مع اقتراب الذكرى الأولى لاغتيال المُعارض السعودي جمال خاشقجي، ازدادت التكهنات بشأن مصير سعود القحطاني المستشار بالديوان الملكي والذراع اليمنى لولي العهد محمد بن سلمان، فهناك تقارير تفيد بأنه لا يزال يمارس مهامه ولكن بعيداً عن الأضواء، وأخرى ترددت مؤخراً بأنه مات، فما هي الحقيقة؟
وكالة بلومبرغ الأمريكية نشرت تقريراً بعنوان: "الغموض يحيط بالمساعد الرئيسي لمحمد بن سلمان بعد مرور عامٍ على مقتل خاشقجي"، بدأته بالقول: "كان الأمير محمد بن سلمان لديه مساعدٌ موثوق داخل الديوان الملكي ينفذ طلباته حتى اغتيال الصحفي السعودي جمال خاشقجي قبل حوالي عام".
هل مات مسموماً؟
وفي أعقاب اغتيال خاشقجي وظهور اسمه بقائمة المتهمين، اختفى سعود القحطاني وتوقف بهدوء عن أداء دوره في الإدارة اليومية لشؤون الأمير، ولكن بعد أشهر من الأحاديث في الأوساط الدبلوماسية وعلى شبكات التواصل الاجتماعي حول ما إذا كان مستمراً في خدمة بن سلمان وراء الكواليس، ظهر اسمه في الأيام الأخيرة في تكهنات بأنه قد مات.
إذ قال إياد البغدادي، الناقد السعودي المقيم في أوسلو، نقلاً عن مصادر لم يحددها، إنَّ القحطاني ربما تعرّض للتسمم القاتل. فيما لم تعلق الحكومة السعودية على وفاته المزعومة ورفضت سفارة البلاد في واشنطن التعليق. لكنَّ شخصين مقربين إلى القحطاني قالا إنه ما زال على قيد الحياة.
هذه التكهنات جدّدت الاهتمام برجلٍ يخشاه الكثيرون في المملكة ويُعتبَر كبش فداء لمحمد بن سلمان الطموح الذي يسعى بضراوةٍ إلى السيطرة على أكبر دولة مُصدِّرة للنفط بأي ثمن، والذي لا يتسامح مع المعارضة التي تعرّضه للإحراج. وقد كان القحطاني، الذي عاقبته الولايات المتحدة على دوره المزعوم في مقتل خاشقجي، أحد العقول المدبرة وراء حملةٍ أكبر لإسكات المعارضين.
وبينما قالت المملكة إن 11 مواطناً سعودياً يُحاكمون بتهمة قتل خاشقجي داخل القنصلية السعودية في إسطنبول، لم تذكر أبداً ما حدث لجثة الصحفي الراحل، ونفت بشدة أن يكون محمد بن سلمان وليّ العهد قد أمر بارتكاب هذه الجريمة أو كان يعلم بها سلفاً. لكن هذا الرد لم يُهدِّئ حدة الغضب المثار بسبب جريمة القتل.
وقال بول بيلار، وهو ضابط سابق في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، وزميل أقدم غير مقيم في جامعة جورج تاون حالياً: "بالتأكيد لم تفعل المملكة العربية السعودية ما يكفي في التعامل مع مقتل خاشقجي. وإذا سقط القحطاني نتيجةً لدوره في قضية خاشقجي، فهذا يوضح كذلك كيف يقترب النظام أكثر فأكثر من حكم الرجل الواحد، وكيفية التضحية بالمستشارين الأقل حصانة، حتى وإن كانوا نافذين، من أجل الحفاظ على رجلٍ واحد في قمة الحُكم".
أقرب مستشار
وحتى وقت تداعيات مقتل خاشقجي، لم يكن هناك سوى عددٍ قليل من المستشارين المُقربين إلى بن سلمان مثل القحطاني، الذي تقول صحيفة "عرب نيوز" التي يقع مقرها في السعودية، إنَّه يبلع من العمر 41 عاماً، فحين التقى بعض الصحفيين الأجانب بالأمير في إحدى المرات، كان القطحاني يجلس بجواره يتابع حوارهم بهدوء وثقة.
