ما زال الغموض يحيط بأسباب جون بولتون خروج صقر الحرب الأمريكي، جون بولتون، الشهير بشاربه الكثّ ومواقفه المتشددة من إدارة الرئيس دونالد ترامب، بعدما كان يشغل منصب مستشار الأمن القومي.
فهل خرج بسبب الخلاف مع ترامب بشأن اقتراح الأخير عقد قمة مع نظيره الإيراني حسن روحاني، أم بسبب التفاوض مع طالبان واقتراح ترامب استقبال وفد في منتجع كامب ديفيد، أم تسريبات بولتون للصحافة؟
وهل استقال بولتون كما يقول هو نفسه، أم أقيل كما يقول ترامب؟
تحالف غير متصوَّر
جمع تحالف لم يكن أحد يتصوره، بين الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ومستشاره للأمن القومي جون بولتون في السياسة الخارجية.
إذ كان بولتون يتشكك في قدرات ترامب على تحقيق نتيجة من التواصل مع كوريا الشمالية وفي مساعيه لاستمالة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وكان يؤيد حرب العراق التي كان رئيسه يبغضها.
ومع ذلك فقد عمل الاثنان معاً دون مشاكل نسبياً على مدار 17 شهراً، وكان بولتون يلح بآرائه المتشددة وراء الكواليس، فيفوز في بعض المناقشات الداخلية ويخسر البعض الآخر، وكان دائماً ما يوضح أنه ليس صاحب القرار.
مهندس الإبادة الاقتصادية لإيران
حين أعلن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، في عام 2017، أنَّ الولايات المتحدة ستنسحب من الاتفاق النووي الإيراني، كانت لدى إدارته خطةٌ قائمة بالفعل.
فلم يكن فريق ترامب يريد الاكتفاء بالانسحاب من الاتفاق، بل كان يريد شن حملة إبادة اقتصادية كاملة على طهران، ووكلائها المسلحين، وأقوى قطاعاتها التجارية، من أجل إجبار الإيرانيين على إعادة التفاوض، أو إقناع الشعب الإيراني بالثورة على النظام الإيراني.
واستعان البيت الأبيض ووزارة الخارجية آنذاك بخبراء خارجيين من مراكز بحثية بارزة تؤيِّد الحلول العدوانية، من أجل مساعدته. لكنَّ المهندس الرئيسي لهذه السياسة كان جون بولتون، حسبما ورد في تقرير لصحيفة The Daily Beast الأمريكية.
فعلى مرِّ سنوات، كان بولتون ثابتاً على موقفه في تأييد استراتيجية ممارسة الضغط الأقصى على طهران.
وفي أبريل/نيسان 2018، وجد نفسه في وضعٍ يسمح له بتحويل هذه الفكرة التي يؤيدها إلى حقيقة بعدما عيَّنه ترامب في منصب مستشار الأمن القومي.
القشة التي قصمت ظهر البعير.. لماذا ستقابله؟
بيد أنَّ هذه العلاقة الوطيدة لم تستمر؛ فمع أنَّ إدارة ترامب تتبنَّى نهجاً متشدداً تجاه إيران، إلا أن الرئيس الأمريكي نفسه لم يلبث أن ابتعد تدريجياً عن النهج المتشدد الذي يجسده بولتون.
وقد وصلت الأمور إلى ذروتها في الأسابيع القليلة الماضية، وفقاً لمسؤولين أمريكيين وثلاثة أشخاص مشاركين في إدارة شؤون سياسة الأمن القومي داخل إدارة ترامب. ففي محادثات مع مستشار الأمن القومي المُقال بولتون وآخرين، قال ترامب إنَّه يفكر في مقابلة الرئيس الإيراني حسن روحاني على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة المقرر انعقادها في الشهر الجاري (سبتمبر/أيلول 2019). وكان من بين الشروط الرئيسية التي طلبها النظام الإيراني للموافقة على عقد مثل هذه المقابلة، أن توافق الولايات المتحدة مقدماً على تخفيف بعض العقوبات الأمريكية المفروضة على البلاد.
وبالنسبة لبولتون، كان مجرَّد تفكير ترامب في الموافقة على هذا الطلب هو القشة التي قصمت ظهر البعير، وفقاً لثلاثة مسؤولين أمريكيين، لأنَّها كانت دليلاً على أنَّ الرئيس الأمريكي فقد الثقة بمستشاره.
وقال أحد المسؤولين الأمريكيين لمجلة Time الأمريكي، إنَّ بولتون وترامب حين تحدثا آخر مرة، تركزت المحادثة سريعاً على سؤال: "لماذا ستقابل روحاني؟".
هل أقيل أم استقال؟ ليس هذا هو السؤال
وفي يوم الثلاثاء 10 سبتمبر/أيلول، أعلن ترامب أنه أقال بولتون، معللاً ذلك بوجود خلافات "مع عديد من اقتراحاته".
