في أحدث علامةٍ على التصدعات العميقة في الحملة الاقتصادية الموحدة الغربية ضد روسيا، صرّح وزير الخارجية الفرنسي جان إيف لودريان للصحفيين يوم الاثنين الماضي بأنَّ "الوقت مناسب" للمصالحة في بين الاتحاد الأوروبي وموسكو.
وتأتي هذه المبادرة الفرنسية الأخيرة في الوقت الذي عاد فيه المشرّعون الأمريكيون إلى العمل الأسبوع الجاري، وهناك مشروعا قانونين على الأقل لفرض عقوبات على روسيا قيد التمرير عبر الكونغرس.
هل تنقلب عقوبات واشنطن عليها؟
لكنَّ بعض صُناع السياسات والنقاد يُشكِّكون في مدى فاعلية فرض المزيد من العقوبات أحادية الجانب على روسيا في مواجهة الممارسات المتهورة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وسط مخاوف من احتمال تسبُّب هذه العقوبات في إلحاق الضرر بعلاقات أمريكا مع شركائها التجاريين وحلفائها، كما تقول شبكة CNN الأمريكية.
يُذكر أنَّ الولايات المتحدة وحلفاءها أصدروا مجموعةً أولى من العقوبات الاقتصادية على روسيا في عام 2014 لمعاقبتها على ضم شبه جزيرة القرم، ودعم الميليشيات الانفصالية في شرق أوكرانيا.
ومنذ ذلك الحين، بنى صُناع السياسة في موسكو حصناً نقدياً ومالياً يمنح الاستقرار الأولوية على حساب النمو، ويحمي السيادة الروسية، فضلاً عن أنه ساعد الكرملين في الصمود أمام العقوبات الاقتصادية بصورةٍ فاقت توقعات العديد من المحللين.
كيف عزل بوتين الكرملين عن الضغوط الخارجية؟
فبمساعدةٍ من بعض التكنوقراطيين البارعين، مثل: إلفيرا نابيولينا مُحافِظة البنك المركزي الروسي، أنشأ بوتين مؤسسةً تهدف إلى عزل الكرملين عن الضغوط الخارجية، مثل العقوبات، وتعزيز قدرة الاقتصاد الروسي على التغلب على العواصف الاقتصادية المستقبلية، مثل تراجع أسعار النفط أو الركود العالمي.
وفي هذا الصدد، قال أندرس آسلوند، وهو باحث في المجلس الأطلسي متخصصٌ في السياسة الاقتصادية الروسية: "كان منطق بوتين الأساسي في مواجهة العقوبات: نُقلِّل استثماراتنا، ونخفض معدل النمو، ونستهلك استهلاكاً أقل، لكننا نبني احتياطياتنا حتى أتمكن من مواصلة سياستي العدوانية".
وعلى الرغم من لهجة الخطاب الودية بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ونظيره بوتين، استمرت التوترات في التفاقم مع تصاعد وتيرة سباق تسلُّح جديد بين البلدين. ففي وقتٍ سابق من الشهر الجاري سبتمبر/أيلول، قال بوتين إنَّ روسيا ستصنع صواريخ كانت محظورةً بموجب معاهدةٍ أبرمت في عهد الحرب الباردة مع الولايات المتحدة، وفي أواخر الشهر الماضي أغسطس/آب، تعهَّد الرئيس الروسي "بردٍّ متماثل" بعدما اختبرت الولايات المتحدة صواريخ كانت محظورة.
موسكو مستعدة للتعامل مع الأزمات الطويلة
لكنَّ تعزيز تسليح الجيش الروسي والتدخلات الروسية في سوريا وأوكرانيا وفنزويلا، ليست هي الدلائل الوحيدة على أنَّ الكرملين يستعد لاستمرار الأزمة فترةً طويلة.
وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ روسيا طوال عهد بوتين شهدت سلسلةً من الأزمات الاقتصادية، بدءاً من انهيار الاتحاد السوفييتي أوائل التسعينيات، ثم الانهيار المالي في عام 1998، والركود العالمي عام 2008، وآخرها الركود الاقتصادي في 2014.
وفي هذا الصدد، قال كريستوفر ميلر، وهو أستاذ مساعد في جامعة تافتس يُركز أبحاثه على الاقتصاد الروسي: "حين ينظر بوتين إلى التحديات الاقتصادية أعتقد أنَّه يهتم اهتماماً أقل بالنمو، واهتماماً أكبر بالصمود في أوقات الأزمات".