وتجدر الإشارة إلى أن القحطاني، وهو رقيبٌ سابق في سلاح الجو السعودي وحاصل على شهادة في القانون، ترقَّى عبر المناصب في الديوان الملكي سريعاً ليصبح المشرف العام على مركز الدراسات والشؤون الإعلامية. وبصفته مسؤولاً عن إدارة شؤون الإعلام، قاد جهود الحكومة لمراقبة الصحفيين المحليين والشخصيات البارزة على موقع تويتر، وساعد في إطلاق هاشتاغ "القائمة السوداء" الذي يحث السعوديين على ذكر أسماء "المرتزقة" الذين انحازوا إلى صف قطر في الأزمة الخليجية الأخيرة، وفضحهم.
وفي عام 2016، حين انتشرت التساؤلات في الرياض حول مدى توتر العلاقة بين الأمير محمد، الذي كان نائب ولي العهد حينئذٍ، وابن عمه الأكبر الأمير محمد بن نايف، الذي كان ولي العهد آنذاك، حاول القحطاني تبديد هذه الشكوك.
غير أنَّ هذا الجهد لم يدم طويلاً، فبعد ذلك بعامٍ واحد، حل محمد بن سلمان محل ابن عمه في تعديلٍ مفاجئ لم يَدع مجالاً للشك حول مدى انكشاف خطط انتقال الحكم بعد عهد الملك سلمان.
وقد أطلق صعود الأمير محمد، بدعمٍ من القحطاني، اتِّباع نهج أشد عدوانية في السياسة الخارجية. إذ قاد ابن سلمان الحرب في اليمن ضد المتمردين -وهي حربٌ مستمرة حتى الآن وُصِفَت بأنَّها كارثة إنسانية- وتبنَّى نهجاً أكثر عدوانية تجاه إيران. وكذلك اتخذت الحكومة إجراءاتٍ قمعية صارمة ضد المعارضة الداخلية، وسجنت بعض رجال الدين المحافظين والناشطين، بينما كانت تُصِّد للعالم الخارجي صورةً بأنَّها صارت معتدلة.
ويمثِّل صعود القحطاني وسقوطه السريعين الطموحات الجامحة لأسلوب القيادة الذي صار أشد عدوانيةً في المملكة العربية السعودية. ويقول بعض المحللين الذين يتابعون شؤون المملكة إنَّ الملوك السابقين كانوا يتمتعون بالسلطة المطلقة، لكنَّهم كانوا يحكمون بالتشاور والاتفاق بين الأمراء، ولم يكونوا يتبعون نهجاً تخويفياً إلى هذه الدرجة.
يمارس عمله بعيداً عن الأضواء؟
بعد أسابيع من إعلان السعودية إعفاء القحطاني من مهامه، اتضح أنه لا يزال يمارس عمله بشكل اعتيادي، ويؤدي كل مهامه القديمة، ولكن بشكل غير معلن، وبعيداً عن أعين الكاميرات.. تلك كانت آخر أخبار سعود القحطاني، المستشار السابق في الديوان الملكي السعودي، الذي يدير عمله من قلب فيلا خاصة بحي السفارات في شمال غرب الرياض.
الرجل حرٌّ طليق، بخلاف ما أعلنت عنه النيابة العامة السعودية، التي أكدت أنه قيد الاحتجاز والتحقيق، في محاولة منها لصرف أنظار الرأي العام العالمي عن قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي.
وأكدت مصادر متطابقة وقتها لـ "عربي بوست" أن القحطاني لا يزال هو الذراع اليمنى لولي العهد الأمير محمد بن سلمان، بحكم ارتباط الاثنين بصداقة طويلة منذ الطفولة، فعلى الرغم من أنَّ الرجل أعفي بشكل علني من منصبه كمستشار بالديوان الملكي، فإن الرجل سراً لا يزال بمثابة الناصح الأمين والأب الروحي والصديق المخلص لمحمد بن سلمان.
فيلا خاصة بالحي الدبلوماسي
من خلف الستار لا يزال يمارس عمله نظراً لحساسية الوضع الحالي المحيط بولي العهد السعودي محمد بن سلمان، الذي يمر بأسوأ أيامه منذ وصوله لمنصب وليّ العهد على الصعيد الدولي.
