المقاول والفنان محمد علي أصبح أشهر شخصية في مصر منذ بدأ ينشر فيديوهات وجَّه فيها اتهامات بالفساد للرئيس المصري عبدالفتاح السيسي وأسرته، فمن هو محمد علي، ومتى بدأت "حملته" على الفساد، وكيف تطوَّرت بهذه السرعة إلى حدِّ الدعوة للتظاهر وتحقّق ذلك فعلاً ولو جزئياً؟
متى كانت البداية؟
قبل نحو ثلاثة أسابيع بدأت تنتشر على الإنترنت مقاطع فيديو لمحمد علي، تحدَّث فيها عن ملايين الجنيهات، التي زعم أن الهيئة الهندسية للقوات المسلحة مدينة له بها، موجهاً حديثه بشكل مباشر للرئيس السيسي، ومستخدماً لغةً فيها تحدٍّ مباشر للرئيس، الذي يصفه دونالد ترامب رئيس الولايات المتحدة "بديكتاتوري المفضل" .
الانتشار السريع جداً الذي حقَّقته تلك المقاطع كان لافتاً، ووصلت مشاهدات بعضها إلى الملايين، ورغم محاولات حظرها من جانب السلطات المصرية فإنها سرعان ما أصبحت حديث الجميع على منصات التواصل الاجتماعي، مثيرة جدلاً واسعاً لم يعد بوسع الإعلام المصري التابع بشكل تام للنظام أن يتجاهلها.
من هو محمد علي؟
يبلغ محمد علي من العمر 43 عاماً، حيث إنه من مواليد 18 يناير/كانون الثاني عام 1978، وينتمي لأسرة متوسطة تعيش في حي العجوزة (أحد الأحياء الراقية) في محافظة الجيزة، وكان والده أحد أبطال لعبة كمال الأجسام، ومثَّل مصر في بطولات عربية وإقليمية، كما تولَّى عدداً من المناصب في الاتحاد المصري لكمال الأجسام.
محمد علي حاصل على دبلوم فني صناعي، أي أنه لا يحمل شهادة جامعية، رغم محاولته استكمال دراسته الجامعية في كلية التجارة، بنظام التعليم المفتوح في جامعة القاهرة، إلا أنه لم يُكمل الدراسة فيها، وتوقف بعد عامين.
مقاول وفنان
محمد علي يدير شركة "أملاك" العقارية، ومن خلالها بدأت رحلته في العمل كمقاول للبناء مع الهيئة الهندسية للقوات المسلحة منذ نحو 15 عاماً، وهذا هو المدخل الذي من خلاله دخل محمد علي إلى عالم الفن كممثل ومخرج ومنتج.
وبدأ الممثل الشاب مشواره الفني من خلال دوره في فيلم "القشاش"، الذي أُنتج في مصر عام 2013، وبعد ذلك شارك في مجموعة من المسلسلات الدرامية والأفلام، لكن الدور الأبرز الذي سلَّط الضوءَ عليه كان في فيلم "البر التاني"، الذي أنتجه علي ولعب فيه دور البطولة.
ويتناول هذا الفيلم قضية إقدام عدد من الشباب في مصر على الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا عبر مياه البحر المتوسط، رغم معرفتهم بالمخاطر التي تنتظرهم، وشارك الفيلم في مهرجان القاهرة السينمائي الدولي، ضمن فعاليات الدورة الـ38 للمهرجان في عام 2016.
كما شارك محمد علي في التمثيل بأفلام أخرى، مثل فيلم "المعدية" الذي شارك في إنتاجه أيضاً، بالإضافة إلى عدد من المسلسلات الدرامية المصرية، مثل مسلسل "طايع"، و "شارع عبدالعزيز2″، و "السيدة الأولى"، و "صفحات شبابية"، وأغلبها من المسلسلات التي حققت نجاحاً أثناء العرض في شهر رمضان.
جدار الرعب الذي شيَّده السيسي
لكن المؤكد هو أنَّ محمد علي لم يكن قد حقق بعدُ أرضيةً لدى المشاهدين تجعله معروفاً كفنان، رغم مشاركته في أعمال فنية كثيرة على مدى أكثر من ست سنوات، وفي ظرف أقل من شهر حقَّق محمد علي شهرةً وانتشاراً تستدعي التوقف، وتطرح العديد من التساؤلات.
