في لحظة نادرة في تاريخ الدبلوماسية المصرية، وقف الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي أمام الجمعية العام للأمم المتحدة شاكياً إثيوبيا، متهماً إياها بعدم مراعاة مصالح مصر في مياه النيل، محذراً من أن هذه الممارسات ستؤثر على الاستقرار بالمنطقة.
على مدار المفاوضات بين دول حوض النيل الأرزق الثلاث مصر وإثيوبيا والسودان، كانت مصر حريصة على العلاقة مع إثيوبيا وعدم التصعيد، بل إن السيسي نفسه وقَّع اتفاقاً للمبادئ عام 2014 مع أديس أبابا والخرطوم، اعتبره كثيرون تفريطاً في الحقوق المصرية.
فعقب تولي السيسي الرئاسة عادت المفاوضات من جديد، في يونيو/حزيران 2014، وفي مارس/آذار 2015 وقَّع الرئيس المصري عبدالفتاح السيسي ونظيره السوداني عمر البشير ورئيس وزراء إثيوبيا هايلي ميريام ديسيلين، في العاصمة السودانية الخرطوم، وثيقة إعلان مبادئ "سد النهضة"، وتضمَّنت الوثيقة 10 مبادئ أساسية تتسق مع القواعد العامة في مبادئ القانون الدولي الحاكمة للتعامل مع الأنهار الدولية، رغم تصاعُد المفاوضات بين الشد والجذب بين جميع الأطراف.
وراهنت السياسة المصرية خلال مراحل التفاوض المختلفة بشكل أساسي على حسن العلاقة مع إثيوبيا وصولاً إلى محاولة إرضائها، وكان هناك موقف شهير للسيسي عندما جعل رئيس وزراء إثيوبيا الجديد آبي أحمد يقسم باللغة العربية التي لا يفهمها أنه لن يضر مصر.
واستبشر كثير من المصريين، حتى من معارضي السيسي بقدوم آبي أحمد للسلطة، فالرجل يحاول بناء الديمقراطية الإثيوبية، وترميم حقوق الإنسان، وتصفير المشاكل مع دول الجوار، حتى إنه قاد الوساطة الإفريقية التي توصلت للحل السياسي في السودان.
كل ما سبق جعل المصريين يأملون أن يكون لدى الرجل حل معتدل لمشروع سد النهضة، خاصة أنه سبق أنه نسبت له تصريحات انتقد فيها هذا المشروع.
ولكن كل هذه الآمال يبدو أنها تبدَّدت، ويبدو أن مصر وقعت في مأزق حقيقي، مأزق دفعها أولاً للاستنجاد في حالة نادرة في تاريخ مصر بأشقائها في الجامعة العربية، حيث عرض وزير الخارجية سامح شكري الوضع التفاوضي الدقيق على وزراء الخارجية العرب في اجتماعهم الأخير، في بداية سبتمبر/أيلول 2019، وكان هذا الموضوع محور المؤتمر الصحفي الذي عقده الأمين العام للجامعة العربية أحمد أبوالغيط عقب الاجتماع.
كما امتد إلى مناقشة الأمر خلال لقاء جمع نائب وزير الخارجية للشؤون الإفريقية المصري حمدي لوزا، مع سفراء الدول الأوروبية في القاهرة.
ولكن لماذا اضطرت مصر للجوء للجامعة العربية والأمم المتحدة؟
جاء هذا الموقف المصري بعدما رفضت وزارة الخارجية الإثيوبية في بيان حاد اللهجة، الجمعة 20 سبتمبر/أيلول، أحدث مقترح لمصر بشأن مشروع سد ضخم على نهر النيل، ووصفته بأنه "ضد سيادة إثيوبيا" .
جاء البيان الإثيوبي بعد وقت قصير على إعلان مصر فشل جولة جديدة من المحادثات حول ملء وتشغيل سد النهضة الإثيوبي، الذي سيكتمل قريباً، في إحراز تقدم. وكانت المباحثات قد استؤنفت بعد أكثر من عام.
ولم تكشف إثيوبيا عن السرعة التي ترغب ملء الخزان بها، وهو ما سيؤثر على كمية المياه المتاحة لمصر والسودان، ولجأت إلى تأجيل التفاوض حول هذه المسألة مراراً.
