تعد الانتفاضة الأخيرة في السودان، التي أطاحت بعمر البشير، الثورة الثالثة التي تغير النظام الحاكم في السودان، بعد الثورتين السابقتين في أكتوبر/تشرين الأول 1964 وأبريل/نيسان 1985، اللتين فشلتا بسبب ثلاثة تحديات: المساومات بين النخب السياسية على حل اختلافاتها بالوسائل الديمقراطية، والترتيبات المدنية العسكرية التي تحدد دور الجيش الحالي والمستقبلي في السياسة، واستراتيجية التنمية الاقتصادية. ومن أجل ألا تحمل تلك الانتفاضة نفس مصير الانتفاضتين السابقتين ينبغي التعامل مع هذه التحديات خلال المرحلة الانتقالية، كما يقول ياسر زيدان، الكاتب السوداني المختص بالشؤون الدولية، في مقالة منشورة له بمجلة Foreign Policy الأمريكية.
حتى لا يدمّر الجيش اتفاق أغسطس
يقول زيدان، إن كثيراً من السودانيين يخشون من أن نزوع الجيش نحو الاستبداد، كما تُبينه أحداث مذبحة 3 يونيو/حزيران، قد يقود في نهاية المطاف إلى القضاء على اتفاق 17 أغسطس/آب. وإذا كان لمثل هذا السيناريو –الذي يرفض فيه الجيش في النهاية الائتلاف مع مجموعات مدنية ويقرر أن يستأثر بحكم البلاد- أن يسير، فإن البلاد قد تعود إلى القمع والفساد اللذين لحقا بها لمدة 30 عاماً.
وتعد العقبة الأولى أمام الاستقرار السياسي في السودان هي وجود عدد كبير جداً من المنظمات والكيانات السياسية المتنافسة، فهناك أكثر من 120 حزباً سياسياً مسجلاً في السودان. ومع ذلك، تمكنت الثورة حتى الآن من توحيد الإسلاميين والعلمانيين والأحزاب التقليدية والجماعات التقدمية وراء هدف إطاحة نظام البشير الفاسد، كما يقول الكاتب.
وينبغي للمرحلة الانتقالية أن تكون مرحلةً تصالحيةً، لتجنب التحزُّبات الاجتماعية، وهي ظاهرة أسهمت في الانهيار الديمقراطي في مناسبتين سابقتين في تاريخ السودان.
1- توسيع التحالف الثوري
في خمسينيات القرن الماضي، مُنع الحزب الشيوعي السوداني من ممارسة الأنشطة السياسية في السودان، على يد المؤسسة السياسية التي حلت محل ديكتاتورية الفريق إبراهيم عبود، وكان أن أدّت هذه الخطوة غير الديمقراطية بالحزب الشيوعي إلى دعم الانقلاب العسكري الذي قاده اللواء جعفر النميري في الستينيات.
الطريقة الوحيدة لحماية الانتفاضة من نتائج مماثلة هي توسيع التحالف الثوري ليشكل الأحزاب التي لم توقع على إعلان "قوى الحرية والتغيير" في يناير/كانون الثاني الماضي.
ودعا الإعلان، الذي وقَّعه كل من "تحالف قوى نداء السودان" و "تحالف قوى الإجماع الوطني" و "تجمع المهنيين السودانيين"، إلى التنحي الفوري للبشير ونظامه من السلطة دون قيد أو شرط، وتشكيل حكومة انتقالية وطنية. ومن شأن تحالف وطني أوسع أن يخلق فرصةً حقيقية للتقدم نحو الديمقراطية، ويضمن إجماعاً أوسع على عملية تشكيل الدستور الجديد.
2- فهم التحالف الأمني العسكري
يكمن التحدي الثاني في العلاقة المدنية العسكرية المضطربة، التي طغت على الحكم في السودان منذ الاستقلال. فقد عرف السودان أكثر من 40 عاماً من الحكم العسكري، وشهد أكثر من 13 محاولة انقلاب، وهو رقم يعبر عن درجة نزوع الجيش السوداني إلى الانخراط في السياسة، وهو ما دفع حسن علي، أستاذ العلوم السياسية في جامعة الخرطوم، إلى الذهاب في مقال له إلى أن "الانقلاب العسكري في السودان هو استمرار للعملية السياسية بوسائل أخرى" .
ومع ذلك، كانت المؤسسة السياسية هي التي أقرّت تلك الانقلابات جنباً إلى جنب مع الجيش. ودعمت الأحزاب السياسية، مثل حزب الأمة في عام 1958 والأحزاب اليسارية في عام 1964 والإسلاميين في عام 1989، الانقلابات العسكرية التي أسقطت الحكومات المنتخبة ديمقراطياً.
