بمُجرِّد انتخابه لرئاسة "حزب العمل" الإسرائيلي في يوليو/تموز الماضي، قرر عمير بيرتس تغيير المسار. وطوال عقود، كان "حزب العمل" بمثابة القوة المُهيمنة في يسار الوسط الإسرائيلي. وفي انتخابات شهر أبريل/نيسان، تقلَّصت حصته إلى 6 مقاعد فقط، وهي أضعف نتائجه على الإطلاق. لذا كان يُنتظر من بيرتس أن يتحالف مع "حزب ميرتس" لإعادة تأهيل حزبه.
لكنه تحالف بدلاً من ذلك مع أورلي ليفي، العضوة السابقة في حزب "إسرائيل بيتنا" اليميني الذي يرأسه أفيغدور ليبرمان. وتزعَّمت أورلي حزبها الخاص، "جسر"، في انتخابات أبريل/نيسان، لكنها فشلت في اجتياز عتبة دخول الكنيست.
مغازلة اليمين
وقال بيرتس إنَّ التحالف يهدف إلى بلوغ المحيط الاجتماعي الإسرائيلي والمناطق الحضرية خارج منطقة تل أبيب، والتي تسكنها غالبيةٌ من اليهود المزراحيين -اليهود الإسرائيليون الذين تعود أصولهم إلى الدول العربية- الذين لهم دخولٌ منخفضةٌ نسبياً.
وأثار هذا الاقتران احتجاجات اليسار. إذ جادل الكثير من الناس بأن بيرتس اتَّخذ هذه الخطوة لمغازلة اليمين، في محاولةٍ للانضمام إلى حكومة نتنياهو، وهو ما ينفيه بيرتس بشدة.
وشكَّك آخرون في المنطق وراء هذه الخطوة. إذ قالوا إنَّ الناس في هذا المُحيط لا يُصوِّتون لليسار، لذا فمن الأفضل التركيز على الفوز بالأصوات من المجتمعات الثرية في وسط البلاد، والتي تُصوِّت بالفعل لحزبي "العمل" و "ميرتس".
يقول موقع Middle East Eye البريطاني، في الواقع، هذا هو السبب الذي قد يجعل من التحالف نقطة تحوُّل. فـ "حزب العمل"، مثل اليسار الإسرائيلي عموماً، كان مُرتبطاً منذ فترةٍ طويلة باليهود الأشكناز -اليهود الإسرائيليون من أصولٍ أوروبية أو غربية- الذين يحتلون مكانةً أعلى على المستوى الاقتصادي-الاجتماعي داخل إسرائيل. وهذا هو حال الناخبين من "حزب ميرتس" أيضاً.
وأورلي وبيرتس كلاهما من اليهود المزراحيين ذوي الأصول المغربية، وقد عاشا وسط المناطق مُهمَّشة. لذا قد تكون لديهما فرصةٌ في الفوز بالأصوات من تلك المناطق التي هجرها اليسار منذ فترةٍ طويلة، وأثبتت أنَّها حاسمةٌ في الانتخابات الأخيرة.
قوة المُحيط
يقول الصحفي الإسرائيلي المستقل ميرون رابوبورت إن مفهوم "المحيط" هو مفهومٌ شديد المرونة بالطبع. ففي منطقة تل أبيب الكبرى، هُناك العديد من الأحياء التي يُمكن اعتبارها مُحيطية في حال كان المقياس اقتصادياً-اجتماعياً أو عرقياً. وينطبق الأمر ذاته على مدن القدس، وحيفا، والمناطق المحيطة بها.
ويضيف رابوبورت: ومن أجل أغراض قياس قوة المحيط في الانتخابات الأخيرة، ألقيت نظرة على بيانات اللجنة المركزية للانتخابات حول المجتمعات الحضرية خارج تل أبيب الكُبرى والقدس وحيفا والمناطق المحيطة بها، والتي تضُم عدداً كبيراً من اليهود المزراحيين أو الروس، وتحتل بشكلٍ شبه حصري قاع السلم الاقتصادي-الاجتماعي بحسب "دائرة الإحصاء المركزية".
