يخشى حسين كريم مجرد فتح الباب بعدما باع سياراته الثلاث، والأرض التي كان ينوي بناء منزلٍ عليها، وأنفق كل مدخراته على تعاطي "الكريستال ميث" .
فهو واحدٌ من آلاف مُدمني الميث (الميثامفيتامين) في العراق، البلد الذي كانت مُشكلات الإدمان فيه نادرةً فيما مضى.
لكن انتشار الإدمان هنا هو أحدث المظاهر الدالة على مدى تهتُّك النظام الاجتماعي في السنوات التي أعقبت الغزو الأمريكي عام 2003، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The New York Times الأمريكية.
ويعد الكريستال ميث أخطر عقاقير الميثامفيتامين المُستخدمة في العراق، وأكثرها شهرةً على الأرجح، يجري تصنيعه بطريقةٍ غير مشروعة تحت اسم كبتاغون
أخشى فتح الباب
ويعيش كريم (32 عاماً) الآن في غرفةٍ دون نوافذ، مع زوجته وأطفاله الثلاثة وشقيقه المعاق.
وقال وهو يحمل ابنته (عامين) في حجره، وابنه (ستة أعوام) يستند عليه: "إذا كان الكريستال أمامك فعليك أن تتعاطاه" .
وأضاف أنَّه أقلع عن التعاطي لأكثر من عامين، ويتفادى أيّ شخصٍ يُمكن أن يربطه بالعقار. ولم يعُد يفتح باب المنزل حتى، بل يترك أخاه يفعل ذلك. إذ لا يرغب في أن يصطدم بأيّ شخصٍ من حياته القديمة، لأنه يخشى أن تُسحَب أقدامه للتعاطي من جديد.
وفي محافظة البصرة، العام الماضي، المحافظة التي تقع في أقصى جنوب العراق والتي تُعاني أسوأ مُشكلات المخدرات، أُدين 1,400 شخص -غالبيتهم من الرجال- بحيازة أو الاتجار في المخدرات غير المشروعة، وغالبيتها من الكريستال ميث.
ويقبع 6,800 شخص في السجن داخل البلاد، بسبب هذا المخدر باستثناء المنطقة الكردية التي تضُمُّ خُمس سكان العراق، بحسب مجلس القضاء الأعلى العراقي.
ومع ذلك، لا يزال الرقم صغيراً نسبياً بالنسبة لبلدٍ يسكنه 39 مليون نسمة، ولكن مشكلة إدمان المخدرات ضربت مدينتين فقط بشكلٍ رئيسي؛ البصرة والعاصمة بغداد، لذا فهي بالغة الوضوح.
ونظراً لأنَّها مشكلةٌ جديدةٌ إلى حدٍّ كبير في العراق، فلا يبدو أنَّ قادة المجتمع ومسؤولي الحكومة جاهزون للتعامل معها بطريقةٍ أخرى سوى وضع الناس في السجن.
وكان العراق دولة عبور بشكلٍ أساسي لتجارة المخدرات قبل سبعة أعوامٍ تقريباً، أي أنَّ غالبية المخدرات كانت تمُرُّ عبر البلاد في طريقها إلى مكانٍ آخر، بحسب مكتب الأمم المتحدة المعني بالمخدرات والجريمة.
والآن صار من المُمكن شراء مجموعةٍ من المنشطات التي تُسبِّب الإدمان في العراق، إلى جانب الحشيش.
وبدأ استزراع المخدرات غير المشروعة، التي تُصنَّع داخل المعامل على الأرجح بحسب الشرطة، وخبراء الأمم المتحدة، والعائلات الحضرية من الطبقة العاملة، الذين شهدوا هذه الآفة وهي تضرب أقاربهم.
وتُسهم المخدرات في الفقر، إذ تفقد العائلات مُكتسبي الدخل من الرجال لصالح الإدمان والسجن.