أما في هذه المرة، فقد تولَّى بن عوف رئاسة المجلس العسكري الانتقالي، لكنه سرعان ما استقال من منصبه في اليوم التالي، لأن مجلسه لم يكن يلبي توقعات الناس. والواقع أن بيان تحالف الحرية والتغيير وصف الأمر بأنه "انقلاب داخلي عسكري، أعادوا به إنتاج ذات الوجوه والمؤسسات التي ثار شعبنا العظيم عليها" . وفي إثر ذلك، أدى المفتش العام للقوات المسلحة السودانية آنذاك، عبدالفتاح البرهان، اليمين الدستورية رئيساً للمجلس العسكري الانتقالي. وكان البرهان يتمتع بتأييد بين الرتب العسكرية المختلفة، والأهم من ذلك أنه كان يحظى بدعم محمد حمدان دقلو، المعروف أيضاً بـ "حميدتي"، قائد قوات الدعم السريع مرهوبة الجانب، التي كان لها دور أساسي في إطاحة البشير.
يقول زيدان، إن النخب السياسية في حاجة إلى تفهم الطبيعة الهشة للتحالف الذي جمع ثلاثة أجهزة أمنية مختلفة ضد البشير في أيامه الأخيرة. هذا التحالف الذي تألّف من القوات المسلحة السودانية، وجهاز الأمن والمخابرات الوطني، وقوات الدعم السريع شبه العسكرية التابعة لدقلو. وتشير بعض التقارير إلى أن صلاح غوش، رئيس جهاز الأمن والمخابرات الوطني، له دور تنسيقي في إقناع حميدتي والقادة العسكريين بالانقلاب على البشير، وكي يؤمّنوا مناصبهم في النظام الجديد، علاوة على أن اللجنة الأمنية التي كان البشير قد أنشأها للتعامل مع الاحتجاجات، استُخدمت اجتماعاتها في التنسيق للانقلاب ضده.
ومن الأهمية بمكان، التشديد على أن الطرف المدني إذا قام بتحركات مندفعة أو سريعة لإصلاح أو حل أي من هذه المؤسسات العسكرية، فقد تكون الحرب الأهلية هي النتيجة. ومثلما قاوم المسؤولون السابقون في حزب البعث في العراق سياسةَ اجتثاث البعث التي قادتها الولايات المتحدة، ستسعى الفصائل السودانية إلى حماية مصالحها وسلطاتها.
3- تحجيم الأجهزة الأمنية وتنظيمها
وربما تكمن إحدى الخطوات المهمة نحو استقرار العلاقة بين المدنيين والعسكريين، في إضفاء الطابع التنظيمي المؤسسي على قوات الدعم السريع ودمجها فرعاً جديداً في القوات المسلحة السودانية، وذلك من أجل وضع قدراتها العسكرية والقتالية في خدمة السودان.
وإذا خضعت قوات الدعم السريع لقيادة القوات المسلحة، فسيكون هناك المزيد من السيطرة المدنية على تلك المجموعات شبه العسكرية، لأن ذلك سيضمن تجنيداً وطنياً ومتنوعاً، وبالتالي قوة أكثر احترافية. وقد يميل حميدتي إلى قبول ذلك، لأنه يسعى إلى اكتساب الشرعية.
عمل نظام عمر البشير قبل أن يسقط على تجنيد مجموعات مسلحة خارج القوات المسلحة السودانية، وذلك لاستغلال الانقسامات وتطبيق استراتيجية فرّق تسُد في البلاد. ومع ذلك، فقد كان لقوات جهاز الأمن والمخابرات الوطني وقوات الدعم السريع، دورٌ حاسم في سقوط النظام في 11 أبريل/نيسان، بعد أن رفضوا اتّباع الأوامر التي صدرت إليهم بفض اعتصام المحتجين بعنف، وهي خطوة تتناقض مع ما جرى في 3 يونيو/حزيران الماضي، مما يشير إلى أن هناك اتجاهين مختلفين داخل جهاز الأمن، هما: المتشدّدون والمعتدلون.
4- الاستفادة من اختلافات العسكريين
يقول زيدان، يبدو أن أفضل استراتيجية ينبغي للقوى المدنية استخدامها لمنع الجيش من تخريب اتفاق 17 أغسطس/آب، هي تسليط الضوء على الاختلافات بين اتجاهي التفكير داخل المجلس العسكري الانتقالي. ويجب أن تشدد الصفقة المعقودة بين المدنيين والعسكريين على ضرورة أن يكون لمختلف القوى المسلحة دور متساوٍ وموحد ودون استغلال معين لأي منها، وذلك لضمان انتقال سلمي ومرن إلى الديمقراطية.
