فيما كانت القوارب العامة تعبر القرن الذهبي جيئةً وذهاباً، قال عمدة إسطنبول المُعارض المنتخب حديثاً: " سنبدأ في ترويج السياحة في إسطنبول على مستوى عالمي، في أوروبا، وأمريكا، والشرق الأقصى، والشرق الأوسط، والدول العربية، فاتحين الباب أمام تدفقٍ سياحيٍ هائلٍ".
كان أكرم إمام أوغلو، العمدة القادم من حزب الشعب الجمهوري، والذي انتزع قيادة العاصمة الثقافية لتركيا من حزب العدالة والتنمية الإسلامي بعدما حكمها طوال 25 عاماً، يُشير إلى تناقص أعداد السياح الأوروبيين المتوافدين إلى إسطنبول، حسب ما ورد في تقرير لصحيفة The Independent البريطانية.
العرب والآسيويون أكثر ولاءً لتركيا
كان قطاع السياحة التركي قد شهد انخفاضاً حاداً عام 2015 بعد سلسلةٍ من الهجمات العنيفة، ما خفض أعداد السياح الأجانب إلى مستوى تاريخي بلغ نحو 25.5 مليون سائحٍ، بالمقارنة بنحو 37 مليون سائحٍ عام 2014.
وطوال السنوات الثلاث التالية من عدم الاستقرار، كان المستثمرون في قطاع السياحة يغلقون أنشطتهم أو يعانون للنجاة، إلى أن اكتشفوا شريحةً في السوق لطالما أُهملت: العرب والآسيويين المسافرين لقضاء العطلات.
يقول حُسين كيرك، مدير جمعية وكالات الشرق الأوسط للسفر والسياحة (Ostad): "لطالما كان هناك سوقٌ شرق أوسطي، لكن أهميته لم تبرز إلا عندما هجر السياح الأوروبيون تركيا.
ولقد أثبتوا أنهم أكثر السياح ولاءً لتركيا، حيث لم يكترثوا للمخاوف الأمنية واستمروا في القدوم إلى تركيا حتى بعد محاولة الانقلاب، واستمروا في الإنفاق والاستثمار في بلادنا".
وقد باتت مؤسسة كيرك، التي بدأت بنحو 40 عضواً عام 2015، جميعهم كانوا يحاولون اكتشاف وتوفير احتياجات السياح القادمين من الشرق الأوسط، تمثل اليوم أكثر من 700 رجل أعمال.
وفي حين يظل السوق الأوروبي في طليعة مصادر دخل السياحة في تركيا، إلا أن أرقام المقارنات الصادرة عن وزارة السياحة تؤكد ارتفاع أعداد الزوار الآتين من غرب آسيا.
هل شعبية أردوغان أحد أسباب تزايد السياحة العربية لتركيا؟
وفي إسطنبول، قلب السياحة التركية، ارتفعت أعداد السياح العرب بنسبة 29.4% منذ 2017 إلى 2018، فيما حققت أعداد السياح الصينيين أكبر نسبة ارتفاعٍ، بلغت 66.2% في العام نفسه، وفقاً لإحصائيات القطاع.
ولا ترجع الزيادة في أعداد السياح فقط إلى شعبية الرئيس التركي رجب طيب أردوغان الكبيرة في العالم العربي، ولا إلى المسلسلات التلفزيونية التركية الطويلة ذائعة الصيت.
إذ إنَّ ثورات الربيع العربي -التي بدأت عام 2011 في تونس، ثم امتدت إلى مصر وسوريا- أخرجت تلك البلدان من قائمة وجهات السفر الآمنة.
وهنا برزت تركيا بوصفها بديلاً جذاباً يستطيع العرب فيه الشعور -ولو جزئياً- بالألفة من حيث الثقافة والدين، في نفس الوقت الذي توفر لهم فيه أجواءً من الحرية أشبه بالأجواء الأوروبية.
ويقول كيرك: "كان للانقلاب الذي وقع بمصر في أعقاب الربيع العربي 2011 أثره الإيجابي على عائدات السياحة في تركيا؛ إذ كانت مصر أبرز منافسٍ في هذا السوق. أضف لذلك أن تركيا تبعد نحو ثلاث ساعاتٍ ونصف عن أغلب تلك البلاد، وهي رخيصةٌ نسبياً ولديها عبقٌ تاريخيٌ منقطع النظير، كل ذلك ساهم في ازدهار أعمالنا".
