يتناسب دور جيبوتي في الأمن القومي الأمريكي عكسياً مع حجمها منذ عقود من الزمن. فلطالما كانت هذه الدولة الصغيرة الواقعة في شرق إفريقيا مركزاً لوجيستياً للجيش الأمريكي، إذ ساعد مطارها في إمداد القوات الأمريكية بالصومال في أوائل التسعينيات، ورسَت سفن البحرية الأمريكية في مينائها عدة مرات. ونظراً إلى أنَّ جيبوتي -التي كانت مستعمرة فرنسية أو إقليماً فرنسياً طوال نحو قرنٍ زمني قبل نيل استقلالها في عام 1977- استضافت قوات فرنسية، استطاع الجيش الأمريكي استغلال البنية التحتية التي أنشأها الفرنسيون عند الضرورة.
ما أهمية جيبوتي بالنسبة للأمريكيين؟
- جاءت أهمية جيبوتي الحقيقية بالنسبة للأمن القومي الأمريكي بعد هجمات 11 سبتمبر/أيلول عام 2001، حين شكَّلت إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جورج بوش الابن قوة العمل المشتركة المتحدة في القرن الإفريقي، من أجل تنسيق عمليات إقليمية لدعم الاستقرار وإجرائها، ثم الإشراف على عمليات مكافحة الإرهاب في اليمن وأنحاء المنطقة ككل.
- وبحسب مجلة The National Interest الأمريكية، فقد كان اعتماد الرئيس الأمريكي السابق، باراك أوباما، المتزايد على هجمات الطائرات من دون طيار -التي كان كثير منها ينطلق من جيبوتي- قد عزَّز أهمية هذه الدولة للولايات المتحدة.
- ومنذ أن أعلنت وزارة الدفاع الأمريكية رسمياً وجود معسكر ليمونيه -الذي يعد في الوقت الراهن أكبر قاعدة عسكرية أمريكية بإفريقيا والركيزة الأساسية لعمليات القيادة العسكرية الأمريكية هناك، ويضم 4 آلاف فردٍ أمريكي من الجنود والبحَّارة ومشاة البحرية وتبلغ مساحته 500 فدان- استثمرت فيه عدة مليارات من الدولارات.
ليست أمريكا وحدها تفضّل جيبوتي
- بالتأكيد لم تكن الولايات المتحدة وحدها التي أدركت موقع جيبوتي الاستراتيجي، إذ فصلها الفرنسيون في البداية عن منطقة الصومال الكبير، بسبب موقعها ومرفئها الطبيعي.
- وبينما أنشأ البريطانيون محطة للفحم في عدن لدعم المصالح العسكرية والتجارية البريطانية بشرق إفريقيا والمحيط الهندي، استخدم الفرنسيون جيبوتي -التي يوجد بها ميناء طبيعي على بُعد 241 كيلومتراً من عدن- للغرض نفسه في ظل سعيهم آنذاك إلى الحفاظ على أمن مدغشقر وموريشيوس ومصالحهم الأخرى في المنطقة.
- وبالطبع جعلت قناة السويس مضيق باب المندب المجاور للبلاد أكبر أهمية. وعلى مرِّ العقود، ربما تكون التكنولوجيا وعديد من الأشياء الأخرى قد تغيَّرت، لكنَّ أهمية موقع جيبوتي الاستراتيجي لم تتغيَّر. ففي الوقت الحاضر، وبالإضافة إلى الوجود العسكري الأمريكي بالبلاد، تحتفظ فرنسا بقاعدةٍ هناك وتستضيف فيها قوات ألمانية وإسبانية.
- في حين تملك إيطاليا واليابان بعض المنشآت هناك، وكذلك تستأجر المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة بعض الأراضي بالبلاد. وفي الوقت نفسه، أنشأت الصين قاعدةً كبرى جديدة هناك؛ في ظل سعيها إلى توسيع مصالحها بحوض المحيط الهندي وقارة إفريقيا. وكذلك سعت إيران في الماضي، إلى الحصول على موطئ قدمٍ هناك، لكنها أُجبرت على الخروج، بسبب الضغوط الأمريكية والغربية.
المصالح الصينية تتفوق على الأمريكية في جيبوتي
- ولكن كما تدين تُدان. فصحيحٌ أنَّ الصين متسامحةٌ حتى الآن مع وجود منافسيها الجيوسياسيين في جيبوتي، وأنَّ الحكومة الجيبوتية سعيدةٌ بالاستفادة من موقعها في جمع الإيجارات من أكبر عددٍ ممكن من القوى الخارجية، ولكن ليس جميع المستثمرين سواسية، إذ موَّلت الصين خط أنابيب مياه في جيبوتي، ومشروع إنشاء خط سكة حديدية إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا. وبينما بلغت المساعدات الأمريكية لجيبوتي ذروتها في عام 2017 حين وصلت إلى 31 مليون دولار، وقَّعت شركةٌ صينية صفقة أولية بقيمة 4 مليارات دولار للغاز الطبيعي مع جيبوتي في العام نفسه.
