حين كان في بغداد في وقتٍ سابق من العام الجاري. فوفقاً لتقارير داخلية، فاجأ السيسي العراقيين باللهجة التي استخدمها عن حليفه السعودي الأمير محمد بن سلمان، ويبدو أنَّ الرئيس المصري لم يتمكن من منع نفسه من انتقاد محمد بن سلمان لأنَّه توقف عن تمويله.
يا له من اختلافٍ كبير عن الوقت الذي تباهى فيه السيسي لمدير مكتبه عباس كامل بأنَّ دول الخليج "لديها أموال مثل الأرز".
لكنَّ هذا الوضع تبدَّل الآن، ويبدو أنَّ الثورة المضادة تفقد طاقتها ورغبتها في الاستمرار.
والسبب الرابع هو أنَّ الاحتجاجات الشعبية تبرز من جديد كمحرِّك للتغيير في جميع أنحاء المنطقة؛ إذ شهدنا إسقاط الحكام المستبدين في السودان والجزائر. ويبدو أنَّ كلا البلدين تعلَّم دروس الانقلابات الفاشلة في الماضي، ونجح حتى الآن في إدارة عملية الانتقال دون تسليم ثمار الثورة للجيش. وهذا أيضاً له تأثير في الأحداث في مصر.
وأخيراً، بعد ست سنوات من الشتاء، بدأ الربيع العربي في النهوض والانتشار مجدداً. صحيحٌ أنَّ حركته بطيئة، لكنني أعتقد أنَّه غير قابل للإيقاف هذه المرة. فهل ستكون هذه نهاية عهد السيسي؟ بالتأكيد يمكن أن تكون تمثيليته الأخيرة.