لكن سارع بولتون إلى تكذيب هذا الخبر، وقال لصحيفة The Daily Beast -وعدة وسائل إعلامية أخرى- إنَّه هو الذي قدَّم استقالته في الليلة السابقة.
وبغضّ النظر عمَّا إذا كان قد أقيل أم استقال بمحض إرادته، فإنَّ ما حدث لا ينفي حقيقة أنَّ أشهره الأخيرة في فريق ترامب كانت مليئة بالتوتر والاقتتال والآراء المختلفة تجاه القضايا العالمية.
عليكم مراقبته
ويبدو أنَّ مستوى الثقة بين الرئيس ومستشاره السابق تدهور بسرعةٍ كبيرة، لدرجة أنَّ ترامب طلب من عديد من المستشارين مراقبة بولتون، لمعرفة ما إذا كان الأخير يُدلي بتسريباتٍ صحفية ويطعنه من الخلف.
إذ قال اثنان من كبار المسؤولين في الإدارة إنَّهما اشتكيا مباشرةً إلى ترامب من بولتون في الأسابيع الأخيرة، وقالا له إنَّهما يظنان أنَّ مستشار الأمن القومي يُقدِّم تسريباتٍ صحفية وفيرة للإعلام حين يخسر في المشاحنات والمعارك السياسية داخل الإدارة.
وأشار الرجلان إلى أنَّ الرئيس الأمريكي لم يتفق صراحةً مع شكوكهما، لكنَّه طلب من كليهما التيقُّظ وإبلاغه بأي شيء يحتاج معرفته.
وبعث بولتون برسالةٍ إلى صحيفة The Daily Beast عصر أمس، يؤكِّد فيها أن المزاعم بأنَّه كان يُقدِّم تسريباتٍ للصحافة "خاطئة تماماً".
لكنَّ تصويره على أنَّه شخصٌ يُفشي أسراراً عن الشؤون الداخلية كان قوياً بما يكفي ليقول الجمهوريون إنَّه سببٌ منطقي مقبول تماماً لإقالته من جانب ترامب.
إذ قال السيناتور ليندسي غراهام عضو مجلس الشيوخ الجمهوري عن ولاية كارولينا الجنوبية: "أنا معجبٌ بجون بولتون. اعتقدت أنه كان يؤدي عملاً جيداً، وكنت أتفق مع رأيه تجاه القضايا العالمية، لكنَّي أعتقد أن الثقة قد فُقِدت، وهناك رأي يقول إنَّ ادعاء أنَّه يقدم تسريباتٍ للصحافة كان حساساً للغاية بالنسبة للرئيس".
وبغض النظر عمَّا إذا كان بولتون يُقدِّم تسريباتٍ للصحافة أم لا، فإنَّه بالتأكيد لم يكن يدعم ترامب، على الأقل بالقدر الذي يريده الرئيس الأمريكي ترامب.
إذ أكدت عدة مصادر أنَّ بولتون تخلَّى عن اللقاءات التلفزيونية التي كان يُجريها في أيام الأحد طوال فصل الصيف، لأنه لا يريد أن يدافع عن ترامب في عديد من القضايا.
طالبان من أسباب خروج جون بولتون.. "لا أطيق حضورهم لأمريكا"
قضايا الخلاف بين ترامب وبولتون لم تكن بسيطة.
إذ قال اثنان من المسؤولين لصحيفة The Daily Beast، إنَّ بولتون دخل في جدالٍ قوي ضد قرار الرئيس الأمريكي دعوة ممثلين من طالبان والحكومة الأفغانية إلى كامب ديفيد لحضور اجتماع رسمي، قائلاً له إنَّ مشهد إحضار أعضاء من طالبان إلى الأراضي الأمريكية بالقرب من يوم 11 سبتمبر/أيلول، سيكون غير مناسب.
وصحيحٌ أنَّ ترامب ألغى الاجتماع في النهاية، لكنَّ مسؤولاً آخر قال إنَّ بولتون نصحه كذلك بإبقاء القوات الأمريكية في أفغانستان إلى ما بعد الانتخابات الرئاسية الأمريكية المقرر إجراؤها في العام المقبل (2020)، وهو ما عارضه الرئيس بشدة.
الصخرة التي حطمت تحالفهما.. إنه يحاول تأليب نائب الرئيس
كان سعي ترامب إلى إجراء حوار مع قادة حركة طالبان حول مستقبل أفغانستان، هو الصخرة التي انكسر عليها تحالف الاثنين، حسب تقرير لوكالة رويترز.
وقال مصدران مطلعان إن أحد الأمور التي ضايقت ترامب هو احتمال أن يكشف بولتون عن مشاركة نائب الرئيس مايك بنس له في معارضته لمسعى ترامب استقبال قيادات طالبان في منتجع كامب ديفيد الرئاسي بولاية ماريلاند، لمحاولة التوصل إلى اتفاق سلام.
