انهارت إحدى معاهدات الحد من انتشار الأسلحة النووية، التي عزَّزت الأمن العالمي على مدار ثلاثة عقود، نهاية شهر يوليو/تموز المنقضي، وأصبح احتمال الحرب النووية قائماً بسبب سياسات دونالد ترامب وبعض أفراد إدارته.
فقد انتهت معاهدة الأسلحة النووية متوسطة المدى بعد أن أعلنت الولايات المتحدة انسحابها من المعاهدة التي تعود إلى فترة الحرب الباردة، متهمة روسيا بخرقها.
وقبل توقيع هذه المعاهدة تحوَّلت تلك الصواريخ إلى مصدر للمخاوف بشأن سوء التقدير المستمر خلال الحرب الباردة، بسبب تلك المسافة القريبة وحقيقة أنَّها قادرةٌ على ضرب أهدافها في غضون 10 دقائق، حسبما ورد في تقرير لصحيفة Washington Post الأمريكية.
معاهدة قضت على التهديد النووي الذي حلق فوق رؤوس الجميع
ففي عام 1987، وقَّعت الولايات المتحدة والاتحاد السوفيتي على "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى"، والتي أدَّت إلى إزالة أكثر من 2,600 صاروخ باليستي نووي وتقليدي من الترسانات الأمريكية والسوفيتية -وتحديداً أنظمة الأسلحة الأرضية التي يتراوح مداها بين 500 و5,500 كيلومتر.
وأدَّى ذلك الاتفاق التاريخي، المدعوم بعملية التحقق والتفتيش من كلا الجانبين، إلى القضاء تماماً على فئةٍ كاملة من الأسلحة النووية. إذ رفع الستار عن التهديد النووية الدائم الذي كان يُحلِّق فوق رؤوس أوروبا.
وأعطى إشارة البدء لعمليةٍ لاحقة مُطوَّلة قلَّصت خلالها واشنطن وموسكو من ترساناتهما النووية.
ولكن ترامب قرر الانسحاب بعدما اتهم روسيا بانتهاكها.. وهذا هو دليله
وفي فترة الرئيس ترامب، عادت عقارب الساعة إلى الوراء. ففي فبراير/شباط، أصدرت إدارة ترامب إشعاراً بأنَّها ستنسحب من "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى" في غضون ستة أشهر، مُشيرةً إلى شكاوى الولايات المتحدة المتواصلة من أنَّ روسيا تنتهك شروط المعاهدة بتطوير صاروخٍ جوَّال أرضي جديد بقدراتٍ نووية.
وأنكر الروس لفترةٍ طويلة وجود هذا الصاروخ، لكنهم يزعمون الآن أنَّ مداه أقل من 500 كيلومتر.
وكتبت صحيفة The Hill الأمريكية، في الرابع من أبريل/نيسان، على تويتر:
"قال ينس ستولتنبرغ، الأمين العام لحلف الناتو: موقف الناتو مُوحَّد وواضح. لقد انتهكت روسيا معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى".
أمريكا انسحبت خوفاً من الصين وروسيا سعيدة بالقرار
وعلى أي حال، لم تُثِرُ موسكو ضجةً كبيرة حول الخروج من الاتفاقية، بل بدت وكأنها سعيدةٌ بانتهاء صلاحيتها. إذ شعر المسؤولون في البلدين بأنَّ المعاهدة تُكبِّل أيديهم. وراقبت روسيا بحذرٍ في كل مرةٍ نشرت خلالها الولايات المتحدة منظومةً صاروخيةً جديدة لدى حلفائها في أوروبا أو آسيا.
واعتبر المُتشدِّدون في واشنطن مثل جون بولتون، مستشار الأمن القومي بالبيت الأبيض، أنَّ المعاهدة مثَّلت مفارقةً تاريخية كانت تعوق الخيارات الاستراتيجية الأمريكية، لكنها لم تُؤثِّر على القوى الصاعدة مثل الصين.
