في فرع بنك القاهرة بوسط العاصمة المصرية، وفي اليوم الأول الذي أعلنت عنه الحكومة لاسترداد قيمة شهادات قناة السويس الاستثمارية، كانت الحركة عادية، أعداد قليلة من المواطنين بعضهم جاء لاسترداد قيمة الشهادات، في حين تقوم البقية بمعاملات بنكية عادية.
من بين هؤلاء كان تامر محيي (46 عاماً)، الذي يعمل محاسباً بإحدى الشركات الحكومية. لم تبدُ عليه علامات واضحة للفرح أو الحزن، فقد استردَّ لتوه قيمة الشهادات ولا يرغب في تكرار هذه التجربة، بل يفضل الاستثمار في محل لبيع الأدوات الصحية بجوار منزله على سبيل الشراكة مع أحد جيرانه.
وبدأت 4 بنوك، يوم الخميس 5 سبتمبر/أيلول 2019، ردَّ حصيلة شهادات قناة السويس بإجمالي قيمة 64 مليار جنيه، إضافة إلى 12% فوائد.
وكانت البنوك الأربعة، الأهلي المصري، ومصر، والقاهرة، وقناة السويس، بدأت في 4 سبتمبر/أيلول 2014، طرح شهادات قناة السويس، وذلك تلبية لدعوة الرئيس عبدالفتاح السيسي المصريين إلى المشاركة في المرحلة الأولى من حفر قناة السويس الجديدة.
"هذه الشهادات كانت تعطي فوائد جيدة، لكن بالطبع لم تكن هي الأعلى من نوعها، إذ إن أعلى فائدة للشهادات الاستثمارية بالسوق تزيد نسبتها بمقدار 1.5%. لكن هذه ليست أزمة كبيرة"، هكذا ينظر محيي إلى الأمر.
أما وفاء صابر (63 عاماً)، وهي مُدرسة على المعاش، فقد قررت الاحتفاظ بأموالها في البنك، وربطتها اليوم في شهادات ذات عائد شهري، "ليست لي علاقة بالمشاريع والاستثمارات، وبالنسبة لي الشهادات ذات العائد الشهري أفضل اختيار، تسند احتياجاتي بجوار المعاش"، تقولها وهي تبتسم.
يُذكر أن سعر الدولار الأمريكي أمام الجنيه المصري في سبتمبر/أيلول 2014، كان 7.15 جنيهات لكل دولار، بينما اليوم وصل سعر الدولار إلى 16.52 جنيهاً مصرياً، أي إن قيمة الأموال انخفضت بمقدار 131%؛ ومن ثم قلَّت قيمة مستحقات المستثمرين في هذه الشهادات.
إخفاق عند الدخول والخروج
في كتابها All the Devils Are Here عن الأزمة الاقتصادية الأمريكية الشهيرة، وصفت الصحفية الاقتصادية البارزة بيثاني ماكلين المواقف الاقتصادية التي يخلقها البعض باتخاذ قرارات هوجاء غير مدروسة، بأنها مواقف "دخولها أزمة، والخروج منها أزمة".
وصفُ ماكلين هذا ينطبق على شهادات قناة السويس التي جمعت الحكومة المصرية فيها 64 مليار جنيه منذ 5 سنوات. حينها حذر كثيرون من خطورة سحب هذه المبالغ النقدية السائلة بشكل سريع من السوق، وهو ما ثبت تأثيرة السلبي بالفعل على الاقتصاد المصري لاحقاً.
واليوم بعد انقضاء مدة الشهادات (5 سنوات) أصبح على الدولة ردّ الأموال مرة أخرى إلى مُلاك تلك الشهادات، وسط مخاوف لدى المصرفيين من تأثير ذلك الضخ المفاجئ على التضخم.
وطرحت الحكومة المصرية، في مطلع سبتمبر/أيلول 2014، "شهادات قناة السويس"، لتمويل مشروع ازدواج جزء من الطريق الملاحي للقناة.
نجحت الحكومة وقتها في تجميع مبلغ 64 مليار جنيه، اعتبر بمثابة قرض على هيئة قناة السويس، مودع بحسابها لدى البنك المركزى.
وقد أسهم العائد المرتفع على هذه الشهادات في تشجيع كثيرين على شرائها، إذ بلغ العائد ربع السنوي في البداية 12%، ثم ارتفع إلى 15.5% بعد قرار تعويم الجنيه في نوفمبر/تشرين الثاني 2016.
وقد عانى المشروع إخفاقات في السداد، أشارت إليها الصحف المصرية حينها، حينما أُعلن عن بروتوكول وافقت عليه البنوك الدائنة وهيئة قناة السويس والبنك المركزي المصري، يقضي بأن تتحمل وزارة المالية سداد الأقساط المستحقة على الهيئة لصالح البنوك الحكومية، بإجمالى 600 مليون دولار، على أن تلتزم الهيئة سداد 300 مليون دولارٍ أقساطاً مستحقة لبنوك أجنبية عاملة في السوق المصرية.