كيف نجحت روسيا في ذلك؟
منذ عام 2014، زادت روسيا احتياطياتها من العملات الأجنبية إلى 500 مليار دولار (وهو رابع أعلى مستوى في العالم)، وسدَّدت ديونها الخارجية، و"عوَّمت" (أو بعبارة أخرى خفضت قيمة) الروبل الروسي لتعزيز القدرة التنافسية للصادرات الروسية، و"ألغت دولرة" سندات الخزانة لعزل روسيا عن النظام المالي الأمريكي، ونجحت في الموازنة بين نفقات الدولة وعائداتها.
وكذلك فسعر النفط الروسي منخفض ويقف عند "نقطة التعادل"، إذ يتراوح بين 40 و45 دولاراً للبرميل، وهو السعر الذي تحتاج إليه الدولة الروسية لموازنة ميزانيتها كل عام. ويعد النفط هو أكبر صادرات البلاد بفارقٍ كبير عن الصادرات الأخرى، وأساس "صندوق الحرب الروسي".
ومن جانبه قال إدوارد تشاو، أحد كبار الباحثين في مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية: "الناس يبالغون، لا سيما في واشنطن، في غلبة تأثير الغاز على تأثير النفط. فبالنسبة لكل دولار تكسبه روسيا من النفط والغاز، يأتي 80 سنتاً من النفط و20 سنتاً فقط من الغاز".
تكلفة كبيرة يدفعها المواطن الروسي بالمقابل
لكنَّ سياسات الكرملين جاءت مصحوبةً بتكلفة، وألحقت ضرراً بالوضع المالي لجميع أفراد الشعب الروسي. فالناتج المحلي الإجمالي الروسي ما زال بطيئاً منذ عام 2014 -إذ يتراوح معدل النمو السنوي بين 1% و2%- بينما الأجور الروسية راكدة على مرِّ السنوات الخمس الماضية، وتضاعفت ديون الاستهلاك تقريباً في الفترة نفسها. لذا يعتزم الكرملين إنفاق تريليونات من الروبلات على "مشروعاتٍ وطنية" لتحفيز الاقتصاد، لكنَّ ذلك من المستبعد أن يعزز النمو الاقتصادي تعزيزاً كبيراً.
هذا وقالت أنجيلا ستنت، الأستاذة بجامعة جورج تاون ومؤلفة كتاب Putin's World: Russia Against the West and with the Rest: "كل ذلك يبدو رائعاً، لكن لا يتحقق منه سوى قدرٍ ضئيل جداً".
وإذا بقيت معدلات النمو منخفضة، سيقلل الاقتصاد الروسي المتقلص من قدرة روسيا على المنافسة على الساحة العالمية مع الاقتصادات الأسرع نمواً. وقد وصف ميلر التأثير المحتمل لذلك قائلاً: "لديك سياسةٌ خارجية الآن، لكنَّك تفقد تأثيرها لاحقاً".
وعلى الجانب الآخر، يعتبر بعض النقاد في الغرب حالة السخط في موسكو والنمو المحلي الروسي الضعيف دليلاً على وقوع الكرملين في أزمة. لكنَّ نظام بوتين، مع أنَّه ربما يشعر بالقلق إزاء الآثار الطويلة الأجل، لا يعتبر ذلك أزمةً مُلِحة.
إذ قال آسلوند: "بوتين يهتم بالاستقرار الاقتصادي الكلي لأنَّه يركز على السيادة ويريد السيطرة على الشعب بوسائل أخرى. لذا لا يهتم بمعدلات النمو".
وبينما يتطلع الرئيس الروسي إلى استخدام بدائل أخرى لنظام سويفت -وهو نظام الدفع المصرفي العالمي في الغرب- ويوطد علاقاته مع الصين، فمن الواضح أنه لا يكترث كثيراً بالابتعاد عن النادي الاقتصادي العالمي الغربي.
حصون اقتصادية
وسيواصل صُناع القرار والساسة في أوروبا والولايات المتحدة مناقشة أفضل طريقة لمعالجة لمواجهة روسيا الساعية إلى الانتقام، لكنهم لا يستطيعون تجاهل الحصون الاقتصادية التي شيَّدها بوتين وصناع القرار في الكرملين.
وإذا تعهَّدت الولايات المتحدة بفرض مزيدٍ من العقوبات من جانب واحد، دون إجماع حلفائها وشركائها التجاريين، فقد تلحق الضرر بعلاقاتها معهم، التي هزَّتها بالفعل تصرفات ترامب التي لا يمكن التنبؤ بها طوال فترة رئاسته.
وقالت أنجيلا ستنت متحدثةً عن الإدارة الأمريكية: "لا أرى الجوانب التي حققوا فيها الكثير من النتائج الإيجابية، بل إنَّ ما يفعلونه -بقدر ما يُطبقونه خارج الحدود الأمريكية- يزيد نفور بعض حلفائنا منَّا".