تسببت فكرة الرئيس الأمريكي دونالد ترامب باستضافة حركة طالبان في كامب ديفيد، في خلاف داخل إدارته أدى إلى استقالة مستشار الأمن القومي جون بولتون، ثم فجأة قرر ترامب إلغاء المحادثات بعدما وصلت لمرحلة حساسة.
بولتون هو مستشار الأمن القومي الثالث في عهد ترامب، ولقد غادر البيت الأبيض هذا الأسبوع بعد خلاف مع ترامب وآخرين من كبار المسؤولين في الإدارة، بسبب رغبة الرئيس في استضافة قادة مقاتلي طالبان بكامب ديفيد.
ورغم أن ترامب قرر في نهاية المطاف السير ضد الخطة الموضوعة وأعلن في وقت لاحق أن المحادثات مع طالبان "ميتة"، فإن معارضة بولتون للعملية، والخلافات مع وزير الخارجية مايك بومبيو –الذي كان مبعوثه زلماي خليل زاد يقود المفاوضات- ثبت أنها كانت القشة الأخيرة في العلاقة بين ترامب وبولتون، حسبما ورد في مقال نُشر بصحيفة The Washington Post الأمريكية لإيشان ثارو الكاتب المتخصص بالعلاقات الخارجية.
أمضى ترامب الأيام التالية لإعلانه رحيل بولتون عبر تغريدةٍ، يشكو من عثرات مساعده السابق وخطواته الخاطئة. وتشمل قائمة متنامية من المرشحين لتولي المنصب الأعلى في السياسة الخارجية بالبيت الأبيض مبعوثاً نووياً ومفاوض رهائن وسفيراً مفوّهاً. لكن بينما تركز واشنطن على الدراما الداخلية في قصرها الأبيض، فإن أفغانستان تقف على حافة الهاوية.
لماذا أصبحت أفغانستان على حافة الهاوية؟
وعلى الرغم من أن المحادثات مع طالبان يمكن إعادة إحيائها بمرور الوقت، فإن كلا الجانبين قد عقد العزم على تصعيد الهجمات في ساحة المعركة.
إن أفغانستان واقعة بالفعل في براثن واحدة من أكثر الفترات عنفاً بتاريخها الحديث.
فقد لقي مئات المدنيين حتفهم خلال الأسابيع القليلة الماضية، في سلسلة من الهجمات المرتبطة بحركة طالبان وغيرها من الجماعات المسلحة. وفي الوقت نفسه، فإنه وفقاً لبيانات الأمم المتحدة، فقد زادت الغارات الجوية الأمريكية والأفغانية على مواقع المقاتلين في الفترة بين مايو/أيار وأغسطس/آب، بنحو 60% على العام السابق.
ومع ذلك، يظل عام 2018 أكثر الأعوام دمويةً على مستوى الضحايا بين المدنيين في الصراع الأفغاني منذ بدء الاحتفاظ بسجلّات.
والرئيس الأفغاني يحاول إجراء الانتخابات
الآن، ومع تجميد المحادثات التي كانت تقودها الولايات المتحدة، ينصبُّ الاهتمام على الرئيس الأفغاني المحاصَر "أشرف غني"، المصمم على إجراء انتخابات رئاسية جديدة بالميعاد المخطط لها في 28 سبتمبر/أيلول المقبل، حتى في حالة عدم التوصل إلى هدنة طويلة لوقف إطلاق النار مع طالبان.
وكان غني وحلفاؤه قد وقفوا مترقّبين على الهامش أشهراً، في الوقت الذي كان خليل زاد ومسؤولون أمريكيون يجرون محادثات مباشرة مع طالبان، مستبعدين كابول عن طاولة المفاوضات.
بعدما حاول ترامب نزع الشرعية عنه معرّضاً أفغانستان لمزيد من التطرف
ويرى مسؤولون أفغان كبار أن إدارة ترامب كانت تعمد إلى "نزع الشرعية" عن حُكم غني خلال رهانها على القضاء على حرب استمرت 18 عاماً. وأعرب نقاد في مؤسسات واشنطن عن قلقهم من أن التقارب مع حركة طالبان الأصولية يُنذر بمشكلات مقبلة للنساء والأقليات المعرّضة للخطر في البلاد.
ويبدو أن الأسابيع القادمة حبلى بالكثير. فقد قال داود موراديان، مدير "المعهد الأفغاني للدراسات الاستراتيجية" لزملائي في The Washington Post: "إن المسؤولية تقع على عاتق كابول الآن، خاصة على الرئيس غني، للتوصل إلى استراتيجية واقعية وخلق إجماع وطني يمكن أن يقود إلى تسوية.
فقد كان في كثير من الأحيان انتهازياً، أما الآن فلديه فرصة ليصبح رجل دولة"، حسب تعبير كاتب المقال.
وتجري الحملة الانتخابية في ظل أجواء من الاشتباه والشك. فمعارضو غني يتهمونه باستخدام موارد الحكومة لتوجيه السباق لمصلحته.
ودعت طالبان إلى مقاطعة التصويت. ويخشى المراقبون أن يقرر الكثيرون عدم الإدلاء بأصواتهم بدافع من التهديد والخوف، إذ تقع مئات من مراكز الاقتراع في مناطق تخضع فعلياً لسيطرة المقاتلين.
