ما بدأ في صورة احتجاجٍ ضد "تشريع تسليم المجرمين"، تحوَّل إلى نضالٍ ملحمي من أجل مُستقبل هونغ كونغ. ووسط ناطحات سحاب المدينة المُتلألئة، والمقار الرئيسية لكبرى الشركات العالمية، والفنادق الفارهة؛ خرج ملايين الأشخاص إلى الشوارع في تحدٍ واضح لنفوذ "الصين الأم".
النشطاء فاجأوا العالم
ظلَّت وضعية هونغ كونغ الفريدة من نوعها -التي حصلت عليها إبان تسليمها من السلطة البريطانية عام 1997 إلى السلطة الصينية- قضيةً شائكةً سياسياً، سواءً كانت مخفيةً في أوقات الهدوء، أو مُشتعلةً في أوقات الاستياء الشعبي المُعارض للحكومة والمُؤيِّد للديمقراطية.
ومنحت اتفاقية "دولة واحدة بنظامين" مواطني هونغ كونغ بعض الحريات الشخصية والسياسية التي لا يتمتَّع بها نظراؤهم في الصين الأم. لكن اتفاقية تسليم السلطة تكفُل تلك الحقوق حتى 2047 فقط.
وفي ذلك الوقت، أمُل الغرب في أن يجذب سحر الأسواق العالمية والرخاء الأكبر الحكومة الصينية نحو الليبرالية، وربما الديمقراطية. وأثبت هذا الأمل أنَّه كان في غير محله. ففي ظل حكومة شي جينبينغ، صارت الصين مستعدةً لصياغة طريقها نحو وضعية القوة العظمى، وصارت سلطتها المحلية محميةً بواسطة دولة حزبٍ واحد سلطوية الرقابة.
ويبدو وكأنَّ المتظاهرين في هونغ كونغ يخوضون معركةً خاسرة. وفي كل عامٍ تقل أهمية المنطقة بالنسبة لاقتصاد الصين المُتنامي؛ إذ تصير المُدن الكُبرى مثل شنغهاي وبكين -وغيرها- مراكز مالية أكثر جاذبية. وبالنسبة لكل الكلمات الدافئة من خارج البلاد، فلا توجد دولةٌ على استعدادٍ للمخاطرة بعلاقاتها مع الصين حيال ما وصفته بكين بالنزاع الداخلي.
لكن النشطاء فاجأوا حكومات هونغ كونغ والصين بأعدادهم، ومُثابرتهم، وإبداعهم. ونادراً ما نجد حركة احتجاجٍ في الشارع بهذا التنسيق والدعم والامتداد المُذهل، كما تقول مجلة Newsweek الأمريكية.
التكنولوجيا الفائقة، والتقنيات البدائية
تُثير كل تلك الأمور الإعجاب أكثر، حين نُدرِكُ أن التظاهرات ليس لها قادةٌ مُحدَّدون. إذ نمت الحركة محلياً، وانتشرت عبر المنتديات الموجودة على الإنترنت -مثل LIHKG المُشابه لموقع Reddit-، والدردشات الجماعية عبر تطبيق Telegram للمراسلة المُشفَّرة.
وتضُمُّ بعض مجموعات Telegram الكبيرة عشرات الآلاف من الأشخاص. ويتشارك المُستخدمون عبرها التحديثات الإخبارية، والمعلومات بشأن نشر قوات الشرطة، وطرق الفرار، وأهداف التظاهرات. وهناك دردشاتٌ مُختلفة لأهدافٍ مُختلفة، تسمح للمجموعات الكبيرة من النشطاء بالعمل بشكلٍ مُستقل.
وتسمح خاصية استطلاع الآراء عبر التطبيق للمستخدمين بالتصويت فوراً حول البقاء في التظاهرة أو تفريقها. ففي الشهر الماضي مثلاً، صوَّت المتظاهرون عبر Telegram بنسبة 97% لصالح استهداف مطار هونغ كونغ الدولي، مما أجبر سلطات المطار على إلغاء مئات الرحلات الجوية.
وطوَّر المتظاهرون منظومةً بسيطة -ولكنها فعَّالة- للتواصل مع بعضهم البعض إبان فوضى اشتباكات الشوارع، بحسب أنتوني دابيران الكاتب والمُحامي المُقيم في هونغ كونغ.
إذ تُشير الإشارات المُختلفة إلى الحاجة لارتداء الخوذات، أو المياه، أو المحاليل الملحية، أو المقصات، أو المظلات، وغيرها. وهذا يُفسِّر إلى حدٍ ما سبب ظهور المتظاهرين وكأنَّ لديهم كل ما يحتاجون إليه عادةً، وقدرة فرق الإمداد الفائقة على التواجد دائماً عند الحاجة.