والسلطات لا تتحدث عن المشكلة
وقال عباس ماهر السعيدي، قائممقام قضاء الزبير، المدينة التي يقطنها 750 ألف نسمة شمال البصرة: "سلطات الحكومة خجولةٌ للغاية في معالجة الوضع الراهن" . وينتشر تعاطي المخدرات بين شباب المدينة، والكثير منهم عاطلون عن العمل.
وتابع السعيدي: "لا يعترفون بالمشكلة، بسبب التقاليد الاجتماعية. لدرجة أنَّ وسائل الإعلام لا تُناقش الأمر" .
ويُعتبر تعاطي المُخدرات غير المشروعة عاراً بين المسلمين المُتدينين، وهو عارٌ على المُجتمع بأكمله، وليس أسرة المُتعاطي فقط.
ويعتمد نهج الحكومة العراقية على محاولة محو أيّ إشارةٍ إلى المشكلة. وفي كل ليلةٍ تقريباً، تنتشر عشرات الفرق الخاصة في مدينة البصرة، لتستهدف المُتعاطين والمُروِّجين وتقبض على المُشتبه بهم.
ويُدان غالبية من يُقبَضُ عليهم فوراً، مما يخلق مشكلةً جديدة، لقد نفدت الأماكن الشاغرة في السجون، وصار الفائض -من مئات الرجال- يُحشر داخل حجرات الاحتجاز في مراكز شرطة المحافظة والمحافظات المُجاورة، حيث تُغطِّي روائح العرق والبراز والبول على الأجواء.
ويُشير ارتفاع مُعدَّلات تعاطي المخدرات في البصرة إلى آخر مراحل انحدار المنطقة الطويل نحو الجريمة، والذي بدأ بجدية في أعقاب إطاحة الولايات المتحدة بصدام حسين.
ففي غياب قبضة صدام البوليسية الصارمة، تنافست الجماعات الدينية والقبلية للسيطرة على المحافظة الغنية بالنفط.
ومع تفتُّت السلطة، لم تُكن مُكافحة الجريمة فعَّالة بما يكفي، لدرجة أنَّ بعض الميليشيات شاركت في الشبكات الإجرامية.
واليوم، تُوجد قوات شرطة نظامية ومتخصصة، لكن لا يبدو أنَّها قادرةٌ على التفوُّق على تُجار المخدرات.
وانخفض مُعدَّل البطالة إجمالاً في الحقبة التي أعقبت سقوط صدام، لكنَّه ظلَّ قريباً من الـ20% بين الشباب، بحسب البنك الدولي ومصادر أخرى. لدرجة أنَّ المُعدَّل يزيد عن ذلك في بعض مناطق البصرة، مما يزيد النشاط الإجرامي، الذي يشمل تعاطي المخدرات.
إنه يأتي من إيران والسعودية والكويت
وظهر استخدام المنشطات وانتشر قبل سبع سنواتٍ تقريباً. وفي ذلك الوقت، انتقلت العصابات إلى تجارة المخدرات، بالتزامن مع توافر كميات كبيرة من الكريستال ميث القادم من إيران المجاورة، حيث انتشرت معامل إعداده الكثيرة بحسب أنجيلا مي، مديرة قسم الأبحاث في وكالة المخدرات التابعة للأمم المتحدة.
ومنذ ذلك الحين، حاولت إيران السيطرة على المعامل، لكن بعض الإنتاج انتقل إلى الدول المُجاورة بحسب قولها.
وقال القاضي رياض عبيد عباس من محكمة البصرة الجنائية إنَّ المخدرات تأتي أيضاً من المملكة العربية السعودية والكويت.
وقال عادل عبدالرزاق، رئيس محكمة استئناف البصرة: "تستطيع العصابات الإجرامية الحصول على المخدرات عبر الحدود الطويلة وشط العرب" .
وشط العرب هو أرخبيلٌ خلَّاب من الضفاف الرملية والجزر الصغيرة، حيث يتحوَّل نهر دجلة الغني بالمياه العذبة في العراق إلى مصبٍّ بعد مروره بالبصرة وصولاً إلى الخليج العربي (الفارسي). وتستطيع الزوارق الصغيرة، المُحمَّلة بالبضائع المُهرَّبة، المرور بسهولةٍ عبر الممر المائي من إيران إلى العراق.