ويوم الجمعة، كتب مايك بومبيو، وزير الخارجية الأمريكي، تغريدةً قال فيها: "منحت الولايات المتحدة روسيا ستة أشهرٍ من أجل مُعاودة الامتثال لمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى.
لكن روسيا رفضت، لذا تنتهي المعاهدة اليوم. ولن تظل الولايات المتحدة جزءاً في معاهدة ينتهكها الآخرون. وتتحمَّل روسيا المسؤولية كاملة".
وفي بيانٍ أصدرته وزارة الخارجية الروسية، ألقت موسكو باللوم على واشنطن. وذكر ماثيو بودنر، في تقريره لصحيفة Washington Post من موسكو، أنَّ الوزارة اتَّهمت الولايات المتحدة بتقويض المعاهدة عمداً لتبرير تطويرها ونشرها أسلحةً كانت محظورةً بموجب الاتفاقية.
وأشار البيان إلى الأفعال التي ارتكبتها الولايات المتحدة في السابق لتبرير مزاعمه، ومنها انسحاب إدارة بوش أُحادي الجانب عام 2002 من "معاهدة الصواريخ المضادة للباليستية" التي وُقِّعَت عام 1972 -وقد سلَّم جون بولتون شخصياً إشعاراً بذلك الانسحاب إلى الكرملين، على غرار ما حدث مع "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى".
وأضاف البيان: "إنَّ التنديد بمعاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى يُؤكِّد أنَّ الولايات المتحدة عازمةٌ على تدمير كافة الاتفاقيات الدولية التي لا تُناسبها لسببٍ أو لآخر. وسيُؤدِّي هذا إلى تفكيك منظومة الرقابة الحالية على الأسلحة بالكامل".
وأنكر بيان الوزارة مرةً أخرى اتِّهامات واشنطن بأن روسيا انتهكت المعاهدة، ودعا الولايات المتحدة إلى التعهُّد بعدم نشر أسلحةٍ كانت محظورةً بموجب المعاهدة.
وذكرت الوزارة أنَّ روسيا أعلنت بالفعل تعليق نشر هذا النوع من الأسلحة، "إذا كانت لدينا بالفعل"، وإذا لم تنشرها الولايات المتحدة أولاً. لكن عدداً من المسؤولين الروس ذكروا في الأسابيع الأخيرة أن روسيا ستُراقب أي عمليات نشرٍ لتلك الأسلحة، ومنهم نائب وزير الخارجية سيرغي ريابكوف -المسؤول الروسي الأول عن الرقابة على الأسلحة.
والآن، موسكو تفكر في تبني خيار الضربة الاستباقية وخطر الحرب النووية يزداد
ورفع ليونيد سلوتسكي، رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الدوما الروسي، الرهانات يوم الجمعة حين قال إنَّ نشر الولايات المتحدة للصواريخ قصيرة ومتوسطة المدى في وسط وشرق أوروبا يُمثِّل تهديداً خطيراً للأمن القومي الروسي. ونقلت وكالة Interfax الروسية عن سلوتسكي قوله: "تستغرق تلك الصواريخ وقتاً قصيراً للغاية في الجو من بولندا إلى دول البلطيق (قرابة الأربع دقائق)، وفي هذه الحالة، سيتعيَّن على موسكو تبنِّي سياسة الضربات الاستباقية".
وأضاف سلوتسكي أنَّ ذلك يخلق خطراً بارزاً أكبر لاندلاع حربٍ نووية "بطريق الخطأ"، ودعا الجانبين إلى التوافق على عدم نشر تلك الأسلحة داخل أوروبا.
وقال فلاديمير شامانوف، رئيس لجنة الدفاع في مجلس الدوما، عن انسحاب الولايات المتحدة: "اتركوهم ينسحبون. لدينا ردٌ جاهز".
سباق تسلح جديد
من المحتمل أن نكون على مشارف سباق تسلُّحٍ جديد، حسبما يرجح المحللون.
