"العدالة عمياء" هي عبارة عالمية المقصود بها أن القاضي عندما يصدر حكمه يكون ذلك بناء على الأدلة والأوراق الموجودة أمامه ولا يفرق في حكمه بين من تصدر ضدهم الأحكام لأي سبب كان، لكن ما مدى دقة تلك العبارة؟ وهل كون الشخص قاضياً يسقط عنه صفات بشرية مشتركة ربما تؤثر عليه أثناء إصدار الحكم؟
القضية تناولها موقع بي بي سي موندو في تقرير رصد فيه دراسات قضائية حول العالم، بعنوان: "العدالة العمياء؟ تجارب غريبة توضح كيف تؤثر التحيزات على القضاة"، فماذا كانت المحصلة؟
تم إجراء العديد من الدراسات في الولايات المتحدة تناولت ظروفاً وعوامل مختلفة يمكن أن تؤثر على القضاة، كما هو الحال مع أي شخص آخر. ويتوقع المجتمع من القضاة أن يتصرفوا بنزاهة عند اتخاذ القرارات التي تؤثر على حياة الأشخاص الآخرين وتطبيق القانون وفقاً لذلك، وذلك بناءً على الحقائق المقدمة لهم فقط، لكن البشر لديهم تحيزات متأصلة وبعضها قد يكون مفاجئاً.
الاسم قد يكون له تأثير على الحكم
أمضى جيفري ج. راشلينسكي، أستاذ القانون بجامعة كورنيل في الولايات المتحدة، العشرين عاماً الماضية يترأس العديد من الدراسات حول تحيز القضاة.
ركزت إحدى دراساته المعروفة على كيفية تأثير "المرساة" على القضاة؛ وهي الظاهرة التي يعتمد فيها الشخص اعتماداً كبيراً على جزء من المعلومات الأولية التي تعمل بمثابة مرساة لأنها تدور في ذهنه عند اتخاذ قرار بشأن قضية ما.
كجزء من الدراسة، عُرض على عدة قضاة قضية افتراضية انتهك فيها ملهى ليلي خيالي المبادئ التوجيهية المتعلقة بالضوضاء.
عُرض على القضاة جميع الظروف والمعلومات القانونية التي يحتاجون إليها للحكم في القضية، وقيل لهم إن الملهى يُسمى بالعنوان الذي يوجد فيه: وكان اسمه بالنسبة إلى نصفهم Club 55 و بالنسبة للنصف الآخر كان اسم النادي 11866.
وقال راتشنسكي في وقت لاحق: "كانت الغرامة أعلى بثلاث مرات في المجموعة التي كان اسم الملهى الليلي بالنسبة لها 11866″، وقد حدث ذلك ببساطة لأن: "11.866 كان رقماً أعلى من 55".
ترتيب العوامل يغير النتيجة
وفي الوقت الذي واصل فيه الباحثون دراسة آثار ظاهرة المرساة، ظهرت أنماط أخرى، ففي حالة وهمية ثانية، طُلب من القضاة الحكم على اثنين من المدانين الذين ارتكبوا جرائم مختلفة في السجن بسنة أو تسع سنوات.
يقول راشلينسكي: "عندما أدان القضاة المجرم للمرة الأولى بالسجن لمدة عام، فرضوا عقوبة على الثاني مدتها ست سنوات بدلاً من تسع سنوات".
يشرح الباحث: "بعد أن أدانوا الرجل لفترة قصيرة لمدة عام واحد، بدا أن تسع سنوات كثيرة جداً، لذا قاموا بتخفيض العقوبة على الرجل الثاني".
وأضاف: "لكن عندما عكسنا الأمر مع مجموعة أخرى من القضاة وأدانوا أولاً المجرم بالسجن لمدة تسع سنوات، فُرضت عقوبة بالسجن لمدة عامين على الرجل الثاني، لأن عاماً واحداً فقط لم يبدُ كافياً".
في الدراسات اللاحقة، فرض القضاة عقوبات أقصر عندما تم تسجيلها بالشهور بدلاً من السنوات.
تأثير الطعام على القاضي
هناك مقولة أمريكية قديمة عن القوانين التي تقول: "العدالة هي ما يأكله القاضي على وجبة الإفطار".
ربما نود أن نعتقد أن القضاة ذوي الخبرة لا يمكن أن يتأثروا بشيء عادي مثل تناول وجبات الطعام، ولكن تشير الدراسات إلى وجود تحيز هناك أيضاً.
أظهرت دراسة أجريت عام 2011 في كلية كولومبيا للأعمال من قِبل البروفيسور جوناثان ليفاي، أن القضاة يميلون أكثر إلى منح الإفراج المشروط بعد استراحة الغداء، ولكن ليس بهذا القدر عندما يطول اليوم.
درس ليفاي وفريقه 1112 قراراً بالإفراج المشروط الصادر عن ثمانية قضاة ذوي خبرة في إسرائيل على مدى فترة 10 أشهر.
انتهت 65٪ من القضايا التي تناول فيها القضاة وجبة خفيفة أو استراحة لتناول الطعام بإفراج مشروط، وفقاً لما نشرته المجلة الرسمية للأكاديمية الوطنية للعلوم في الولايات المتحدة.
ولكن مع زيادة ساعات اليوم، انخفض معدل الإفراج المشروط تدريجياً، أحياناً إلى لا شيء، فقط للعودة إلى 65٪ بعد الاستراحة مرة أخرى.