في حين أنَّه توجد فوارق كُبرى بين مختلف المجتمعات، يميل السكان إلى تشارك وعيٍ واضح نسبياً بالانتماء لمناطقهم المُهمَّشة. وكانت هذه هي تجربتي على الأقل بوصفي صحفياً، وأجريت مُقابلات مع الكثير من أبناء المحيط اليهودي طوال عقود. وتُعَدُّ البلدات العربية في إسرائيل جزءاً من المُحيط أيضاً، ولكن قصتهم مُختلفة.
وهذه النتائج التي عُثر عليها:
– من بين 37 موقعاً حضرياً ركَّزت عليه، صوَّت قرابة المليون شخص من أصل 1.6 مليون ناخب مُؤهَّل للتصويت. ويُقدَّر إقبال الناخبين هذا بنسبة 62.5%، أي أقل من المتوسط الوطني. وبلغت أصوات أولئك الذين توجَّهوا إلى صناديق الاقتراع قرابة الـ30 مقعداً تشريعياً، أي ربع إجمالي مقاعد الكنيست.
– وحصد الحزبان اليساريان، "العمل" و "ميرتس"، 3.25% من الأصوات، أي مقعد واحد فقط. وبعبارةٍ أخرى، يرى هذان الحزبان التاريخيان أنَّهما أحزابٌ وطنية، لكنّ لا وجود لهم في المحيط الذي لا يضُمُّ شيئاً يسارياً.
– إذ صوَّت 16.8% من الناخبين في المحيط، أي قرابة الـ170 ألف شخص، لصالح "أزرق أبيض"، أي ما يُعادل أكثر من 5 مقاعد في الكنيست بقليل لصالح الحزب. وذهب 60 ألف صوت، أي 5.9% تُساوي 1.8 مقعد، لصالح أحزاب "جسر" و "كولانو" ذات الغالبية من يهود المزراحي والتي تُركِّز على الرفاهية.
– وذهب نصف مقعدٍ آخر، أي قرابة 13,400 صوت، إلى تحالفي "الجبهة الديمقراطية للسلام والمساواة-الحركة العربية للتغيير" و "القائمة العربية الموحدة-التجمع الوطني الديمقراطي"، وهي أحزابٌ ذات غالبيةٍ من العرب في المدن المختلطة مثل اللد والرملة والناصرة العليا وعكا.
– وذهبت الـ22 مقعداً الباقية بالكامل تقريباً لصالح أحزاب اليمين. إذ فاز حزب "الليكود" بغالبية تلك المقاعد: قرابة الـ390 ألف صوت، أي 38.7% وتُساوي 12 مقعداً تقريباً لحزب الليكود أي ثُلث ناخبيه. وباختصار، لم يكُن "الليكود" ليصير أكبر أحزاب إسرائيل، ولم يكُن اليمين ليفوز بأغلبية تشريعية، بدون المُحيط. الأمر بهذه البساطة.
لا حلول في اللحظات الأخيرة
ليس من الواضح بعد كيف يُمكن لليسار أنَّ يصف نفسه باليسار، رغم أنَّه يتخلَّى مُقدَّماً عن أكثر من مليون ناخب. فما اليساري في التخلِّي مُقدَّماً عن الناخبين الأفقر والأضعف والأكثر تهميشاً؟
يقول آفي دابوش، الذي ترشَّح لرئاسة حزب "ميرتس" وتزعَّم تجمُّع الحزب في المُحيط: "إنَّ الطريقة التي يزيد بها اليسار الأمور سوءاً تُعَدُّ إهمالاً إجرامياً". واليوم، يشغل الرجل منصب الرئيس التنفيذي لمنظمة "حاخامين من أجل حقوق الإنسان" غير الربحية.
ونفى دابوش وجود طرقٍ مُختصرة. يحتاج اليسار إلى المُحيط، لأنَّه لا مجال للفوز بدونه. وجادل دابوش بأنَّ العمل في المحيط يجب أن يظل جارياً طوال العام، كل عام: "لا يُمكنك أن تظهر في اللحظات الأخيرة فقط".