الأمر الذي دفع مصر إلى تقديم مقترحها، حيث قالت إنها تريد من إثيوبيا ملء خزان السد على مدار فترة زمنية أطول (7 سنوات) وإطلاق نحو 40 مليار متر مكعب من المياه كل عام، وفقاً لما قاله سيليشي بيكيل، وزير المياه والري الإثيوبي لقناة إي بي سي الرسمية هذا الأسبوع.
ويختلف البلدان على حجم المياه التي ستتدفق سنوياً إلى مصر وكيفية إدارتها خلال فترات الجفاف.
وتعتمد مصر على النيل لتلبية 90% من احتياجاتها من المياه العذبة، وتريد أن يسمح خزان السد بتصريف كمية من المياه أكبر مما تريده إثيوبيا، إلى جانب نقاط خلاف أخرى.
ويتفق المقترحان على أن المرحلة الأولى من المراحل الخمس لملء السد ستستغرق عامين، وفي نهاية المطاف سيتم ملء خزان السد في إثيوبيا إلى 595 متراً وستصبح جميع توربينات الطاقة الكهرومائية في السد جاهزة للعمل.
لكن الاقتراح المصري يقول إنه إذا تزامنت هذه المرحلة الأولى مع فترة جفاف شديد في النيل الأزرق في إثيوبيا، على غرار ما حدث في 1979 و1980، فيجب تمديد فترة العامين للحفاظ على منسوب المياه في السد العالي بأسوان من التراجع إلى أقل من 165 متراً.
وتقول مصر إنها ستكون من دون هذا عُرضة لفقد أكثر من مليون وظيفة و1.8 مليار دولار من الناتج الاقتصادي سنوياً، كما ستفقد كهرباء بقيمة 300 مليون دولار.
تحذير أم تهديد
اللافت أن السيسي قال في كلمته في الجمعية العامة إنه مع إقرارنا لحق إثيوبيا في التنمية، فإن مياه النيل بالنسبة لمصر مسألة حياة، وقضية وجود، وهو ما يضع مسؤولية كبرى على المجتمع الدولي للاضطلاع بدور بناء في حث جميع الأطراف على التحلي بالمرونة، سعياً للتوصل لاتفاق مُرض للجميع.
وهذه الكلمات حمَّالة أوجه، فقد يُفهم منها أنها تهديد، أو قد يفهم منها أن النيل هو سبب الحياة في مصر، وغيابه يعني الموت.
وبعد التحذير توجه السيسي للمجتمع الدولي مطالباً إياه بالتدخل.
ولكن هل يمكن للأمم المتحدة التدخل في هذه القضية، وضمان الأمن المائي لمصر والسودان.
يمكن بطبيعة الحال للأمم المتحدة أن تتدخل بموافقة الدولتين، أما في حالة طلب واحدة يصبح الأمر أكثر تعقيداً.
هل يمكن للأمم المتحدة فرض عقوبات على إثيوبيا؟
"مصر ستلجأ للقنوات الشرعية في الأمم المتحدة والمنظمات الدولية، مستندة للعلاقة القوية بالصين وفرنسا وروسيا والولايات المتحدة الأمريكية في مجلس الأمن، التي من الممكن أن تصدر قراراً وينتهي بعقوبات دولية" .
كانت هذه كلمات أحمد العناني عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية، وهو مجلس غير رسمي مقرب للخارجية المصرية، يضم العديد من السفراء السابقين.
ولكن المشكلة أن الأمم المتحدة والمنظمات الدولية لا تفرض عقوبات على الدول من تلقاء نفسها.
فالعقوبات الأممية هي قرار يتخذه مجلس الأمن.
يمكن أن تتعرض إثيوبيا لنوع من العقوبات السالبة، أي حرمانها من بعض امتيازات مشروعات الأمم المتحدة والمنظمات التابعة لها، ولكن يظل هذا ليس قرار الأمم المتحدة، بل هو قرار الدول الكبرى المتحكمة في القرار الأممي.