5- انتزاع الفرص لإصلاح الاقتصاد
وأخيراً، هناك مسألة الإصلاح الاقتصادي. فعندما انفصل جنوب السودان عقب استفتاء عام 2011، فقد السودان ما يقرب من نصف موارد ميزانيته، ثم انخفضت إيرادات النفط السودانية بنسبة 75%، مما أدّى إلى خسارة 60% من الإيرادات المالية وعائدات النقد الأجنبي. وعلى الرغم من أن الولايات المتحدة ألغت معظم العقوبات المتعلقة بالصراع في دارفور والمفروضة على السودان في عام 2017، فإن الحكومة السودانية فشلت في تحقيق نوع من الاستقرار للاقتصاد بسبب الفساد وسوء إدارة الحكومة. وإلى اليوم، لا يزال الاقتصاد المتعثر وتدهور قطاع الخدمات العامة يهيمن على البلاد.
سيتعيّن على الحكومة الجديدة أن تتعامل مع اقتصاد فاشل، وأن تدعم الإصلاحات الديمقراطية في الوقت ذاته. ولن يكون من اليسير إصلاح اقتصاد السودان بعد أن انفصل جنوب السودان وزاد عليه ثلاثة عقود أخرى من الفساد والسيطرة الحكومية.
ومع ذلك، فإن هناك فرصاً، مثل التي في القطاع الزراعي الواعد، الذي شهد تطوراً هائلاً خلال العامين الماضيين. فالسودان لديه بعض أكثر الأراضي خصوبةً في إفريقيا، والأراضي الحكومية الـتي تُستأجَر في كثير من الأحيان إلى الحكومات الأجنبية والمستثمرين، التي يمكنها تحصيل إيرادات من خلالها.
وينبغي للحكومة تشجيع القطاع الخاص على زيادة الاستثمارات بالعملة الصعبة وتعزيز البنية التحتية للبلاد مثل الموانئ والسكك الحديدية الوطنية والطرق السريعة بين الولايات. ويمكن لذلك أن يكون جزءاً من استراتيجية رئيس الوزراء الجديد عبدالله حمدوك للسنتين القادمتين، التي طلب من أجلها 8 مليارات دولار من المساعدات خلال العامين المقبلين لإعادة بناء الاقتصاد المنهار.
ويعد قطاع ريادة الأعمال والشركات الصغيرة هو القطاع المتنامي الآخر في السودان. فقد تمكن رواد الأعمال الشباب من مقاومة احتكار النظام في القطاع الخاص من خلال إنشاء شركات مبتكرة قائمة على البرمجيات والتطبيقات، والتي غيرت العديد من جوانب الحياة اليومية السودانية مثل "ترحال" و "يلا نطلب"، وهما تطبيقان للهواتف الذكية لطلب سيارات الأجرة والطعام. وهذه إحدى الصناعات التي يمكن لها أن تزدهر إذا حظيت بدعم دولي.
6- الانفتاح على الخارج
بالإضافة إلى ذلك، ينبغي للمجتمع الدولي، إذا أراد دعم تقدم السودان نحو الديمقراطية، أن يزيد من دعمه المالي والتقني للخرطوم خلال ذلك الوقت الحرج. فالسودان مفترقُ طرق إقليمي ودولي. على الصعيد العالمي، يتعاون السودان مع الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي في قضايا مكافحة الإرهاب والهجرة، ومن ثم يتعين على شركاء السودان في الخليج والاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة في هذا الوقت الحرج تقديم المساعدات من خلال وضع "خطة مارشال سودانية"، تضمن انتقالاً سلساً وناجحاً إلى الديمقراطية. علاوة على أنه يجب حذف السودان من "قائمة الدول الراعية للإرهاب"، التي تمنع المساعدات المالية الأجنبية عن السودان منذ عام 1993.
ستقرر عملية الانتقال الحالية مصير الديمقراطية الجديدة التي يطمح الشعب السوداني إلى تحقيقها؛ إذ إنها مرحلة حساسة وتتطلب معالجةً حكيمةً وحذرة. ويمكن لجبهة مدنية واسعة وشاملة أن تمنع القوى المعادية للثورة من استخدام تكتيكات فرّق تسُد لإضعاف القوى المؤيدة للديمقراطية. وبالمثل، فإن اتباع مقاربة قائمة على تحقيق المصالح تجاه القوات المسلحة، يعزز الأصوات الديمقراطية والإصلاحية داخل الجهاز الأمني، وفي الوقت نفسه، فإن الاستراتيجية الاقتصادية المتطلعة للأمام يمكن أن توفر الموارد التي يحتاج إليها لإعادة اختراع ذاته.