ونظراً لأنَّه يعيش في سديروت أيضاً بجوار قطاع غزة؛ يعي دابوش أنَّ الحكومات اليمينية "تمنح الكثير من الهدايا" للمُحيط، مثل الخصومات على عضويات حمامات السباحة الصيفية وتذاكر الأفلام الأرخص ودور الحضانة المُدعَّمة.
ما الذي ستُقدِّمه للناخبين في المُقابل؟
وبقياس هذه "الهدايا"، يقول دابوش إنَّه من المستحيل إرضاء الناخبين بالخطب الأخلاقية عن "العدالة الاجتماعية". وجادل بأنك إذا كنت ترغب في الأصوات، فعليك "أن تقول ما الذي ستُقدِّمه في المُقابل". وأضاف أنَّ اليسار ليس لديه شيءٌ ليُقدِّمه الآن بدلاً من "هدايا" الليكود، فضلاً عن أنَّه ليس مُهتماً بالفقر.
وليس دابوش مُتفاجئاً على الإطلاق من قلة إقبال الناخبين على الأحزاب اليسارية في بلدات المُحيط. فمن واقع تجربته الشخصية، يُعَدُّ هؤلاء الناخبين على الأرجح من اليهود الأشكناز، أو تعود أصولهم إلى طبقةٍ اجتماعية – اقتصادي أعلى بعض الشيء.
وقال إنَّه التقى مع مجموعةٍ من الشباب منذ بضعة أيام. أحدهم من أوفاكيم، المدينة الواقعة جنوبي إسرائيل، وأخبره بأنَّه "لم يسمع قط بأيّ شخصٍ صوَّت لليسار من أوفاكيم".
ولم تكُن مقولة الشاب بعيدةً عن الواقع: إذ صوَّت 215 شخصاً فقط في أوفاكين لصالح حزبي "العمل" و "ميرتس"، أو 1.5% من إجمالي أصوات المدينة. وفي مدينة نتيفوت الجنوبية، حصد اليسار دعم 0.6% فقط من السكان، أي 110 ناخبين. وفي سديروت حيث يعيش بيرتس، حصد حزب "العمل" 3.8% من الأصوات، بحسب اللجنة المركزية للانتخابات. وتجاوزت نسبة ناخبي اليسار الـ5% في ثلاث مواقع فقط من أصل 37 موقعاً.
كيف وصل اليسار الإسرائيلي إلى هذا الحال؟
كيف وصلت الأحزاب اليسارية -"العمل" و "ميرتس"- التي حصدت 56 مقعداً في الكنيست حين انتُخِب إسحاق رابين رئيساً للوزراء عام 1992، إلى هذه النتيجة، خاصةً في البلدات التي يُهيمن عليها اليهود المزراحيون خارج تل أبيب؟
يقول هاني زبيدة، رئيس قسم العلوم السياسية في كلية عميك يزراعيل، إنَّ الاتحاد العام لنقابات العمال الإسرائيلية "هستدروت" كان بمثابة "ذراع اليسار في المُحيط" بتوفيره الوظائف.
ولكن في عام 1985، تفكَّك الكيان -الذي كان يُنظر إليه على أنَّه قديمٌ ومُرهَق- في محاولةٍ لإعادة إحياء "حزب العمل". ولم يتبقَّ أحدٌ لتوصيل أفكار اليسار، بحسب زبيدة.
من جانبها، تقول ريفيتال عمران، خبيرة العلوم السياسية وكاتبة الأعمدة في صحيفة معاريف اليومية الإسرائيلية الناطقة بالعبرية، إنَّ اليسار الإسرائيلي لم يكُن لديه شيء يُقدمه للمحيط منذ أواخر السبعينيات.
وأضافت: "بعد أن استفاد القدماء الذين أسَّسوا الدولة من الرفاه الاجتماعي للدولة وحقَّقوا الأمن الاقتصادي؛ توقَّفوا عن دعم دولة الرفاه وبدأوا في دعم السوق الحرة. وأضحت القصة الاجتماعية – الديمقراطية هشةً إلى حدٍّ كبير".
ولكن زبيدة قال إنَّ التنازل عن مليون ناخب ليس خياراً. وأوضح، رداً على "الهدايا" التي يُقدِّمها اليمين للمحيط: "اليسار الحقيقي عليه أن يُقدِّم أدويةً مجانية، وحمامات سباحة مجانية، ورعايةً تمريضية مجانية".