وقال المصدران إن المعنى الضمني هو أن بولتون يحاول أن يقف في صف واحد مع بنس، وأن يرسل إلى ترامب رسالة، مفادها أن نائب الرئيس نفسه يختلف معه، وهو ما أثار حنق الرئيس.
وقال أحد المصادر: "الخلاف بينهما جوهري، وأحدهما فقط هو الذي انتُخب رئيساً".
يجب استخدام القوة في كل هذه الأزمات
ويقول العاملون في الجناح الغربي بالبيت الأبيض، إنهم لاحظوا تغيُّراً في بولتون بالأشهر الأخيرة، إذ ازداد صمته ولم يعد ميّالاً إلى المواجهات، وكان يسافر إلى الخارج كثيراً.
وبينما كان كبار المستشارين يطيرون في أغلب الأحوال مع الرئيس على طائرة الرئاسة في الرحلات الخارجية، كان بولتون يستقل طائرته في أكثر الأحيان، ويقوم برحلات جانبية إلى دول ليست ضمن جولة الرئيس.
وقال مصدر: "كان ذلك يبدو غريباً بعض الشيء".
وكثيراً ما كان بولتون يردد في مقابلاته الإعلامية، أن آراءه في تحديات السياسة الخارجية الرئيسية لم تتغير قيد أنملة منذ سنوات.
وبصفته مستشاراً للأمن القومي، عمل على فصل الولايات المتحدة عن عدد من المعاهدات العالمية، معتقداً أنها ستكبّل البلاد في نهاية المطاف.
كان من المنادين بقوة بفرض عقوبات على إيران، والإطاحة بالرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو، وقال لمسؤولين روس إنه يجب ألا تتدخل موسكو في الانتخابات الأمريكية، وهي مواقف جاراها ترامب إلى حد كبير، وأبقى في الوقت نفسه الباب مفتوحاً أمام بوتين.
وقال مصدر قريب من بولتون: "تشبَّث بمبادئه".
وهذه العدوانية انعكست على علاقته بأعضاء الإدارة
وعلى صعيدٍ آخر، تسبب تأييد بولتون للحلول العدوانية وطبيعته الحادة الصارمة، في إثارة عداواتٍ بينه وبين بعض الأشخاص الذين يشغلون مناصب عليا بالإدارة. لذا لم يتلقَّ دعماً ومواساة عند رحيله من منصبه إلَّا من بضعة مسؤولين بارزين.
وفي مؤتمرٍ صحفي عُقِد أمس، لم يُبدِ وزير الخارجية مايك بومبيو ولا وزير الخزانة ستيف منوتشين كثيراً من الحزن على رحيله.
وقال بومبيو للصحفيين: "صحيحٌ أنني اختلفت مع بولتون في عدة مرات، لكنَّ هذا الأمر يحدث مع كثير من الأشخاص الذين أتعامل معهم".
ووصل الأمر إلى التراشق بالتغريدات
وفور إقالته وعلى مرِّ عدة ساعات، أخذ ترامب وكبار موظفيه ينتقدون بولتون الذي رحل للتو عن منصبه انتقاداً علنياً، عبر التغريدات والرسائل النصية.
لكنَّ بولتون لم يتردد في الرد على هذا الهجوم، الذي تحوَّل في بعض الأحيان إلى جدالٍ عبر الإنترنت بين الرئيس ومستشاره السابق للأمن القومي حول ما إذا كان الأول هو الذي أقال الثاني أم أنَّ الثاني هو الذي استقال بمحض إرادته.
غير أنَّ آليات الإقالة ليست مهمة بالنسبة لقضايا السياسة الخارجية بقدر أهمية العواقب السياسية التي قد تنجم عنها. فبعدما دافع بولتون على مرِّ سنواتٍ، عن اتباع نهجٍ أشد عدوانية بوضوح تجاه إيران، من المؤكِّد أنَّ رحيله سيزيد احتمالات حدوث بادرةٍ دبلوماسية.
وفي هذا الصدد، قال روبرت مالي، العضو السابق بمجلس الأمن القومي في عهد الرئيس السابق باراك أوباما: "رحيل بولتون لا يجعل اجتماع ترامب روحاني على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة أمراً مفروغاً منه.
لكنَّه يزيد احتمالية حدوثه إلى حدٍّ ما. فالشرط الإيراني السابق المطلق لأي اجتماعٍ كهذا هو تخفيف العقوبات الأمريكية. ونحن نعلم أنَّ ترامب كان مستعداً لتخفيف بعض العقوبات، وأنَّ بولتون كان يعارض ذلك تماماً.
ولكن ما زالت هناك عديد من العقبات التي تحول دون عقد اجتماعٍ بين ترامب وروحاني، وإيران ستريد ثمناً باهظاً مقابل هذا اللقاء الذي تعتبره خطوةً كبيرة. لكنَّ هذه العقبات أُزيلت منها واحدةٌ على الأقل".