وتحت إشراف عبدالرزاق، بدأت محكمة استئناف البصرة الاحتفاظ بسجلات حول العلاقة بين اعتقالات المخدرات والبطالة. ويشُكُّ في أنَّ الناس الذين لا يملكون عملاً، يشعرون بأنَّهم ليس لديهم الكثير ليخسروه عند كسر القوانين، إذ وجدت المحكمة أنَّ 90% على الأقل من المقبوض عليهم كانوا عاطلين عن العمل.
واعتقالات المخدرات داخل البصرة في طريقها إلى تجاوز الـ1,500 خلال عام 2019، وهو رقمٌ أكبر من نظيره في عام 2017 حين بلغت الاعتقالات 1,300 فقط.
ورغم أنَّ الجهود لتقليل المخدرات غير المشروعة التي تأتي عبر المعابر الحدودية الرسمية للعراق مع إيران قد نجحت إلى حد كبير، لكن المُهرِّبين انتقلوا إلى طرق بديلة وعزَّزوا دفاعاتهم ضد قوات إنفاذ القانون، بحسب الشرطة والقضاة.
إذ إنهم يستخدمون الآن الطائرات بدون طيار، ويضعون الكاميرات على الطرق خارج مجمَّعاتهم السكنية، التي تتميَّز ببوابات ثقيلة وجدران تتطلَّب وقتاً من الشرطة لاختراقها، بحسب السعيدي. وكانت المُجمَّعات المُحصَّنة والكاميرات واضحةً بسهولة لصحفيي New York Times حين سافروا برفقة إحدى الفرق الخاصة في البصرة.
ورغم أنَّه من المستحيل إثبات أنَّ أياً من الميليشيات العراقية، المعروفة باسم قوات الحشد الشعبي، مُتورِّطةٌ في تجارة المخدرات؛ لكن الكثيرين ممن يقبعون في السجون بتهمة تعاطي المخدرات يقولون إنَّ بعض وحدات الحشد الشعبي تعمل مع التجار، وتشترك مع الحكومة في الأمر، بحسب اعتقادهم.
وظهرت تلك الوحدات إلى الوجود للقتال ضد غزو تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) للعراق عام 2014. وتَضُمُّ قرابة الـ30 جماعةً شيعية، كثيرٌ منها لها علاقاتٌ هي الأقوى بإيران الشيعية.
والبصرة، على غرار جنوب العراق إجمالاً، يقطُنها سكانٌ غالبيتهم العظمى من الشيعة العراقيين.
وحقيقة أنَّ التجار الكبار لا يُقبض عليهم إطلاقاً، أو يهربون من السجن مباشرةً بعد القبض عليهم، تزيد الشكوك حول دور الميليشيات.
مُخدِّر مُقاتلي الحرية
ويعد الكريستال ميث أخطر عقاقير الميثامفيتامين المُستخدمة في العراق، وأكثرها شهرةً على الأرجح يجري تصنيعه بطريقةٍ غير مشروعة تحت اسم كبتاغون.
ويبدو أنَّ هذا المُخدِّر يُستخدم بدرجةٍ مُكثَّفة بواسطة المُقاتلين في كافة أنحاء الشرق الأوسط، على غرار استخدام جنود قوات التحالف لعقاقير الميثامفيتامين خلال الحرب العالمية الثانية، لإبقاء الطيارين الحربيين مُتيقظين خلال الغزوات الطويلة.
إذ قال راينر بونغس، خبير الكيماويات الطليعية المستخدمة في صناعة المواد غير المشروعة بوكالة المخدرات التابعة للأمم المتحدة: "يُعرف الكبتاغون أحياناً بأنَّه مُخدِّر مُقاتلي الحرية.
فعندما تتعاطى الكبتاغون، يُزعم أنَّك تشعر بطاقةٍ أكبر. ويقول الناس إنَّه يبقيهم متيقظين، دون الشعور بالجوع، حتى يتمكَّنوا من مواصلة القتال في ظل الظروف الصعبة" .