وقال بافيل فيلغينهور، المحلل العسكري الروسي، خلال حديثه إلى وكالة AFP الفرنسية: "بانتهاء المعاهدة الآن، سنشهد تطويراً ونشراً لأسلحةٍ جديدة"، في إشارةً إلى خطوات الكرملين المُقبلة. ويُعتقد أنَّ الولايات المتحدة أيضاً ستنشر ثلاثة أنواعٍ جديدة على الأقل من الصواريخ متوسطة المدى -وتهدف كلها إلى حمل رؤوس حربية تقليدية.
وفي مذكرةٍ أُرسِلَت عبر البريد الإلكتروني، حذَّر جان تيشو من مركز أبحاث "German Marshall Fund" من أنَّ انهيار المعاهدة كان "أوضح دليلٍ مرئي" على تغيُّر الرياح الجيوسياسية.
أمريكا تضحي بأوروبا لمناهضة الصين
وقال تيشو: "قدَّرت واشنطن أنَّه من أجل استعادة التكافؤ مع الصين في هذا المجال؛ فإنَّ الأمر يستحق التضحية بالاستقرار الأوروبي. ورغم أنَّ الأمر مفهومٌ على المستوى العالمي، لكنه يُمثِّل مأساةً بالنسبة لأوروبا".
وأوضح مايكل بيرنباوم، رئيس مكتب بروكسل في صحيفة Washington Post، لقسم Today's WorldView أنَّ المسؤولين الأوروبيين قد تجاوزوا هذا الشعور بالمأساة: "داخل الناتو، توقَّف الدبلوماسيون عن الحداد على زوال المعاهدة -إذ يدعم كافة أعضاء الناتو قرار ترامب بالانسحاب-، وانتقلوا إلى التفكير في الأساليب المناسبة للتعامل مع الوضع الجديد.
لكن الكثير من كبار صُنَّاع السياسة الأمنية الأوروبيين وُلِدوا وترعرعوا إبان حقبة المعارك الحادة -في السبعينيات والثمانينيات- تساءلوا حول ما إذا كان يحق للولايات المتحدة نشر الصواريخ النووية متوسطة المدى على التراب الأوروبي، ولا تسودهم الرغبة للعودة إلى تلك الحقبة من جديد. ولا يرغب الكثيرون في عودة الأسلحة النووية الأمريكية متوسطة المدى إلى القارة.
وهناك نوعٌ من الجدل حول ما إذا كانت دول حلف الناتو بحاجةٍ إلى تكثيف جهودها لتطوير الدفاعات الصاروخية التقليدية، حتى تستطيع حماية أنفسها من التهديدات الروسية.
وقد نصَّبت الولايات المتحدة أنظمة دفاعٍ صاروخية في رومانيا وبولندا، لكنها مُصمَّمةٌ من أجل التصدِّي للصواريخ الإيرانية، وليس الروسية. ولن تدعم كافة الدول الأوروبية تعديل تلك الأنظمة لتكون قادرةً على الدفاع ضد روسيا أيضاً.
ويُركِّز حلف الناتو الآن على تقوية جهوده القائمة بالفعل للدفاع عن أوروبا ضد روسيا. وهذا يعني تحسين قدرة التحالف على نشر القوات سريعاً بطول أوروبا، في حال احتاج التحالف إلى نشرها في الدول التي تقع على الحدود مع روسيا. وهذا قد يعني أيضاً تصعيد المناورات العسكرية التي تحدث داخل شرق أوروبا طوال الوقت تقريباً".
وكتبت شيريل روفير على تويتر:
"أول شيءٍ ستقع عيناك عليه داخل متحف الطيران والفضاء هو زوجٌ متطابق من صواريخ SS-20 وبيرشينغ، بجوار صورة ريغان وغورباتشوف أثناء توقيعهما على معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى".
إنهم يريدون التخلي عن معاهدة نووية أخرى
علاوةً على أنَّ إنهاء "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى" يُمهِّد الطريق أمام تفكُّكٍ أوسع نطاقاً.