ولكن البعض غير سعيد بهذا التغيير
ومع أن ذلك التغيير ساهم في إنقاذ القطاع، فإنه جلب معه تغييراً ثقافياً، وهو ما يزعم النقاد أنه كان يتعارض بشدةٍ مع الإحساس الأوروبي التركي، حسب تقرير الصحيفة البريطانية.
ففي مساءٍ متأخرٍ من شهر أغسطس/آب الماضي، راحت مجموعةٌ كبيرةٌ من مواطني دول الخليج تملأ شارع الاستقلال، أشهر متنزهات إسطنبول على امتداد حي تقسيم، ليدخلوا إلى المحلات ويخرجوا منها، ويجلسوا على المقاهي لتدخين النرجيلة أو الشيشة. ويقف العشرات أمام مطاعم مثل سلسلة Hatay Medeniyetleri Sofrasi للمشويات، التي حلت اليوم محل مطاعم مثل Haci Baba الذي كان يوماً قلعةً للطعام التركي الكلاسيكي.
وتعرض شاشة بلازما مقاطع صغيرةً للمالك الشاب وهو يقطع اللحم على موقد الصاج، في ما تعرض شاشةٌ رقميةٌ قائمة الأطباق الخاصة، وجواره تقف كنيسةٌ أورثوذوكسيةٌ إغريقيةٌ ترجع للقرن التاسع عشر.
ويقول كاظم أوكر، البالغ من العمر 49 عاماً، والذي يعمل بواب عمارةٍ مجاورةٍ تضم مطعماً لنفس السلسلة افتتحته لتحجيم المنافسة: "يجب أن تروا هذا المكان في الليل. قد ينتظر السياح العرب لساعاتٍ حتى يتمكنوا من الدخول. لقد تغير كل شيء. اعتاد الغربيون المجيء إلى هنا بحثاً عن مطاعمنا، وموسيقانا، ومتاحفنا، لكن السياح من الشرق الأوسط لا يأتون بتوقعاتٍ مثل تلك. كل شيءٍ الآن بات يدور حول جعلهم يشعرون أنهم في وطنهم".
وقد خاض حي بيوغلو بمدينة إسطنبول بالفعل عملية تحسينٍ استُبدلت فيها المحال التاريخية بمراكز تسوقٍ وسلاسل متاجر. وأجبرت الصعوبات الاقتصادية بعض المعالم على الإغلاق، بينما ساير أولئك الذين يرغبون في النجاة موجة التغيير. واليوم تصيغ مقاهي الشيشة، ومحلات الحلويات التركية التقليدية، ومتاجر الملبوسات المحافظة والبراقة في نفس الوقت، وإعلانات مطاعم السندوتشات التي تُذاع بالعربية على أنغامٍ شرقيةٍ، الهوية الثقافية لشارع الاستقلال.
يقول تورغوت غولن وهو جالسٌ في صالة مطعم Haci Abdullah Lokantasi الذي أسسته عائلته سنة 1888 وامتلكته بموقعه الحالي منذ عام 1958، والتي نادراً ما تمتلئ: "اعتاد السياح في هذا الشارع وخارجه أن يُستقبلوا بالتقاليد العثمانية، والأطباق التركية، لكن الآن تستقبلهم مطاعم شاورما الدجاج والكباب".
ويُضيف غولن أنَّ مطعمه لم يكن به كرسيٍّ واحدٌ متاحٌ في أي يومٍ عاديٍ منذ خمس سنوات؛ فكل الكراسي يشغلها سائحون غربيون متلهفون لتذوق حلاوة الأطباق التركية والعثمانية. ويُتابع: "إن لم يأت الأوروبيون فإن فرص نجاة الأماكن ذات الإرث الثقافي مثل مطعمنا ستكون ضئيلةً للغاية".
السائح العربي ينفق أضعاف الأوروبي
السائح سعودي الواحد يُنفق نحو 1500 دولار في اليوم الواحد، بينما ينفق السائح الغربي نحو 647 دولاراً في اليوم،ووفقاً لإحصائيات Ostad.
ويقول أتيلا تونا، مؤسس شركة Antonina Tourism التي اشتُهرت منذ أكثر من 20 عاماً بجولاتها السياحية الثقافية: "إن العادات الاستهلاكية لدى العرب تختلف عنها لدى الأوروبيين. إنهم لا يأتون هنا من أجل السياحة الثقافية، إنما يأتون لرؤية جزر الأمراء الواقعة حول إسطنبول، ليتنزهوا في السهول الخضراء لبورصة في الغرب أو في منطقة البحر الأسود، وليتسوقوا.