كيف سيؤثر سحب هذه المليارات في البنوك؟
لكن بعيداً عن نجاح المشروع وقدرته على سداد ديونه بنفسه أو عدم قدرته على ذلك، فقد مرت السنوات الخمس، وأصبح واجباً على البنوك رد حصيلة الشهادات إلى المواطنين. هنا أصبحنا أمام السؤال الصعب الجديد: كيف سيؤثر سحب هذه المليارات دفعة واحدة في البنوك الحكومية الأربعة المطالَبة بردّ الأموال إلى مستحقيها؟
"عربي بوست" تحدَّث مع علاء فاروق المدير التنفيذي بالبنك الأهلي، الذي عقّب على هذا السؤال قائلاً إن البنك مستعد تماماً لردّ أموال شهادات قناة السويس والتي حان موعد استحقاقها والبالغ إجماليها لدى البنك الاهلي ما يقرب من 35 مليار جنيه.
وأضاف أن ذلك لا يمثل أزمة للبنك مطلقاً، فأغلب المودعين "لن يسحبوا الأموال من البنك، بل سيربطون تلك القيمة في شكل شهادات جديدة".
وأوضح أن "البنك يقدم حزمة متنوعة من الأوعية الادخارية المناسبة لكل المستويات، فإن كنت تبحث عن عائد ثابت أو عائد متغير، فستجد طلبك بسهولة لدينا"، على حد تعبيره.
وأضاف فاروق أن نسبة خروج تلك الأموال من البنك لا تتعدى 15% على أقصى تقدير، وغالباً ستتجه إلى السوق العقاري، أما بقية الـ35 ملياراً فستتم إعادة ربطها.
واختتم المدير التنفيذي بالأهلي حديثه قائلاً: "اليوم بدا جلياً أن نسبة الراغبين في استرداد أموالهم ضعيفة جداً مقارنة بمن ربطها مرة أخرى".
سحب الأموال يمثل عبئاً
ما قاله الرجل، وهو مسؤول مصرفي بارز، يبدو مطمئناً، لكن هناك رؤية أخرى صارحتنا بها إحدى المسؤولات بالبنك الأهلى أيضاً (فضّلت عدم ذكر اسمها)، والتي قالت لـ "عربي بوست"، إن قرار استحقاق تلك الشهادات ثم إعادة ربطه في أوعية ادخارية يمثل عبئاً لا ميزة.
وأوضحت أنه "مع تقديرنا بالطبع لفكرة ثقة المودعين بنا ككيان مصرفي عملاق، إلا أن أزمتنا المسكوت عنها والتي ستزيد بعد فك شهادات قناة السويس هي تكدس الودائع وليس العكس".
وأوضحت أن لديهم ما يتجاوز 850 مليار جنيه ودائع، "هذه الودائع نسدد فوائدها للمودعين من القروض وليس من تكديسها"، على حد تعبيرها.
وتشرح السيدة أكثر، قائلة إن مكسب البنك ومن ثم مكسب العملاء بالأساس قائم من تحريك الأموال وتوظيفها، وذلك تلعب فيه القروض الدور الأعظم، "نحن نمنح شخصاً ما قرضاً معيناً بفوائد محددة، هو يكسب ونحن نكسب والمودعون لدينا يكسبون".
واستدركت: "لكن مؤخراً ولأسباب لا داعي للخوض فيها الآن، أصبح السوق مغلقاً، والرغبة في إقامة مشاريع جديدة أو التوسع في المشاريع القائمة قلت، ومن ثم الطلب على القروض قلَّ، والنتيجة تكدُّس الأموال، وهو ما يعني خسارة مباشرة لنا وليس العكس".
وعليه فرقم الـ35 مليار الذي سيتم ربط أغلبه مرة أخرى على شكل شهادات، هو في الحقيقة وفي ظل الوضع الحالي للسوق المصري، عبء وليس ميزة.
واختتمت المصرفية حديثها، قائلةً إنه يجب أولاً فتح السوق وتسهيل إجراءات الاستثمار، و "طبعاً قبل كل هذا، يجب أن يتقلص دور الجيش الاقتصاديُّ، وعندها يكون أمام المستثمرين أفق للتحرك؛ ومن ثم تنشط حركة القروض في البنوك"، على حد تعبيرها.
الأزمة الأكبر قادمة
الخبير المصرفي ماجد برسوم قيَّم لـ "عربي بوست"، الموقف بشكل أوسع، قائلاً إنه في ظل الكساد الحالي، فإن "هذه الأموال بالطبع مشكلة، لكنها في حقيقه الأمر ليست مشكلة كبيرة".
وأوضح أن رقم الـ64 مليار جنيه المطلوب استحقاقها، في حد ذاته ليس المأزق الأكبر، "المشكلة الحقيقية أنه خلال أشهر معدودات سيظهر لنا رقم مخيف، نتحدث عن 109 مليارات جنيه هي قيمة الشهادات ذات العائد المرتفع 20%، التي تم ربطها منذ 5 سنوات وسيحين موعد استحقاقها قريباً".
في رأيه، "هذا الرقم هو الرعب الحقيقي، خصوصاً أننا نتحدث عن سوق مشبّع، أضيف إليه 64 ملياراً، وأصبح عليه استيعاب 109 مليارات أخرى".
الأزمة في نظره أن السوق العقاري لن يستوعب أكثر من خُمس هذا المبلغ على أقصى تقدير، والبقية ستربط في وعاءات ادخارية، وهو ما يعني تهديداً مباشراً للبنوك في ظل هذا الكساد وقلة الطلب على القروض والاستثمار. تلك هي الأزمة المرعبة حقاً والتي يخشى الجميع منها. وعليه فتعديل قوانين الاستثمار وتيسيرها أصبح حتمياً، وإلا فعلينا مواجهة تضخم مرعب وأزمة بنكية حقيقية.