إذ أشار بولتون مؤخراً إلى أنَّه يرغب أيضاً في إنهاء "معاهدة ستارت الجديدة" التي وُقِّعَت في عهد أوباما، والتي تنتهي صلاحيتها في عام 2021. وبوصفها معاهدةً تاريخيةً أخرى؛ حدَّدت عدد الرؤوس النووية الاستراتيجية التي تنشرها الولايات المتحدة وروسيا.
وعلى غرار شكاواهم من "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى"، جادل بولتون وأمثاله بأنَّ "معاهدة ستارت الجديدة" ليست كافيةً في الوقت الحالي، واشتكوا من أنَّها لم تشمل الأسلحة النووية التكتيكية أو قصيرة المدى -بغض النظر عن أنَّ المعاهدة لم تكُن بغرض التطرُّق إلى هذا النوع من القدرات.
فهم يؤمنون بفكرة وهمية مفادها إمكانية استخدامهم للأسلحة النووية دون رد
ويرى النقاد أنَّ هذه الحجج هي عبارةٌ عن غطاءٍ يحجب ميولاً عسكرية. إذ كتب بروس بلير وجون ولفسثال، خبراء الرقابة على الأسلحة: "تُعَدُّ "الهيمنة التصعيدية" هي الفكرة الرئيسية بالنسبة لتلك العقول التوَّاقة إلى الحرب النووية، حيث يعتقد طرفٌ من الأطراف أنَّ بإمكانه استخدام الأسلحة النووية مع الحيلولة دون استخدام الطرف الآخر لها بطريقةً ما.
ويُحرِّك هذا المفهوم السياسة النووية الأمريكية بشكلٍ متزايد. إذ تبنَّى الرئيس ترامب ومستشاروه مجموعة السياسات الخطيرة تلك بقوة، ويسعون إلى الحصول على أسلحة نووية جديدة يُزعم أنَّها "منخفضة القوة"، من أجل تسهيل تنفيذ تلك التهديدات".
ويقترح بلير وولفسثال أنَّ "التخيُّلات الخطيرة" بأنَّ الولايات المتحدة تستطيع استخدام سلاحٍ نووي ضد دولةٍ مُسلَّحةٍ نووياً، دون أن يُسفِرَ ذلك عن هجومٍ نووي مضاد، تأتي في صميم هذا الفكر.
وفي مرحلة المناظرات هذا الأسبوع، أعرب عددٌ من المرشحين الرئاسيين الديمقراطيين عن دعمهم لسياسة "عدم توجيه الضربة النووية الأولى"، والتي من شأنها -وفقاً لحساباتهم- أن تُقلِّل مخاطر اندلاع حربٍ نووية حقيقية. لكن العالم لا ينتظر من الولايات المتحدة أن تُغيِّر كثيراً من مسارها الحالي عام 2021.
فلقد نسوا الرعب الذي عاشه العالم خلال الحرب الباردة
وقال بان كي مون، الأمين العام السابق للأمم المتحدة، في تصريحه: "هناك خطرٌ حقيقيٌ للغاية من احتمالية انهيار الهيكل الأمني المبني حول الحد من انتشار الأسلحة النووية بالكامل، والذي استغرق بناؤه عقوداً من المواجهات بين القوى العظمى، بسبب الإهمال وسوء التقدير وتحليل المخاطر الذي لا أساس له".
وأعرب جورج شولتز، وزير الخارجية الأمريكي السابق الذي أدَّى دوراً رئيسياً في التفاوض على "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى" عام 1987، عن أسفه على فقدان الذاكرة المتزايد الذي أصاب العالم حيال التهديد الذي تُشكِّله الأسلحة النووية.
وأضاف خلال المقابلة التي أجراها مع إذاعة Voice of America: "حين تذهب مُعاهدةٌ مثل "معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى" أدراج الرياح وكأنَّها لا قيمة لها، فهذا يدُلُّ على مدى نسيان الناس لقوة تلك الأسلحة. ويوماً من الأيام، سيكون الأوان قد فات بالفعل".