الرئيس المصري منذ وصوله للحكم عام 2014، استراتيجيته في السيطرة المطلقة على مقاليد الأمور تتلخص في "سحق أي صوت معارض"، من خلال قبضة أمنية لا ترحم تحت ذريعة "محاربة الإرهاب"، إضافة للسيطرة المطلقة على وسائل الإعلام، وليس فقط من خلال رجال أعمال وإعلاميين يدينون للنظام بالولاء كما كان يفعل الرئيس الأسبق حسني مبارك.
السيسي قرَّر أن يمتلك النظام وسائل الإعلام بشكل مباشر، وتم تأسيس شركة إعلام المصريين، التي تمتلك الآن غالبية القنوات التلفزيونية وكامل المحطات الإذاعية والصحف والمواقع الإلكترونية، مع حجب المواقع المعارضة، أو حتى تلك التي لا تتبنَّى نهج الترويج لسياسات السيسي الاقتصادية ومشاريعه وإنجازاته.
وبعد تعديل الدستور ليظلّ السيسي في الحكم على الأقل لمدة عشر سنوات أخرى قادمة، والسيطرة على جهاز المخابرات العامة عن طريق تعيين صديقه ومدير مكتبه اللواء عباس كامل مديراً للجهاز، ونائبه محمود السيسي، نجل الرئيس، مع سيطرة الجيش بشكل كامل على كافة مجالات الاقتصاد في مصر، إضافة لسَنِّ قوانين صارمة تسمح بسجن من ينشر على صفحاته الخاصة بمواقع التواصل الاجتماعي أي شيء معارض (يتم تصنيفه كأخبار كاذبة تعرّض صاحبها للحبس والغرامة)، بدت الصورة مظلمة تماماً، واكتمل بناء جدار الرعب.
تحدٍّ غير مسبوق
فجأة ودون مقدمات، ظهرت مقاطع محمد علي، التي تحدَّى فيها السيسي بشكل مباشر، طالباً منه (من الرئيس) أن يردَّ عليه، مستخدماً نفسَ اللغة التي لَطالما وظَّفها السيسي نفسُه، وهي مخاطبة البسطاء من الأغلبية الصامتة من الشعب المصري، وجاء التحدي من محمد علي في صورة "رُدّ عليَّ راجل لراجل" (عامية مصرية تعني واجهني رجل لرجل)!
صحيح أن محمد علي وجَّه اتهامات محددة بالفساد، طالت السيسي وأسرته بشكل مباشر -نفاها السيسي على أنها كذب وافتراء- لكنها أيضاً ليست مفاجأة، حيث إن مثل تلك الاتهامات تُعد مادةً منتشرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي طوال الوقت، لكنها لا تلقى رواجاً بسبب الخوف من تبِعات ترديدها، كما أن الإعلام يتجاهلها طوال الوقت.
محمد علي بدأ حديثه في أول مقطع فيديو نشره بأنه لا يريد التحدث في الأمور السياسية، بل فيما وصفه بـ "مستحقات مالية متأخرة لدى الجيش"، والتي طالب بالحصول عليها، وطالب السيسي أو مَن ينوب عنه بالرد عليه، وهو ما أسهم في تعاطف الغالبية العظمى من المتابعين معه.
مؤتمر الشباب قَلَب الموازين
خلال أسبوعين تقريباً تحوَّلت فيديوهات محمد علي إلى مسلسل درامي شيّق ينتظره المشاهدون، ويتم تداولها عبر مجموعات تطبيق واتساب، كأنها "مقاطع جنسية"، وفي بلد يسيطر بإحكام على وسائل الإعلام، ويصعب فيه إيجاد معارضة علنية، جذبت فيديوهات محمد علي التلقائية انتباهَ المواطنين.
وقال مجند مصري اسمه إسماعيل لموقع "ميدل إيست آي" البريطاني: "كل شخص بدءاً من المجنّدين الوافدين الجدد، وصولاً إلى كبار الضباط في المستشفى أو في الوحدة -التي يقضي فيها لياليه- يشاهد الفيديوهات سراً"، واصفاً مقاطع الفيديو التي انتشرت على نطاق واسع بأنها مثل المقاطع "الجنسية"، وأضاف: "الجميع يشاهدون هذه المقاطع، لكن لا أحدَ يجرؤ على الحديث بشأنها" .