الأمر مجرد تغييرٍ في الميول السياحية ليس أكثر. ولحسن الحظ، ولأن صورة بلادنا باتت تتغير الآن على نحوٍ إيجابي، فقد شهدنا عودة السياح الغربيين من بريطانيا وأمريكا وفرنسا".
وقد باتت الآن جولاته اليومية للتنزه في إسطنبول، التي لم تضم يوماً سائحاً غربياً واحداً، تضم نحو 55 سائحاً يومياً في يوليو/تموز الماضي، وذلك يظل أقل من أفضل معدلاتهم، والتي بلغت 100 سائحٍ يومياً، لكنه أفضل من أربعة سياحٍ يومياً، أو لا سياح على الإطلاق في بعض الأيام منذ ثلاث سنوات.
تركيا في المركز الثاني للوجهات المطلوبة في صيف 2019.. لكن الحانات تعاني من الكساد!
يرى ويل واغوت، مدير شركة توماس كوك للسياحة، إحدى أكبر شركات السياحة في أوروبا، أن تركيا تأتي في المرتبة الثانية على قائمة أكثر الوجهات المرغوبة في صيف 2019. وقد شهدت شركته هذا العام ارتفاعاً بنسبة 27% في حجوزات السفر فقط إلى تركيا، مقارنةً بالعام الماضي.
لكن ما هوية تركيا التي ستكون في انتظار السائح الأوروبي؟ يشغل ذلك السؤال أجندات كثيرٍ من النقاد، ويرى بعضهم أن الهوية السياحية الجديدة لتركيا تسيء التعبير عن البلاد بشكلٍ لا يمكن تداركه.
وفي ليلة سبتٍ حارةٍ من أغسطس/آب يتردد العرب والإيرانيون على ميدان السلطان أحمد، المُميز بقطعٍ فنيةٍ فريدةٍ وضخمةٍ من الإمبراطوريات البيزنطية والقسطنطينية والعثمانية. وتتحدث بعض المجموعات من السياح غربيي الهيئة بلغةٍ روسيةٍ، فيما يجلسون عند بركة النافورة المركزية. وقرب سكة الترام تبدو حانة السلطان أحمد هادئةً نسبياً، في تعارضٍ صارخ مع ما كانت لتبدو عليه أيام مجدها، عندما كان المبنى المكون من أربعة طوابق يمتلئ عن آخره بأشخاصٍ يتشاركون الطاولات، ويقرعون كؤوس البيرة، ويسمعون موسيقى البوب.
يقول سيهون بالاك، مدير الحانة ومالكها منذ 17 عاماً، والبالغ من العمر 41 عاماً، وهو جالسٌ على طاولةٍ خالية: "كنا نوظف نحو 65 نادلاً في مثل هذا الوقت من العام، الآن نحن 8 فقط. كانت هذه حانةً بمفهومها التقليدي، كنا نقدم الكحوليات. وما إن توقف الغربيون وجاء العرب، أزلنا رفّ النبيذ في البداية، ثم أعدنا تصميم قوائم المشروبات، فوضعنا الكحوليات في الصفحات الأخيرة".
وعلى امتداد ميدان سباق الخيول، حيث كان البيزنطيون يستمتعون بسباقات العربات، تجلس عائلةٌ مكونةٌ من ثلاثة أفراد يستمتعون بمنظر مسلةٍ وضعها هنا الإمبراطور ثيودوسيوس الأول عام 390 للميلاد، ولو أنها أُقيمت أساساً للملك تحتمس الثالث ملك مصر في القرن الخامس عشر قبل الميلاد.
تقول ماجدة بوربيا، عالمة إشعاعٍ من مارسيليا بفرنسا تبلغ من العمر 59 عاماً، وتسافر مع زوجها وابنها: "لقد أتينا من أجل تاريخ المدينة، إنه آسر". لطالما أرادت ماجدة زيارة موطن الإمبراطورية العثمانية التي حكمت يوماً موطن أجدادها الجزائر.
وتجاهلت الأسرة التحذيرات الأمنية حيال تركيا، معتبرينها من باب التهويل أكثر منها واقعاً".