وقال بونغس إنَّه من المحتمل أن يكون العراق يُنتج الكريستال ميث الآن، نظراً لأنَّه استورد أطناناً من السودوإفدرين، بحسب تقرير الهيئة الدولية لمراقبة المخدرات عام 2018. إذ يُمكن استخدام المادة التي تُزيل احتقان الأنف، والموجودة في أدوية الحساسية والبرد، لصناعة الكريستال ميث.
سجون مكتظة ومراكز تأهيل نادرة
وفي غياب سياسةٍ للتعامل مع المخدرات، بات العراق يعاني من مشكلة تكدُّسٍ خطيرة داخل السجون.
ويشتكي الكثير من نزلاء السجون من التكدُّس وسوء المعاملة، لكنَّهم يقولون إنَّ ما يحتاجونه أكثر من أيّ شيءٍ هو إعادة التأهيل والمساعدة في العثور على وظائف بعد خروجهم.
واحتوت زنازين احتجاز الشرطة، التي شاهدها صُحفيو New York Times، على قرابة الـ70 رجلاً محشورين داخل مساحةٍ تكفي لـ10 أشخاصٍ فقط.
وكان الرجال مُكوَّمين فوق بعضهم البعض، يجلسون على الأرض، ويتناوبون في النوم، أثناء مشاهدة التلفاز الذي يعرض المسلسلات والأفلام التركية والأمريكية المُدبلجة باللغة العربية.
وليس هناك مساحةٌ للمشي، ناهيك عن ممارسة الرياضة. ويظل البعض على هذه الحال طوال فترة عقوبتهم، التي تصل إلى 15 شهراً لمرتكبي الجرائم لأول مرة. وجميعهم حفاة الأقدام، للتقليل من فرص الهرب.
وقال حميد جبار عبدالكريم (32 عاماً)، الذي كان يُعمل مُدرب كلاب لدى قوات الأمن العراقية: "لا يوجد دواءٌ أو علاجٌ هنا على الإطلاق" . والآن بعد أن صارت لديه جريمة مخدراتٍ في سجله، أصبح من المُستبعد أن يُعاد تجنيده.
وهناك بضعة مراكز لإعادة التأهيل، لكنها صغيرةٌ لدرجة أنَّها ليس لها تأثيرٌ كبير.
ولا وظائف للتائبين
وقال المدمنون ومسؤولو الحكومة إنَّ الإدانة المُتعلِّقة بالمخدرات في العراق تزيد صعوبة الحصول على وظيفةٍ بأجر، لأن الثقافة العراقية التقليدية تنظر إلى المخدرات باعتبارها "جريمةً غير شريفة"، مما يجعل أصحاب الأعمال ينأون بأنفسهم عن مُرتكبيها.
وبالنسبة لعبدالكريم، وهو أبٌ لثلاثة أطفال ومُدمنٌ لثماني سنوات قبل دخول السجن، تبدو فرص التوظيف صعبة.
إذ شغل وظيفة مُشغِّل معدات ثقيلة في مجال البناء، ثم صار مقاتلاً في صفوف وحدات الحشد الشعبي. وكان يشتري الكريستال ميث أحياناً أثناء تدريبه في إيران. وقال إنَّه لا أحد سيُعطيه وظيفةً بأجرٍ الآن.
وتتضاعف مشكلاته بسبب كونه أُمِّياً، لأنَّه نجل مُزارع، وكان متوقَّعاً منه أن يظل في المنزل للعمل في الأرض، فضلاً عن أن أطفاله غير مُتعلمين أيضاً.
ومع حلول الغسق، تعلَّقت نجلته الوسطى رسول (ستة أعوام) بذراع والدها.
وسألت: "هل نستطيع شراء المُثلَّجات؟" .
فوضع عبدالكريم يده في جيبه، لكنه لم يجد شيئاً.
فقبَّل جبين طفلته، وقال: "ليس اليوم، حبيبتي" .