اللجوء للدول العظمى الصديقة للضغط على إثيوبيا
يبدو من كلام عضو المجلس المصري للشؤون الخارجية أن هناك رهاناً على لدى بعض الدوائر المصرية على التوجه للدول الكبرى الصديقة لفرض عقوبات على إثيوبيا أو الضغط عليها.
لا تعني علاقة هذه الدول بمصر أو إظهارهم الصداقة للرئيس السيسي بأنهم سيفرضون عقوبات على إثيوبيا حتى لو كانت على خطأ، فالسياسة الدولية لا تقوم على الحق والباطل.
وكما أن مصر دولة مهمة ومحورية في منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا، فإن إثيوبيا دولة محورية في القرن الإفريقي وشرق إفريقيا.
وتحظى إثيوبيا باهتمام غربي ورعاية دولية لأسباب متعددة.
فأولاً فهناك توجّه غربي لاسيما أوروبي للاهتمام بالقارة الإفريقية.
جزء من هذا الاهتمام يعود لأسباب استراتيجية واقتصادية، وجزء يتعلق بالرغبة في التكفير عن التاريخ الاستعماري.
كما أنه أصبح ينظر لمساعدة إفريقيا في الدوائر الغربية الليبرالية واليسارية على أنها نموذج للتقدمية والحداثة.
ويعزز هذه التوجهات أن القارة السمراء تشهد محاولات إيجابية للتنمية وتحقيق الديمقراطية تزيد من الاهتمام الغربي.
وتقع إثيوبيا في قلب خطوط هذه الاهتمامات المتنوعة لديها، إثيوبيا ثاني أكبر بلد سكاناً بعد القاهرة، وهو بلد ذو تاريخ مسيحي عريق وإمبراطوري غامض يعطيه جاذبية لدى الغرب، كما أنه يخطو ببطء نحو الديمقراطية ويحقق معدلات نمو لافتة، والأهم أن له تأثيراً كبيراً في محيطه المضطرب وفي مدخل البحر الأحمر الاستراتيجي حتى لو لم تطل عليه.
ليست هذه مفاضلة بين الأهمية الاستراتيجية لمصر وإثيوبيا، ولكن توضيح أن إثيوبيا بلد مهم أيضاً وبالتالي افتراض أن الدول الكبرى ستهرع لنجدة مصر نتيجة وزنها الاستراتيجي أو صداقاتهم الافتراضية بالرئيس السيسي أمر يبدو مستبعداً.
الاحتمال الأقرب أن يكون هناك وساطة سواء من قبل إحدى الدول الغربية أو جهة أممية، ويظل احتمال نجاح هذه الوساطة مرتبطاً بمدى استعداد الجانب الإثيوبي، أو التلويح بفرض عقوبات دولية وهو أمر صعب التحقيق.
اللجوء للحلفاء العرب.. جرِّب من قبل
حتى قبل لجوء مصر للجامعة العربية في اجتماعها الأخير للحديث عن أزمتها مع إثيوبيا، فإنه يعتقد أن السيسي لجأ منذ سنوات إلى صديقيه الخليجيين الأثيرين الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي، والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبوظبي للمساعدة في حل هذه الأزمة المصيرية.
وهذا أمر يبدو طبيعياً في ظل العلاقة الوثيقة معهما، وكذلك لأن هذه الدول لديها مصالح مع إثيوبيا يمكن استغلالها للضغط على أديس أبابا.
وسبق أن قدمت الإمارات ثلاثة مليارات دولار إلى إثيوبيا بعد تولي آبي أحمد الحكم، وقيل إن هذه الأموال جاءت باتفاق مصري سعودي إماراتي لحل أزمة سد النهضة.
ولكن يبدو أن إثيوبيا لا تقول لا للأموال دون تقديم مقابل حقيقي فيما يتعلق بتحديد كمية المياه التي ستحتجزها في سد النهضة ووضع أسس لمعالجة الأزمة.
كما أن التجربة تفيد بأن الحليفين الخليجيين لا يمكن الاعتماد عليهما بشكل وثيق.
فأولاً هناك استثمارات خليجية ضخمة في إثيوبيا لاسيما السعودية وهي استثمارات أغلبها في مجال الزراعة ما يجعل بناء السد مصلحة سعودية في وقت تسعى المملكة لترشيد الزراعة على أراضيها مع تراجع مخزونها من المياه الجوفية.