إذ كتبت هيلي ويليز، مُحقِّقة صحيفة New York Times الأمريكية، على تويتر: "إبان التظاهرات، يستخدم المتظاهرون منظومةً مُعقَّدة من الإشارات اليدوية والتنسيق لتنظيم الحشود".
"كُن مثل الماء"
كل هذا يعني أنَّ المُتظاهرين يستطيعون أن "يكونوا بلا شكلٍ أو تكوين، مثل الماء"، على حد تعبير نجم هوليوود بروس ويليس. ولتجنُّب تكتيكات احتلال الشوارع التي تبنَّتها حركات الاحتجاج السابقة؛ يتحرَّك النشطاء بانتظام، وبصورةٍ مُفاجئة، وبالقوة. وعانت الشرطة من أجل شلّ حركتهم، والتعامل مع التحرُّكات المُتزامنة في مُختلف المناطق. ودفع ذلك ببعض المُراقبين إلى الاضطرابات بأنَّها "ثورة المياه".
وعانت حركة المظلات عام 2014 من أجل الحفاظ على الدعم الشعبي، نتيجة تعطيلها الحياة اليومية في هونغ كونغ. وفي النهاية، سئم الناس عدم قدرتهم على الوصول إلى مناطق مُعينة في وسط المدينة. لكن الأمر مُختلفٌ هذه المرة. إذ إنَّ الاضطراب الدوري أكثر قبولاً لدى العامة، فضلاً عن أنَّ تغيير الأهداف يعني انتشار الفوضى.
وقال جاك دو ليزلي، الأستاذ بكلية الحقوق في جامعة بنسلفانيا وخبير القانون والسياسة الصينية، إن استمرار الحركة هو أمرٌ جديرٌ بالملاحظة؛ "رغم التدابير القاسية التي اتَّخذتها حكومة (هونغ كونغ) وتهديدات بكين".
ويبدو أنَّ استراتيجية "كُن مثل الماء" تعمل أفضل من الاحتلال. ويرى دو ليزلي أنَّ ذلك "ربما يرجع لأنَّها لا تُؤدِّي إلى رد فعلٍ مُعاكس كبير من الجماهير المُحبطة، وربما لأنَّهم يطلبون أموراً أقل من المشاركين، وربما لأنَّه لا يسهُل إيقافهم".
لماذا لا يسهل إيقافهم؟
أوضحت ريتشيل يو، الصُحفية المحلية التي تُغطِّي الاحتجاجات على الأرض، لمجلة Newsweek أنَّ "عدم وجود شخصٍ واحد يُصدر الأوامر"؛ قلَّص خطورة إلقاء القبض على مُتظاهرين بعينهم، إلى جانب زيادة فاعليتهم الإجمالية.
وتعلَّم النُشطاء أيضاً دروساً من اضطهاد الحكومة لقادة حركة المظلات. فحينها، كانت الحشود تكشف عن وجوهها بسهولةٍ أكبر. ولكن ريتشيل تقول إنَّ إدراكهم لأحكام السجن التي حصل عليها أولئك القادة، وقدرات الرقابة الصينية، دفعت المُتظاهرين اليوم إلى استخدام الأقنعة ونظارات الشمس والقبعات وغيرها من الملابس التي تُخفي هويتهم "قدر الإمكان".
وهذه الحركة اللامركزية تزيد صعوبة مهمة "قطع رأس الأفعى" على الشرطة، رغم أنَّ الشرطة استهدفت قادة الحركات السابقة لقتل زخمهم.
إذ برز جوشوا وونغ، الناشط المُؤيِّد للديمقراطية، مثلاً بوصفه زعيماً بارزاً في حركة المظلات، ولم يُخلَ سبيله من السجن سوى مُؤخراً. وحين أُطلِق سراحه بكفالة، قال وونغ إنَّه "من المُثير للسخرية" بالنسبة للشرطة أن تُصوِّرني أنا ومُؤيِّدي الديمقراطية الآخرين "بوصفنا زعماء الاحتجاجات المُناهضة لمشروع قانون تسليم المُجرمين".
على الخطوط الأمامية
في الواقع، يبدو أنَّ الحركة فاجأت سلطات هونغ كونغ على حين غرة. إذ أوضح دو ليزلي، قائلاً: "لا يبدو أنَّهم توقَّعوا مدى صلابة المُتظاهرين، وقدرتهم على التكيُّف. ويتجلَّى ذلك في سعيهم التفاعلي لتكتيكات جديدة ولجوئهم للإجراءات الوحشية، بطريقةٍ تبدو مذعورةً بعض الأحيان، مما أضر بالسمعة التي كانت إيجابيةً في الماضي لشرطة هونغ كونغ".