وهكذا، وبين عشية وضحاها، أصبح علي واحداً من أبرز الشخصيات وأكثرها إثارةً للجدل في مصر، إنه بطل شعبي للبعض، وعدوّ الدولة بالنسبة لآخرين، إذ أثار مشاعر المصريين في جميع أنحاء العالم.
وأعلنت الرئاسة المصرية عن عقد السيسي مؤتمراً للشباب، السبت 14 سبتمبر/أيلول 2019، كان موضوعه الإرهاب ومحاربة الشائعات عبر وسائل التواصل الاجتماعي، فيما كان مفهوماً أن الهدف هو الردّ على فيديوهات محمد علي، التي أصبحت واقعاً لا فكاك منه، بعد أن بدأت وسائل إعلام النظام في الردّ عليها بطريقتها، وهي مهاجمة حياة محمد علي الشخصية، واستضافة والده ليتبرّأ منه على الهواء.
وفعلها السيسي، وردَّ على محمد علي بشكل مباشر، متجاهلاً "تحذيرات أجهزته السيادية"، التي كاد قادتها أن "تبوس إيده" (تقبل يده) -حسب تعبيره الذي كرره أكثر من مرة- كي لا يرد!
نفى السيسي اتهامات الفساد التي وجَّهها له محمد علي، لكنه اعترف أنه يبني قصوراً رئاسية، مؤكداً أنه سيواصل بناء المزيد، وهو ما أثار جدلاً واسعاً، فهذا الرئيس الذي يكرّر على مسامع الشعب "إحنا فُقرا أوي" (نحن فقراء جداً)، ويتخذ إجراءاتٍ اقتصاديةً قاسيةً رفعت أسعارَ المعيشة على الأقل خمسة أضعاف منذ وصوله للحكم، يعترف ويتباهى بأنه يبني قصوراً رئاسية تتكلف المليارات!
قواعد اللعبة تغيرت
بعد ردِّ السيسي اختلف المشهد بصورة جذرية، وبدأت مواقع التواصل الاجتماعي تشهد حالةً من الهجوم غير المسبوق على السيسي وسياساته، واتخذت فيديوهات محمد علي بعداً جديداً، وصل إلى حدِّ مطالبته المصريين بالنزول إلى الشارع؛ تعبيراً عن رفضهم استمرار السيسي في الحكم، وحدَّد لذلك موعداً، هو أمس الجمعة 20 سبتمبر/أيلول، الساعة السابعة مساء بتوقيت القاهرة.
ازدادت شراسة الإعلام في التجريح في محمد علي والتشهير به، ونشر فيديوهات خاصة له بصحبة فتيات ليل، وأصبح الهجوم عليه مادةً حاضرةً في جميع البرامج والقنوات بصورة لافتة، رغم أنه قالها بوضوح، إنه "لم يدَّعِ البطولة"، وإن حياته الشخصية لا تعني أحداً، وإنه ينتظر الردَّ على الاتهامات الموجَّهة للرئيس وأسرته.
اتحاد الكرة المصري قرَّر تحديد موعد مباراة السوبر المصري (الخاصة بالموسم قبل الماضي) لتقام في نفس اليوم الذي حدَّده محمد علي للتظاهرات، ورغم أن المباريات تقام في الثامنة، جرى تقديم الموعد أيضاً ليقام في السابعة!
قامت قوات الأمن بحملة اعتقالات طالت من تبقَّى من نشطاء سياسيين أو حقوقيين، وانتشرت الكمائن الشرطية المدعومة بعربات مدرعة بصورة لافتة، تزامناً مع تكثيف حالة التخويف والتحذير من الانسياق وراء دعوات التظاهر، وبدا الموقف إعلامياً وفي الشارع لافتاً، وكأن هناك شيئاً ما سيحدث يوم الجمعة!
غياب السيسي من المشهد تماماً!
على مدار الأسبوع، ووصولاً لأمس الجمعة، كانت هناك ملاحظات من المستحيل تجاهلها، أبرزها الرسائل الإعلامية، ومنها "التأكيد على عقوبة الحبس والغرامة" لمن يقوم بمشاركة أي منشور على حسابات التواصل الاجتماعي يعتبر نشراً لأخبار كاذبة، وثانيها الربط بين محمد علي والإخوان، وكيف أنه أحد رجالهم ويهدف إلى تخريب البلد، وثالثها تكثيف بثّ الأغاني الوطنية ومقاطع مصورة مع سيدات من الطبقة المطحونة يتغنَّين بالأمن الذي ينعم به البلد، ويحذرن من الخروج في مظاهرات!