فعبر مجموعة سرية صغيرة، ومن قلب فيلا خاصة في الحي الدبلوماسي (أو حي السفارات) شمال غرب الرياض، يتواصل القحطاني في إدارة ملف مكافحة الإرهاب، وما يتعلق بملفات المعارضين السعوديين.
وفي هذا الخصوص أكد رجل الأعمال الكندي من أصل سعودي، آلان بندر، في تصريحات خاصة لـ "عربي بوست" أنَّ القحطاني لا يزال يتمتع بجميع امتيازاته، ويمارس وظيفته المعتادة سراً من فيلته الخاصة، كما أنَّ تحت تصرفه "أكثر من مبنى يتنقل ويتحرك بها لتنفيذ أعماله ومهامه الخاصة".
وأشار بندر إلى أنَّ القحطاني يسعى بشكل كبير إلى عدم الظهور بشكل علني مع محمد بن سلمان، ويحرص على عدم الاجتماع الشخصي والمباشر به حتى لا يلفت الأنظار، منوهاً إلى أنَّ الطرفين يتواصلان فيما بينهما من خلال خط آمن، لضمان عدم اعتراض الاتصالات من قبل أي من الجهات الأمنية أو الاستخبارية الخارجية.
حماية ولي العهد
كشف الأمير محمد عن مخطط اقتصادي يسعى إلى إيقاف الإعانات الحكومية المعتمدة على نقود النفط، وبناء قطاعٍ خاص جديد، وعمل على إقناع بعض المسؤولين التنفيذيين الأمريكيين الذين يمكن أن يساعدوه على تحقيق أهدافه، لكنَّ اغتيال خاشقجي في أكتوبر/تشرين الأول من العام الماضي 2018 وضع ولي العهد ومملكته تحت تدقيقٍ شديد.
وفي الشرق الأوسط، أكدت جريمة قتل خاشقجي مخاوف العديد من القادة تجاه طيش الأمير محمد بن سلمان، والموالين المتحمسين له مثل القحطاني. ويقول مايكل نايتس، الزميل البارز في معهد واشنطن، إنَّ الإمارات تنسحب تدريجياً الآن من مشاركته العسكرية في التحالف الذي تقوده السعودية في اليمن، مشيراً إلى أنَّ أحد أسباب ذلك هو حادثة مقتل خاشقجي.
وقال نايتس لبلومبرغ في مقابلةٍ عبر الهاتف: "حادثة قتل خاشقجي حسمت الأمر (بالنسبة للإمارات العربية المتحدة). إذ أدركت منذ تلك اللحظة أنه لا يوجد شيء يمكنها فعله أو قوله تُبرر به أنَّ عمليات التحالف في اليمن هي أخف الضررين. وأدركت أن ليس بوسعها فعل شيء لتعيد الحكومة الأمريكية إلى صفها".
وقد زاد الطين بلة في العام الجاري حين أوصت أغنيس كالامارد، وهي خبيرة في عمليات الإعدام دون محاكمة قضائية في مكتب مفوّض الأمم المتحدة السامي لحقوق الإنسان، بإجراء مزيدٍ من التحقيق في علاقة الأمير محمد والقحطاني بمقتل خاشقجي، ووصفت جريمة القتل بأنَّها "اغتيالٌ حكومي" يجب أن يدفع قادة العالم إلى إعادة النظر في عقد قمة مجموعة العشرين في العاصمة السعودية الرياض في العام المقبل 2019.
وقال بول بيلار: "النظام لم يُبرَّأ تماماً من ارتكاب الجريمة. ولم يكن الغرض من طريقة تعامله مع القضية هو خدمة العدالة، بل حماية محمد بن سلمان".
وقد بنى القحطاني مسيرته على توفير هذه الحماية، سواءٌ بالدعاية العامة أو التخويف السري. وربما يتوقف مصيره في النهاية على مدى قدرته على الاستمرار في فعل ذلك للملك السعودي المستقبلي من وراء الكواليس، أو ما إذا كان سيصبح عبئاً أثقل من اللازم على المملكة.