بعدما كانت تحاربها أصبحت تعتمد عليها.. السعودية تعتنق القومية المفرطة بدلاً من التشدد الديني

لما كانت المملكة العربية السعودية تعدّل عقدها الاجتماعي، بحيث تميل بعيداً عن الدين وفي اتِّجاه القومية، فإذا هي تعكُف على سحب السلطة من المحافظين الدينيين، الذين حافظوا على سمعتها وأمنها لوقتٍ طويل، ولكنها بذلك تمنح السلطة لمنتجٍ جديد من الراديكالية السعودية: القومية المفرطة. 

ورغم أنَّ التيار القومي المُفرط السعودي لا يسعى إلى نفس نوعية الخلافة العنيفة العالمية، على غرار المُتشدِّدين السعوديين السابقين مثل أسامة بن لادن، لكنه لا يزال يُشكِّل خطراً حقيقياً على سمعة المملكة، وجيرانها المستقلين فكرياً من الدول الخليجية العربية، وجوانب علاقتها مع الغرب.

حملات قومية مفرطة واسعة الانتشار

تقول مجلة The National Interest الأمريكية، إنَّ ولي العهد السعودي، ونائبه القومي المفرط سعود القحطاني، وعملاءه في "مركز الدراسات والشؤون الإعلامية" يطبقون حملةً واسعة النطاق ضدَّ النشطاء والأكاديميين والشخصيات المُؤثِّرة والشخصيات العامة، بغرضِ تحويل شكل العقد الاجتماعي السعودي سريعاً من القبلية الدينية إلى القومية الحديثة. 

وتتعدَّد الضرورات التي تُحرِّك هذا التحوُّل. ففي صميمه يُعتبر العقد الاجتماعي السعودي عقداً عفى عليه الزمن منذ سنوات. وساعد الولاء طويل الأمد للمؤسسة الدينية، خاصةً في أعقاب حصار مكة عام 1979، على ربط المجتمع السعودي بالعائلة المالكة، لكن التديُّن السعودي بدأ يتغيَّر، بتقويض النفوذ السياسي لرجال الدين الذين كانوا قادرين في وقتٍ من الأوقات على حشد الأنصار وراء العلم. 

القوميّة كعلاج مسكّن لإصلاح العلاقة مع الشعب

وصار نظام الرفاهية السعودي من المهد إلى اللحد باهظَ التكلفة على نحوٍ مُتزايد. وفي حين كانت الرياض قادرةً في وقتٍ من الأوقات على إنفاق الملايين على المواطنين والمناطق صعبة المراس، من أجل شراء الولاء، ينبغي للدولة الآن أن تُحوِّل مواطنيها إلى عاملين مُنتجين يزدهرون في قطاعها الخاص المُحتضر حالياً. وفي ظلِّ ضعف حجَرَي الزاوية الديني والاقتصادي؛ تسعى الرياض لاستخدام القومية، بوصفها مُسكِّناً لإصلاح العلاقة المُتوتِّرة بين الحُكَّام والمحكومين.

يُعدُّ الأمر محورياً بشكلٍ ملحوظ، لكن القومية السعودية هي مفهومٌ جديدٌ نسبياً: إذ لم يُعترف رسمياً باليوم الوطني للمملكة حتى عام 2005، ولم تبدأ العطلة في إثارة حماس المجال العام حتى السنوات الأخيرة. ورأى ملوك السعودية عادةً في القومية مغازلةً خطيرة للقومية العربية المناهضة للملكية، التي تبنَّاها الزعيم المصري جمال عبدالناصر، لذا كانوا يسعون إلى تقييد نموها. والآن تحتضن المملكة هذا المفهوم بحماسٍ لتعزيز عقدها الاجتماعي.

ويقف على حافة هذه الحركة القومية المتنامية القوميون المفرطون، وغالبيتهم من الرجال، وأحياناً من الشباب، الذين يتحدثون على الشبكات الاجتماعية بلغاتٍ أجنبية مثل الإنجليزية أحياناً. 