وأثبتت الحشود التي لا قائد لها براعتها في القتال ضد قوة شرطة هونغ كونغ، التي تحوَّلت في غضون شهور قليلة من رمزٍ مُحترم للإقليم إلى مُؤسسةٍ يحتقرها المُحتجون.
ومع تواصل الاضطرابات، صارت الشرطة عنيفةً بشكلٍ مُتزايد. إذ استُخدِمَ رذاذ الفلفل، والعصي الكهربائية، والغاز المُسيل للدموع، وخراطيم المياه، وطلقات الخرطوش، والرصاص المطاطي ضد الحشود.
وكانت سُحب الغاز المُسيل للدموع تحديداً -الذي يُستخدم أحياناً دون مراعاةٍ لمتطلبات السلامة القانونية- هي الوسيلة المُفضَّلة لتفريق الحشود دون الاضطرار إلى الاشتباك معهم مباشرةً.
ثورة من الإعجاب على منصات التواصل
وأثار المُتظاهرون الإعجاب بين مُستخدمي الشبكات الاجتماعية بفضل تكتيكات استجابتهم السريعة لإخماد السلاح الكيماوي القوي. إذ نظَّم النشطاء فرقاً صغيرةً تُدعى "رجال الإطفاء"، الذين يقبعون خلف الخطوط الأمامية تماماً، مُسلَّحين بالمياه والأقماع المرورية والأقنعة.
وحين تهبط قذيفة الغاز، يُسارعون إلى الأمام ويضعون القمع فوق القذيفة. ثم يصبُّون المياه من الفتحة الموجودة أعلى القمع، ليُخمِدوا القذيفة بالتزامن مع احتواء الكثير من الغاز الذي تُطلقه. وحقَّق الأفراد المُسلَّحون بزجاجات ودوارق المياه النتيجة ذاتها، إذ يُلقون بالقذائف داخل الدوارق لإخمادها، قبل إلقاء الخراطيش الفارغة في الشارع مرةً أخرى.
وكتب أليكس هوفورد، الناشط والمصور، على تويتر: "الطريقة التي يتعامل بها مواطنو هونغ كونغ مع الغاز المسيل للدموع هي طريقةٌ رائعةٌ للغاية".
وكتب جوشوا بوتاش: "شاهدت أنا وآخرون هذا المقطع وأرسلناه ونحن نقول إنَّ هذا المُتظاهر الرائع استخدم النيتروجين السائل لإخماد قنبلة غازٍ مُسيل للدموع. ولكن تلك المعلومات غير صحيحة، فمن الواضح أنَّه مُجرَّد طين. وهذه أخبارٌ عظيمة، لأنَّ الطين يسهل الحصول عليه كثيراً".
وأدَّى ذلك إلى ظهور "رجال الخطوط الأمامية" المزعومين -وهم نشطاء شباب مُسلَّحون بأسلحةٍ بدائية إلى حدٍ كبير، يحتلون الخطوط الأمامية بهدفٍ واحد هو القتال ضد رجال الشرطة وحماية المتظاهرين. ويُعَدُّ رجال الخطوط الأمامية هم رأس حربة المتظاهرين، سواءً كانوا يقذفون زجاجات المولوتوف، أو يُشيِّدون الحواجز، أو يُدمرون كاميرات التعرُّف على الوجه.
ونشر أنتوني دابيران، الكاتب والمُحامي والمُصوِّر، المقطع التالي على تويتر، قائلاً: "مع اقتراب الشرطة، يُلقي المُتظاهرون الزجاجات الحارقة من أعلى الكوبري، قبل أن ترُدُّ الشرطة بإطلاق الغاز المُسيل للدموع".
وشرحت ريتشيل ذلك، قائلةً: "يحصلون على الثناء عادةً من جانب مُؤيِّدي الديمقراطية الآخرين بفضل شجاعتهم، رغم العنف. وعلى الجانب الآخر، يتعرَّضون للانتقاد أيضاً من مُؤيِّدي الشرطة/الحكومة لارتكابهم أعمالاً غير قانونية". وهؤلاء هم "مُثيرو الشغب" الذين تُشوِّه الحكومة صورتهم، لدرجة أنَّ المسؤولين في هونغ كونغ والصين قارنوهم بالإرهابيين.
وعلَّق دو ليزلي على ذلك قائلاً: "ليست زيادة العنف مُفاجِئةً في هذا السياق، مع الأسف. بل جاءت نتيجة حلقةٍ من التصعيدات بين الشرطة والمتظاهرين، وتعكس تصادم مشاعر المُتظاهرين المُلحة مع عناد النظام. ولكن لا ينبغي على المرء أنَّ يغُضُّ الطرف عن حجم أفعال الحركة التي لا تزال سلمية".