لكن الوضع كان سيئاً أيضاً في ظل المفاوضات مع طالبان
غير أن المحادثات المتوقفة الآن بالكاد كانت تُحسن من الأوضاع، إذ حتى عندما كان المسؤولون الأمريكيون ومبعوثو طالبان يقطعون الطريق ذهاباً وإياباً لحضور الاجتماعات كانت فصائل المقاتلين المختلفة تفجّر السيارات المفخخة وتشن الهجمات الانتحارية وتطلق الصواريخ، في عمليات هجومية أسفرت عن مقتل عشرات من الأفغان.
وقد قال جاويد لودين، أحد الدبلوماسيين الأفغان البارزين السابقين: "لقد كانت طالبان تتفاوض على السلام مع الأمريكيين، وفي الوقت ذاته، تشن حرباً على المدنيين.
ولا ينبغي السماح لهم بأن يفلتوا من المساءلة عن مثل هذه المستويات المتهورة التي لا يمكن القبول بها من العنف وسفك الدماء، لأن هذا يدفع الأمور إلى أقصى حدودها ويتجاوزها بالفعل".
نعم، أمريكا تكبدت خسائر كبيرة ولكن الانسحاب كان سيؤدي إلى فوضى
وتضفي نهاية محادثات ترامب نوعاً من الوضوح على الموقف. فقد قال هارون مير، أحد المحللين المقيمين في كابول، لصحيفة The Washington Post: "هناك بالتأكيد جانب مضيء في هذا. لقد كان الأمر ملتبساً بالكامل قبل ذلك. كان الجميع يخشى أن توقع الولايات المتحدة اتفاقاً يقضي بوقف إطلاق النار وتستمر طالبان في شن حربها.
الآن قام الرئيس ترامب شخصياً بتصحيح هذا الأمر عبر التغريدة التي كتبها".
يقول غني وحلفاؤه إنهم سيقفون صامدين في مواجهة تهديدات طالبان بالعنف. وفي مقابلة مع صحيفة Indian Express، اتهم منافسُ "غني" في الانتخابات، عمر الله صالح، طالبان بأنها وكيل باكستاني لا يحظى إلا بقليل من الشرعية الداخلية في الداخل، وقال: "إن العنف الذي يمارسونه لا يستند إلى بيان سياسي. وليس لديهم أي قادة كاريزماتيين. وكل قياداتهم العملياتية متمركزون في باكستان ولا يُظهرون وجوههم".
وكان ترامب قد نفد صبره من ذلك المسار العنيد والمليء بالعقبات والمشكلات للحرب الطويلة في أفغانستان، ومثله في ذلك مثل عدد متزايد من الأمريكيين بجميع أنحاء الطيف السياسي. فقد رأى التكلفة الباهظة في الدماء والأموال ما يقارب عقدين من العمليات الأمريكية، وقرر أن الوقت قد حان لإنهائها. لكن النقاد يؤكدون أن قراره المفاجئ والمتقلب لن يؤدي إلا إلى تمهيد الطريق أمام مزيد من الفوضى.
لكن رغم تأييد كثيرين للقرار فإنهم يرونه نموذجاً لأن ترامب صانع صفقات فاشل
يقول ستيفن مايلز، المدير التنفيذي لمؤسسة Win Without War التقدمية: "إن المشكلة في المقاربة التي تنتهجها إدارة ترامب ليست التفاوض مع طالبان، بل سلوكيات الرئيس المتهورة في خدمة نفسه هي من تشعل نيران سياسة (الفوضى أولاً) الخارجية التي يتبعها".
ويتابع مايلز في التصريح الذي أرسله عبر البريد الإلكتروني: "هذه الحادثة الأخيرة تضيف دليلاً آخر إلى ركام الأدلة التي تشير إلى أن ترامب ليس صانع الصفقات كما يزعم".
إنه يحتضن الأعداء ويستغني عن الحلفاء
تقدم المحادثات المجهضة مع طالبان صورة مصغرة عن اندفاعات السياسة الخارجية لترامب.
كتب بريان بينيت في مجلة Time magazine: "فسّر ترامب سجلّ أسلافه مع تلك المشاكل المستعصية على أنه ترخيص ممنوح له بالارتجال ومخالفة سياساتهم، فاستغنى عن الحلفاء واحتضن الأعداء.
لقد قطّع أوصال طريقة إدارة العملية السياسية الداخلية وأفقدها فاعليتها والأسس التي ارتكن إليها كل رئيس منذ أيزنهاور. لقد أعلن عن تحولات سياسية عبر تغريدات على تويتر، بقليل أو من دون تشاور مع أحد. ومع انهيار محادثات أفغانستان، يجدر بنا التساؤل عما إذا كان أسلوب ترامب غير التقليدي قد أثبت بأي شكلٍ أنه أفضل في حل القضايا العالمية، وما إذا كان قد جعلها أسوأ، وما هي الأثمان التي كُتب علينا دفعها مقابل ذلك".
وربما خلال الأشهر المقبلة بأفغانستان، قد نبدأ في فهم الثمن.