ويُساعد أولئك في تشكيل الرواية المتداولة حول سمعة المملكة، ووضع خطوط حمراء جديدة يتعيَّن على الرياض أخذها بعين الاعتبار أثناء صياغة السياسة. وفي عام 2018 وحده، أدَّى أولئك الأشخاص إلى تأجيج التوتُّرات الكندية-السعودية، واحتفوا باعتقال ناشطات حقوق المرأة، وروَّجوا للإعدامات الجماعية للمعارضين السياسيين، وبرَّروا قتل جمال خاشقجي؛ كل ذلك وهم يرتدون عباءة الحفاظ على النظام العام التي كانت ترتديها الشرطة الدينية. 

نحو السيطرة على الرأي العام 

وبالتزامن مع خفوت شعلة محرمات المؤسسة الدينية القديمة؛ بدأ القوميون المفرطون التحرُّك للسيطرة على الرأي العام. ويُمثِّل القوميون المفرطون أداةً مُفيدة للدولة في فرض السياسة، وتشكيل المشاعر العامة، وتعديل العقد الاجتماعي. 

وبينما تكتسب القومية مصداقية، سيصير قلق المؤسسة الدينية من الإصلاح الاجتماعي أمراً ثانوياً بشكلٍ متزايد، وهو تطوُّرٌ مهم في شخصية الدولة؛ إذ إنَّ الكثير من الإصلاحات الاجتماعية، مثل السماح للنساء بالسفر والعمل بحرية، هي إصلاحاتٌ اقتصادية بطبيعتها. وسيساعد ذلك أيضاً على عزل المُتشدِّدين الدينيين داخل السعودية. 

فرغم أنَّ "الأيديولوجية الجهادية" لاقت "هزيمةً دعائيةً ساحقة" بتدمير النسخة الإقليمية من الدولة الإسلامية، يجد الشباب السعودي -خاصةً في المناطق النائية التي تتجاهلها إصلاحات المملكة العاصفة- العزاء في نداءات الدعاة المُتشدِّدين. 

أهداف عسكرية أيضاً 

وربما كانت هناك فوائدٌ عسكرية للأمر: فربما يزيد قبول المشاركة في العمليات الخطيرة بين صفوف الرتب العسكرية الأكثر قومية -التي تتجنَّب المخاطرة بالإصابة عادةً- وذلك من أجل "التضحية الوطنية". وقد فشلِت الرياض في العثور على تلك السمات منذ عقود. مما سيسمح للسعودية بأن تكون أكثر صداميةً في مواجهتها مع منافستها الإقليمية إيران، ويُخفِّف بعض ضغوط الحرب الناجمة عن حربها في اليمن.

وفي أوقات أخرى، أثبت القوميون المفرطون خطورتهم على سمعة وسياسة الرياض، التي تُحاول جذب الاستثمارات الأجنبية والحفاظ على تحالفاتها الاستراتيجية. إذ حُمِّل القحطاني المسؤولية عن عملية خاشقجي البشعة على نطاقٍ واسع، وهي القضية التي أضرَّت العلاقات بين السعودية والكونغرس الأمريكي. 

فضلاً عن أنَّ القوميين المفرطين السعوديين ساعدوا في إثارة الخلاف الكندي-السعودي، في شهر أغسطس/آب عام 2018، وهو الخلاف الذي أضرَّ العلاقة طويلة الأمد بين كندا وبين الطلاب السعوديين، وهدَّد بقطع العلاقات التجارية بين البلدين. وأثار القوميون المفرطون أيضاً التوتُّرات مع إيران: ففي مقالٍ افتتاحي نشرته صحيفة Arab News، المدعومة من قبل الحكومة، في مايو/أيار عام 2019، (والتي تعد جزءاً من "المجموعة السعودية للأبحاث والتسويق"، وهي أداةٌ رئيسية في نشر الرواية القومية السعودية)، جادل مجلس التحرير مُطالباً بضربات عسكرية تأديبية ضد إيران، رداً على هجمات ناقلات النفط في خليج عمان، وهجمات الحوثيين على البنية التحتية للنفط السعودي.