ويضيف: "يجب على اليسار أيضاً أن يُقدِّم إعادة توزيع الأراضي لأنَّ البلدات الصغيرة التي يعيش فيها اليهود المزراحيون هي أقل شأناً بكثير في هذا الصدد، مُقارنةً بالكيبوتسات المُحيطة التي تنتمي تاريخياً إلى حزب العمل".
وبحسب البحث الذي أجراه طُلاب زبيدة؛ فإنَّ متوسط العمر في بلدات المُحيط الشمالية هو أقل بـ11 عاماً من سُكان الكيبوتسات في نفس المنطقة. وقال: "لا يدور السؤال حول المُحيط، بل حول السكان المُستبعدين".
سياسات الهوية
تُحاول منصة "العمل – جسر" الاقتصادية، التي أُعلِنَت في وقتٍ مُبكِّر من الشهر الجاري، أن تُقدِّم عروضها لأولئك المُستبعدين. إذ دعت لرفع الحد الأدنى للأجور، وبناء الحكومة 200 ألف شقة جديدة، والرعاية التمريضية من قِبَل الحكومة، والتعليم المجاني منذ الطفولة، وزيادة معاشات التقاعد الحكومية، وزيادة ضريبة الدخل على أصحاب الدخول الأعلى.
وقالت ريفيتال إنَّ العمل على الهوية ليس أقل أهمية. وأضافت أنَّ "اليسار يميل إلى رؤية (سياسات الهوية) بوصفها أمراً سلبياً"، لكن هذا يُعَدُّ خطأ في وجهة نظرها. وبدلاً من ذلك، يُعتبر هذا هو أساس الشقاق مع "اليسار المزراحي"، على حد تعبيرها.
وأوضحت قائلةً: "عليهم أن يحترموا الهوية الثقافية للسكان، من أجل تكوين الشراكة. إسرائيل هي دولةٌ تقليدية. ولا يُمكن للديمقراطية الاجتماعية أن تتجاهل هذا الجانب"، حسب تعبيرها.
وعلاوةً على كل هذه الأسئلة، تظهر أيضاً مسألة التمثيل. إذ تساءل دابوش: "لماذا قد تُصوِّت لشخصٍ لا ينتمي إلى مُجتمعك؟". ومن هذا المنطلق، قال زبيدة إنَّ بيرتس يفعل شيئاً مُهماً للغاية. إذ وضع بنفسه أورلي على رأس القيادة التي تبدو مزراحيةً بوضوح، وتنتمي إلى المُحيط: "فهو يقول: لنقُل إنَّنا من المُحيط، لنقُل إنَّنا مزراحيون، ولنحاول الوصول إلى المليون ناخب".
الوعي الإسرائيلي يتجه نحو اليمين
ولا يتوقع زبيدة أن يُقنع بيرتس وأورلي عدداً كبيراً من المليون ناخب في المحيط بتغيير توجههم، لكنه لا يستبعد في الوقت ذاته حدوث مُفاجأة. لكن ريفيتال أكثر تشكُّكاً. إذ تعتقد أنَّ ما يفعله بيرتس وأورلي "هو أمرٌ مناسب، وضروري، ويستحق الثناء"، لكنها ترى أيضاً أنَّه أتى مُتأخراً. وأضافت: "لا يُمكنك تغيير وعي الناس بعد سنواتٍ طوال خلال شهرٍ أو شهرين فقط".
لكن ريفيتال تتفق مع زبيدة في أنَّه لو استطاع تحالف "العمل – جسر" تجاوز العتبة الانتخابية في سبتمبر/أيلول وتقديم أداءٍ جيد؛ فيتحوَّل دون شكٍ إلى قاعدةٍ للتحركات الجديدة بواسطة اليسار في المُحيط.
وحتى في حال كان اختيار بيرتس التحالف مع أورلي له دوافع سياسية ضيقة الأفق، كما يزعم بعض نُقَّاده، فإنَّ الأكيد هو أنَّ المليون ناخب في المحيط صاروا الآن داخل حسابات اليسار. وهذا أيضاً تغييرٌ مُرحَّبٌ به.