اللافت أيضاً أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي شهِدت حالةً تُشبه الإجماع، بين من شاركوا في ثورة يناير/كانون الثاني 2011، على عدم النزول للشارع على أساس أن ما يحدث هو "حرب أجهزة" وخلافات داخل أجنحة الحكم، هدفها التخلص من السيسي مع احتفاظ المؤسسة العسكرية بالحكم.
لكن أبرز الملاحظات منذ السبت الماضي، حين ظهر السيسي ولم يستمع لتحذيرات وتوسلات "الأجهزة السيادية" بألا يرد على محمد علي، كانت اختفاءه التام عن الظهور إعلامياً، حتى سفره أمس الجمعة إلى نيويورك للمشاركة في اجتماعات الجمعية العامة للأمم المتحدة.
واللافت هنا ليس فقط عدم ظهوره في فعاليات عامة، ولكن أمس الجمعة، وعلى قناة "أون سبورت"، حيث الاستوديو التحليلي لمباراة السوبر بين الأهلي والزمالك، والذي بدأ عقب صلاة الجمعة، أي الواحدة ظهراً بتوقيت القاهرة، كانت الفواصل عبارة عن أغانٍ وطنية وفيديوهات سيدات الطبقة المطحونة، لكن لم يتم بث مقاطع من خطابات السيسي، ولا صور له وهو يفتتح مشروعات كما هي العادة، وبدا كأن الرسالة هي "حافظوا على مصر"، وليست "حافظوا على السيسي"!
"ارحل يا سيسي"
ما حدث أمس الجمعة يستدعي وقفة وتحليلاً عميقاً، حيث لم يكن أبداً بالحدث العابر أو البسيط، فقد قال شهود وسكان إن مئات المحتجين تجمعوا في وسط القاهرة وعدة مدن أخرى، في ساعة متأخرة من مساء الجمعة، مردِّدين شعارات مناهضة للحكومة، في استجابة لدعوة على الإنترنت للتظاهر ضد فساد بالحكومة، وذلك بحسب تقرير لرويترز.
وتحركت قوات الأمن لتفريق التجمعات الصغيرة والمتفرقة باستخدام الغاز المسيل للدموع في القاهرة، ولكن شباناً كثيرين ظلوا بالشوارع بوسط العاصمة وهم يهتفون "ارحل يا سيسي"، وذلك حسبما قال مراسلون لرويترز في الموقع، وقال شهود إن الشرطة ألقت القبض على بعض المتظاهرين.
وحسب سكان ومقاطع مصورة بُثت على الإنترنت، شهدت الإسكندرية على البحر المتوسط، ومدينة السويس على البحر الأحمر، وكذلك مدينة المحلة الكبرى التي تقع على بعد نحو 110 كيلومترات شمالي القاهرة، بدلتا النيل، احتجاجات صغيرة.
وللتدليل على عمق ما حدث أمس، وتأثيراته التي لن يتمكن السيسي وإعلامه من إخفائها بعد أن تحطَّم جدار الخوف، الذي أنفق المليارات وسَحَق الآلاف في سبيل تشييده، نتوقف عند تغريدة الأكاديمي المصري المتخصص في العلوم السياسية عمار علي حسن على تلك التظاهرات، حيث قال في تغريدة عبر حسابه بـ "تويتر": "كل شيء يجري وفق ما تأمله صانعوه، الخيوط كلها في أيديهم تقريباً حتى الآن، البيادق في الشوارع، القطع الكبرى على الرقعة تتمهل في النظر إليها مطمئنة" .
وأضاف حسن: "الخيار المر الذي لا بد منه كان يجب تجرّعه وإلا ضاع ما تبقى من هيبة ومصداقية، لنحافظ على مصر العظيمة، التي لا تقبل من يتصرف على أنها صغيرة" .
فمَن هم صانعو مشهد أمس الجمعة، ومن الذي يتصرف على أن مصر العظيمة صغيرة؟ والسؤال الأهم: ما هو الخيار المر الذي لا بد من تجرعه؟.