علاوةً على ذلك، سيُنتج مفهوم الكرامة الوطنية -الآخذ في التطور- تحدِّيات دبلوماسية جديدة للرياض وحلفائها. وفي حين لم تُرحِّب المملكة العربية السعودية مُطلقاً بالرأي الخارجي في شؤونها الداخلية سابقاً، لكنها استطاعت في الماضي تجاهل الرأي العام بحجة أمن الدولة، على غرار ما حدث حين دعت جنود التحالف إلى الدفاع عن المملكة ضد العراق، إثر اجتياح الكويت عام 1990، وعلى غرار ما حدث حين مدَّت يدها إلى إسرائيل مؤخراً لتكوين جبهةٍ مُشتركة ضد إيران.

استهداف الجيران الخليجيين

فضلاً عن ذلك، أظهر القوميون السعوديون تسامحاً أقل مع "انحراف" الدول الخليجية العربية المجاورة. وحظيت قطر بنصيب الأسد من تلك الهجمات، وصار الحصار ممتزجاً بروحٍ قومية تصعب مقاومتها، في حال توصَّلت الرياض إلى تسويةٍ مع الدوحة. 

ومستقبلاً، قد تُواجه عمان والكويت غضب هؤلاء القوميين، إذ كان السلطان قابوس العماني مستقلاً بما فيه الكفاية، خاصةً في تعامله مع إيران وقطر، لمواجهة ضغوطات الرياض. وساعد قابوس في إحباط محاولةٍ سعودية لتقوية مجلس التعاون الخليجي بتحويله إلى اتحادٍ خليجي عام 2013، مما أفسد استراتيجية السعودية الرامية إلى تحويل مجلس التعاون الخليجي إلى جبهةٍ أكثر اتحاداً ضد إيران. 

علاوةً على أنَّ عمان لم تُشارك في مقاطعة قطر مطلقاً، وشعرت مسقط أنَّها عرضةٌ للنقد السعودي بما يكفي لتتَّخذ تدابير مُؤيدة للولايات المتحدة بشدة، مثل دعوة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى مسقط في نوفمبر/تشرين الثاني عام 2018، للتأكيد على تحالفها مع الأمريكيين. إلى جانب فتح قاعدةٍ عسكرية مع بريطانيا للمرة الأولى منذ إنهاء الاستعمار عام 1970. وختاماً، فإنَّ النزاع الإقليمي القائم منذ زمن مع الكويت، حول حدودها الغنية بالنفط مع السعودية، سيستغل النزعة القومية التي لم تكُن موجودةً مُسبقاً.

قومية ترفض تغيير سلوكيات المملكة بملف حقوق الإنسان

وربما يكون الأهم من ذلك كله أنَّ القومية السعودية الجديدة ستُزوِّد المملكة بالدعم السياسي الذي تحتاجه لمقاومة النفوذ الأجنبي الرامي إلى تغيير سلوكياتها. وبالتزامن مع تزايُد قلق الحلفاء الغربيين بشأن ملف حقوق الإنسان في المملكة وممارساتها في اليمن، ستدخل ضغوطات الحلفاء من أجل تغيير السلوك السعودي في مواجهةٍ مُتصاعدة مع المطالب القومية للعائلة الملكية بالحفاظ على سيادة المملكة. 

وسيُعَدُّ هذا التغيير ملحوظاً عند مقارنته بالأيام الحرجة، في ظل حكم جورج بوش الابن والملك عبدالله، حين ضغط بوش الابن على الملك عبدالله ليعقد انتخابات بلدية، بوصفها جزءاً من أجندته الإقليمية للحرية. وربما يجد حلفاء المملكة المقربون أنَّ زيادة مكاسب القومية داخل السعودية ستزيد انغلاق عقول مسؤوليها.