لم يستطع المحققون إثبات ما إذا كان هذا بسبب التأثيرات على القاضي من أكل شيء ما أو بسبب الراحة النفسية، ولكن شاي دانزيغر، أحد المشاركين في الدراسة، قال إن النتائج تشير إلى أن "المتغيرات الخارجية يمكن أن تؤثر على الأحكام القضائية".
قال دانزيجر: "هذا يؤكد من جديد العدد المتزايد من الدراسات التي تشير إلى تأثر القضاة ذوي الخبرة بالتحيزات النفسية".
معتقدات القاضي
ركزت دراسة أخرى نُشرت في أبريل/نيسان 2018 على التحيز الجنساني لأكثر من 500 قاضٍ (68٪ رجال و 30٪ نساء و 2٪ لم تحدد هويتهم) في نظام المحاكم في ولاية أمريكية معينة.
قدم الباحثون للقضاة قضيتين وهميتين تتعلقان بحضانة الأطفال والتمييز الجنسي، وكان المدعون (أصحاب الشكوى) من الذكور أو الإناث.
سبق أن استُعين بالقضاة في دراسة استقصائية أجابوا فيها على أسئلة حول الأدوار التقليدية للجنسين والتي تضمنت قوالب نمطية مثل "النساء أكثر اهتماماً بتربية الأطفال" أو "الأسر أفضل حالاً إذا كان الرجل هو رب الأسرة".
أبلغت أندريا ميلر، إحدى الباحثين في هذه الدراسة والأستاذة بجامعة إلينوي، عن النتائج التي توصلت إليها في مجلة Social Psychological and Personality Science: عكست أحكام القضاة أفكارهم المسبقة عن أدوار الجنسين.
الأمر الأكثر إثارة للقلق هو أنه عندما أجرى فريق الباحثين نفس الاختبارات مع عينة من 500 شخص عادي، وجدوا أن التحيز بين القضاة أقوى من تحيز عامّة الناس.
وقالت أندريا: "يمكن أن تشكل المفاهيم الثقافية حول النوع الاجتماعي عملية صنع القرار للقضاة بقدر ما يحدث مع أي واحد منا".
"إن خبرة القضاة لا تمنعهم من الأحكام المسبقة عند إصدار القرارات".
القضاة بشر
هناك المزيد والمزيد من الأبحاث التي تظهر شيئاً لا ينبغي أن يفاجئنا؛ القضاة بشر أيضاً. تيري ماروني أستاذ القانون بجامعة فاندربيلت بالولايات المتحدة الأمريكية ويقوم بتدريس القضاة المعينين حديثاً في برنامج يُعرف باسم "مدرسة القضاة الصغار".
تم إنشاء المبادرة من قبل الكونغرس الأمريكي "لضمان حصول الناس على ما يحتاجون إليه للقيام بهذه المهمة" وفقاً لجيريمي فوغل، مدير المركز القضائي الفيدرالي والمسؤول عن التدريب في هذه المدرسة في الستينيات.
منذ عام 2013، يتم تعليم هؤلاء القضاة أيضاً أن يكونوا مدركين لكيفية تأثير عواطفهم على قراراتهم، كما يقول ماروني في مقابلة مع هيئة الإذاعة البريطانية في تسجيل Against the Rules.
قال ماروني: "لقد ظللنا نفترض هذا الافتراض الغريب المتمثل في أن العاطفة لا صلة لها بالقانون، وأن القوانين مرتبطة بالعقلانية بينما ندرك أنه في جميع التخصصات الأخرى في العالم تكون العاطفة عنصراً أساسياً في جميع جوانب الحياة البشرية".
يشجع ماروني القضاة على التفكير في مشاعرهم عندما يصدرون حكماً، ويقول إن القضاة الأقل استعداداً للاعتراف بتحيزاتهم هم أكثر عرضة لارتكاب أخطاء.
التخلص من التحيز
جيمس ريدوين، القاضي المتقاعد وكاتب العمود في إحدى الصحف في ولاية إنديانا يؤيد هذا الرأي.
يقول ريدوين إن المشكلة ليست "إذا كان لدى القضاة أحكام مسبقة؛ بل تتعلق بما إذا كان بإمكانهم التأكد من أن الآخرين لا يتأثرون بهذه الأحكام المسبقة".
في مقال كتبه للكلية القضائية الوطنية، استذكر حالة فتاة أمريكية من أصل أفريقي تبلغ من العمر 12 عاماً أفادت بأنها تعرضت للاغتصاب على أيدي خمسة مراهقين من أصول أفريقية أيضاً.
اعترف القاضي ريدوين، الذي يتمتع بجذور تعود للسكان الأصليين ولكنه يصف نشأته بأنها أقرب إلى النخبة البيضاء في الولايات المتحدة، بأنه وجد نفسه غريزياً "غير قادر على الحكم بشكل عادل" على الأولاد السود الذين وقفوا أمامه، لأنه أراد الوقوف إلى جانب الطفلة.
لكن مع تقدم القضية، تمكنت هيئة المحلفين (التي كانت مؤلفة بالكامل من أمريكيين أفارقة) من رؤية الأمور بطريقة أدق.
استُدعي العديد من الشهود وتمكنت المحكمة من إثبات أن القضية لم تكن بالضبط كما كانت في البداية.
أقر القاضي: "لقد كان من السهل أن أترك تحيزاتي تساعد في التسبب في العديد من الأخطاء القضائية الخطيرة".
واقتناعاً منه بأن "التحيز سمة مكتسبة"، أضاف ريدوين: "اليوم، عندما أحكم، أطمح إلى نسيان تلك الدروس".