- وقد يكون هذا التباين في المساعدات كافياً لتوجيه الموازين نحو مراعاة مصالح بكين، لكنَّ ما يُرجِّح ذلك بدرجةٍ أكبر هو أنَّ فساد جيبوتي سيجعلها تميل نحو الصين، إذا طلبت السلطات الصينية ذلك، إذ لم يرأس جيبوتي سوى زعيمين منذ استقلالها: الأول هو حسن جوليد أبتيدون الذي حكم البلاد بقبضة حديدية في الأعوام الـ22 الأولى بعد استقلالها، والثاني هو إسماعيل عمر غيلة، ابن أخيه وخليفته المختار الذي يتولَّى البلاد منذ وفاة أبتيدون حتى الآن. وما زال الفساد يمثل مشكلة كبيرة في البلاد، إذ لا يمكن إتمام عديد من الصفقات دون أن يستفيد منها غيلة أو أقرباؤه شخصياً، إن لم يكن بالحصول على رشوة في عقود الصفقات التجارية، وهو ما تعتبره أي دولة غربية تضارباً في المصالح.
- ومع ذلك، يبدو أنَّ إدارة ترامب، مثل إدارة أوباما التي سبقتها، ما زالت في حالة إنكارٍ للواقع كما تصف ذلك "ناشونال إنترست"، إذ استثمرت وزارة الدفاع الأمريكية كمَّاً هائلاً من الأموال في منشآت جيبوتي، لدرجة أنَّها لا تستطيع تخيُّل أنَّ هذه الأموال قد أُهدرت بالفعل، فضلاً عن تبرير ذلك. أي إنَّ القصور الذاتي للوزارة ما زال يمثل مشكلة.
هل تبحث أمريكا عن بديل لجيبوتي في ظل تنحيتها من الصين؟
- تقول المجلة الأمريكية، إنه في ظل قدرة الصين على تنحية النفوذ الأمريكي في جيبوتي بأي وقت، يجب على إدارة ترامب أن تجد بديلاً لجيبوتي الآن. وتجدر الإشارة هنا إلى أنَّ إثيوبيا ليست بديلاً مناسباً بحسب المجلة الأمريكية، لأنَّه لا يوجد بها ميناء، ولأنَّ الاستثمارات الصينية وعلاقاتها التجارية مع الصين كذلك تجعلها أقرب إلى آسيا منها إلى الغرب.
- أمَّا إريتريا، فصحيحٌ أنَّها تستضيف ميناء تابعاً لدولة الإمارات العربية المتحدة، وتتعاون مع إسرائيل أيضاً، لكنَّ الانتقال السياسي المحاط بالغموض، والمرافق السيئة، والوضع الكارثي لحقوق الإنسان في البلاد، كلها عوامل تجعل الوجود الأمريكي هناك مستحيلاً.
- بيد أنَّ إقليم صوماليلاند، أو أرض الصومال، يمكن أن يكون بديلاً مناسباً؛ إذ يضم ميناء بربرة، الذي يعد الميناء الرئيسي في الإقليم، وواحداً من أطول مهابط الطائرات في إفريقيا. وكذلك حافظت الولايات المتحدة على وجودٍ عسكري هناك في أثناء الحرب الباردة، وكما قال أحد المسؤولين في بربرة ساخراً خلال زيارةٍ أخيرة، فالعقد الذي أبرمته وكالة ناسا بشأن استخدام بعض المرافق في المطار ما زال سارياً من الناحية النظرية، ومن ثَمَّ، تستطيع الولايات المتحدة العودة إلى هناك "غداً".
- وفي حين أنَّ الإمارات تبني قاعدةً هناك الآن، ما تزال سلطات صوماليلاند تشعر بالإحباط من عدم شفافية العقد الإماراتي (المُبرَم مع حكومةٍ سابقة)، رغم كونه عقداً غير حصري. وتجدر الإشارة إلى أنَّ ميناء بربرة موجودٌ في المياه العميقة، وقادر على استيعاب غالبية السفن الأمريكية.
هل تكون صوماليلاند البديل الجديد إذاً؟
- تقول المجلة الأمريكية إنّ سلطات صوماليلاند تريد وجود الولايات المتحدة هناك. وفي ظلِّ سعي الصين وروسيا إلى التقرُّب منها، ما زالت حكومة صوماليلاند والمائلة نحو تفضيل الغرب تتمسَّك بالولايات المتحدة، لكنَّها لا تستطيع فعل ذلك إلى أجل غير مسمى. والمشكلة حتى الآن تمكن في وزارة الخارجية الأمريكية. إذ أصبحت صوماليلاند منفصلة من الناحية العملية منذ عام 1991، حين ألغت اتحادها مع الصومال.
- وصحيحٌ أنَّ الولايات المتحدة اعترفت بصوماليلاند آنذاك، لكنَّ وزارة الخارجية تتبع الآن سياسةً غريبة مكلفة تتعامل مع جميع الأراضي الصومالية على أنَّها دولةٌ واحدة، إذ قطعت التعامل المباشر مع صوماليلاند؛ خشية أن يؤدي التعامل معها إلى غضب الصومال، لكن ربما تعود واشنطن وتعدل عن ذلك.
- وترى المجلة الأمريكية أنَّ "وضع بيض أمريكا كله في سلةٍ واحدة -لا سيما إن كانت تلك السلة تتعرَّض لاهتزازٍ متزايد- ليس استراتيجيةً مناسبة لحماية مصالح أمريكا في الحرب على الإرهاب، والجماعات التابعة لإيران بالوكالة، والجماعات المنتمية إلى تنظيم القاعدة وتنظيم الدولة الإسلامية (داعش). وليس المقصود أنَّ تغادر الولايات المتحدة جيبوتي، ولكن حان الوقت للنظر في الخطة الاحتياطية، وإلَّا فهمسة واحدة من بكين في أذن رئيس جيبوتي يُمكن أن تشل قدرة أمريكا على الدفاع عن نفسها وحلفائها"، حسب تعبيرها.