الهوية الشرقية ستعزز السياحة
البعض يرى أن التغيير البادي في الشوارع قد يصب في صالح تركيا. إذ يقول أتيلا تونا، من شركة Antonina Tours: "يُمكن للمظهر المائل للشرقية كذلك أن يُبهر السائح الغربي. وبأي حالٍ فإن النساء العربيات لا يتجولن بالعباءات. إنهن يرتدين السراويل القصيرة، والتنانير القصيرة، ويشربن البيرة، وتخلع الإيرانيات براقعهن. فتركيا بلدٌ حرٌ".
من جهتها حظيت مدينة بودروم الواقعة على شبه جزيرة، والتي كان أغلب السياح البريطانيين يملؤونها حتى أعوام قريبة، بنصيبها من تغير المناخ الثقافي كذلك.
إذ يقول هارون كارادينيز، مالك وكالة Attache التي تعد واحدةً من أقدم مؤسسات السياحة في المنطقة: "لطالما كان عملاؤنا الأساسيون هم البريطانيون، بالإضافة إلى أعداد الروس المتنامية. كان علينا البحث عن طرقٍ بديلة لمجابهة الأزمة بعد 2015. كنت أتعامل مع وكالةٍ من إسطنبول استقدم منها السياح العرب، والآن بت أتعامل مع 18 وكالة مماثلة".
قد لا يكون السياح العرب مهتمين بآثار مدينة إفسيس التي ترجع للقرن العاشر قبل الميلاد، والتي صنفتها منظمة اليونيسكو بوصفها إرثاً إنسانياً. وقد يبقون غير مبالين بمدينة برغاموس الهلنستية البالغة من العمر 8500 عامٍ، لكنهم مدوا الموسم السياحي من أربعةٍ إلى سبعة أشهرٍ من الجولات والعشاء والتسوق في أرجاء شبه الجزيرة.
ويقول كارادينيز: "يمثل العرب 45% من السياح خلال أول ثلاثة أشهرٍ من الموسم، وينفردون ببقيته. أذهب إلى إسطنبول، وأرى تأثير السياحة العربية في الكثير من المناطق، وهو ما لم يحدث هنا بعد. فمن بين كل 10 يمكنك أن ترى حتى الآن نحو ثلاثة بريطانيين، وثلاثة روسٍ وألمانيين، وعربيين".
وفي بلدٍ تلعب السياحة فيه دوراً اقتصادياً كبيراً، فإن الجهود المبذولة لبناء تدفقٍ سياحي متنوعٍ ومستقر تحل محل المخاوف الثقافية.
وعلقت وزارة الثقافة والسياحة التركية في بيانٍ مكتوبٍ على تساؤلات صحيفة The Independent، ونقلت عن الوزير قوله: "تنوع التدفق السياحي لا يؤثر بالسلب أبداً على إرثنا الثقافي وقيمنا التي تلعب دوراً بارزاً في الترويج لبلادنا. بل على العكس، فإنه سيساعد في الترويج والجذب العالمي لهذه القيم في نطاقٍ جغرافيٍ أكبر، وبالتالي سيُعزز إسهامه في سياحة البلاد".
كما جاء في البيان أن الوزارة تخطط لإنشاء وكالةٍ عامة جديدة للترويج للبلاد عالمياً، وقد أجرت بالفعل مسحاً دولياً كبيراً لقياس مفاهيم الأفراد حول تركيا، محددةً أوجه القصور قبل وضع استراتيجيةٍ جديدة.
وفي الوقت الذي تركز فيه الفنادق والمطاعم ومنظمو الرحلات السياحية وغيرها من الشركات العاملة في قطاع السياحة على النجاة على المدى القصير، يحذر البعض، مثل الوزير السابق يوسيل، من التداعيات بعيدة المدى لتغيير الهوية السياحية المرتكز على المكاسب المادية على الثقافة التركية الأناضولية.
ويرى أن التقليل من شأن تلك الظاهرة، بدلاً من محاولة السيطرة عليها كما فعل العمدة الجديد إمام أوغلو، هو أقل طرق حل المشكلة فاعليةً.
وأضاف: "بالطبع علينا أن نرحب بكل السياح من كل العالم -شرقه وغربه- لكن علينا فقط أن نقف على بعد مسافاتٍ متساوية من الجميع. مع ذلك، لا ينبغي غض النظر عن فرض أي ثقافةٍ خارجية نفسها علينا، تحت تأثير ما يأتي معها من أموال. سيكون من الأفضل القدوم إلى هنا لاستكشاف ثقافتنا كما هي".