في ظل الانخفاض الحاد لليرة السورية والانحدار التاريخي لقيمتها مقابل الدولار الأمريكي، تُطرح تساؤلات عدة حول أسباب هذا الانهيار بالرغم من زعم النظام السوري انتهاء الحرب ودخول البلاد في حالة استقرار كامل، واستمرار تلقيه الدعم والحماية الكاملة من إيران وروسيا. وما انعكاسات هذا الانهيار على الحالة الاقتصادية للمواطن السوري، وآثارها كذلك على صمود النظام أمام العقوبات الدولية المفروضة عليه؟
ماذا يحصل لليرة السورية؟
مسجلاً أعلى رقم في تاريخه، وصل سعر صرف الليرة السورية الأحد 8 سبتمبر/أيلول 2019، إلى 676 ليرة للبيع، و680 للشراء، في حين أن المصرف المركزي لا يزال يحدد السعر الرسمي لصرف الدولار بـ 434 ليرة. في الوقت الذي يتوقع محللون اقتصاديون أن يصل الدولار الأمريكي إلى عتبة الألف ليرة.
وبهذا الرقم، تسجل الليرة السورية أدنى مستوياتها منذ استقلال البلاد عن الاستعمار الفرنسي عام 1946، الأمر الذي أدى إلى ارتفاع جنوني للأسعار، وتآكل مداخيل الأسر السورية.
"السوريّون يدفعون فاتورة بقاء النظام"
من جانبه، يقول معن طلاع، وهو باحث رئيس في السياسة والعلاقات الدولية بمركز عمران للدراسات، لـ "عربي بوست"، إن انهيار الليرة لم يكن مفاجئاً، وله أبعاد مركبة، أبرزها سياسي بحت، مشيراً إلى أن تكلفة ما بعد الحرب وبقاء النظام سيدفعها السوريون من قوت يومهم، خاصة أن الآلة العسكرية لم تتوقف تماماً وعمليات القصف والتدمير ما زالت مستمرة.
وبحسب طلاع فإن تكلفة استمرار الحرب استنزفت كل الموارد البشرية والاقتصادية للنظام، مشيراً إلى أن التكلفة العسكرية كانت باهظة جدا على نظام الأسد، الذي ما زال مستمراً في حروبه، ويرفض أي حل سياسي يتمثل في الانتقال السلمي للسلطة، فالبنسبة له يعد الحل الوحيد هو تدمير خصومه والاستمرار بقصف شعبه في مناطق المعارضة.
وبالنسبة للبعد الاقتصادي، يقول طلاع إن المواطن السوري يرى أن الحكومة ليس لديها أي أفق في الإصلاح الاقتصادي أو تغيير السياسات الاقتصادية المتبعة، وكل ما يعلن عن برامج اقتصادية وتنموية هو كلام ليس له أي قيمة، حتى أنصار النظام والمقربين منه يدركون ذلك تماماً.
العودة إلى ما قبل 2011 شبه مستحيل
بحسب طلّاع، فإن الحكومة السورية تعجز اليوم تماماً عن العودة لاقتصاد ما قبل عام 2011، والمواطن يعلم أنه لا يمكنها أن تتعامل مع ملفي عودة اللاجئين وإعادة الإعمار؛ لأنها ملفات تتطلب خططاً اقتصادية واضحة وكبيرة، وبرامج تنموية حقيقية ذات تكلفة عالية، وهذا يستحيل حدوثه مع استمرار العقوبات الدولية على النظام من جميع الاتجاهات.
قبل اندلاع الاحتجاجات بسوريا ضد نظام الأسد في مارس/آذار عام 2011، كان الدولار يساوي 48 ليرة سورية. ويشكل انخفاض قيمة العملة السورية دليلاً ملموساً على الاقتصاد المنهك في ظل تقلص المداخيل والإيرادات وانخفاض احتياطي القطع الأجنبي، في ظل خضوع البلاد لعقوبات اقتصادية أمريكية وأوروبية تسببت في مزيد من الخسائر الاقتصادية.
وهذه العقوبات جاءت بسبب قمع نظام الأسد للاحتجاجات ضده، باستخدام العنف المفرط ضد معارضيه والمناطق التي يوجدون فيها، مدعوماً بحلفائه الروس والإيرانيين، الذين يخضعون لعقوبات من أنواع أخرى أيضاً.
إلى أي مدى ستتطور هذه الأزمة؟
يقول طلّاع لـ "عربي بوست"، إن الأزمة الاقتصادية هذه ستستمر في التدهور، والليرة ستنهار أكثر وأكثر، طالما بقيت الأزمة السياسية مستمرة، وطالما توسّعت الشبكات المحيطة بالنظام التي استفادت من الحرب بشكل كبير واعتاشت عليها، حتى أصبحت شديدة الترف والغناء، في حين اتسعت الطبقة المسحوقة من الشعب بشكل مرعب، وتآكلت دخولها بشكل كبير، وبات كثير من الأسر السورية يعيش اليوم على أقل من 30 دولاراً في الشهر.
وحول سؤال عن قدرة النظام على الصمود أمام هذه الأزمة، يقول طلاع: "لا شك أن العقوبات الاقتصادية أثرت بشكل كبير على النظام وداعميه، لكن في النهاية أستبعد انهيار النظام في هذه المرحلة؛ لأنه نظام شمولي لا تعنيه آثار الأزمة الاقتصادية وانعكاسها على الشعب بقدر ما يعنيه الانتصار في الحرب على خصومه وسحقهم بالكامل".
وأضاف: "وما يجعل النظام واثقاً من ذلك، هو اغتناؤه واغتناء شبكاته المحيطة به على حساب الشعب المسحوق، وما أخشاه هو أن النظام أصبح لديه القدرة على التكيف من هذه الضغوط الدولية، فالأسد رجل حرب لا تعنيه أسئلة الاقتصاد، بقدر ما يعنيه الانتصار في الحرب وتكيّف المجتمع مع هذه الضغوط، كما يحصل للشعب الإيراني منذ وقت طويل".
أزمات اقتصادية بعضها فوق بعض
يأتي تراجع قيمة الليرة الأخير بعد أزمة وقود حادة شهدتها مناطق سيطرة قوات النظام خلال الصيف، وقد فاقمتها العقوبات الأمريكية على إيران بعدما توقف، أشهراً عدة، خط ائتماني يربطها بإيران لتأمين النفط بشكل رئيسي.
وبلغت خسائر سوريا في قطاع النفط والغاز وحده منذ عام 2011 نحو 74.2 مليار دولار أمريكي، وفق وزارة النفط والثروة المعدنية.
وتشهد سوريا حرباً دامية تسبّبت منذ اندلاعها في 2011، في مقتل أكثر من 370 ألف شخص وأحدثت دماراً هائلاً في البنى التحتية، وأدت إلى نزوح وتشريد أكثر من نصف السكان داخل البلاد وخارجها.
وقدرت الأمم المتحدة قبل عام تكلفة إصلاح الدمار في سوريا بنحو 400 مليار دولار، بعدما باتت مدن وقرى بأكملها فيه مجرد أنقاض وركام.