كما أن تجربة الانسحاب الإماراتي من اليمن وترك الرياض وحدها في مواجهة الحوثيين تشير إلى أن أعضاء الحلف الثلاثي ليسوا موثوقين كما ينبغي، خاصة أن الحلف نشأ أصلاً في مواجهة الربيع العربي والإخوان المسلمين، وليس في مواجهة إثيوبيا.
إنها الحرب إذاً.. خيار شعبوي
تتحدث كثير من الدوائر الشعبية في مصر عن الحرب مع إثيوبيا كخيار وحيد لتدمير سد النهضة والقضاء على خطر تعرض مصر للعطش.
ويشجعهم على هذا التفكير (الذي لا تتبناه الدولة رسمياً على الإطلاق)، المقارنات التي تظهر على الإنترنت بين قدرات الجيش المصري الذي يصنف أحياناً كأقوى جيش في إفريقيا والحادي عشر على العالم، والذي تظهر فارقاً هائلاً عن قدرات نظيره الإثيوبي.
ويتحدث الكثيرون عن أن الرئيس المصري أنور السادات هدد بقصف إثيوبيا إن بنت سداً على النيل، وفي روايات أخرى متداولة أنه قصف بالفعل إثيوبيا، وهي روايات ليست صحيحة.
ولكن الحروب ليس مجرد أرقام وعدد أسلحة، ولكنها جغرافيا وظروف مناخية وطبيعة بشرية.
فإثيوبيا هي واحدة أكثر البلدان جبلية على وجه الأرض وكانت الهضبة الإثيوبية قلعة عصية دوماً على الغزاة، وقد حاربت مصر إثيوبيا مرتين في عهد الخديوي إسماعيل في القرن التاسع عشر وهزمت في كلاهما، علماً أن مصر كانت في ذلك الوقت أكثر تقدماً بكثير من إثيوبيا التي كانت تسمى الحبشة آنذاك، كما أن جيشها كان يقوده ضباط أوروبيون.
ولقد حاولت إيطاليا غزو إثيوبيا وفشلت في القرن التاسع عشر رغم أنها كانت تحتل الصومال وإريتريا المجاورتين، ثم نجحت بتكلفة كبيرة في تحقيق ذلك في ثلاثينات القرن العشرين قبل الحرب العالمية الثانية.
والجيش السعودي فشل في تحقيق أي تقدم في اليمن التي تشبه طبيعتها الجغرافية إثيوبيا، رغم أن لديه واحد من أفضل القوات الجوية في المنطقة ولديه حلفاء على الأرض، كما أن اليمن أقل سكاناً ومساحة من إثيوبيا.
والجيش الأمريكي أقوى جيش في العالم، فشل في هزيمة طالبان في أفغانستان التي تشبه إثيوبيا في جبليتها وإن كانت أقل في المساحة.
أما التفكير في الاكتفاء بقصف السد دون التورط في معركة على الأرض، فإنه يظل خياراً مستبعداً أيضاً.
فمن الناحية العسكرية قصف السدود عملية معقدة تحتاج لذخائر متطورة تمتلكها الدول المتقدمة ويزيد من تعقيد الغارة المحتملة بعد المسافة.
وبالإضافة إلى الردود الدولية والإفريقية المتوقعة فإن تدمير السد قد يثير عداء الشعب الإثيوبي وقد يطلق ردود فعل غير متوقعة، وسيظل النيل يأتي من إثيوبيا حتى لو تم تدمير السد.
يظل لجوء مصر للأمم المتحدة والجامعة العربية قد له يكون تفسير أنه في إطار محاولات الأطراف لتحسين موقفهما التفاوضي قبل التباحث حول القضايا الأكثر إشكالية بشأن كمية المياه التي ستكون متاحة خلال فترة ملء السد، وأن المفاوضات يمكن أن تستأنف مرة ثانية.
ولكن مشكلة التفاوض المصري أن لديه قليلاً جداً من الأوراق التي تكاد تكون جميعها في يد المفاوض الإثيوبي.