تمثل منطقة شرق المتوسط على مرِّ معظم العقود الثلاثة الماضية مأزقاً فعلياً للأمن القومي الأمريكي، ولكن صناع السياسة الأمريكيين فقدوا تركيزهم على المنطقة التي تعد أحد مفترقات الطرق الاستراتيجية الحيوية في العالم، في وقت تتزايد الصراعات في شرق المتوسط.
ولكن هناك بعض التحولات الجيوسياسية العميقة التي تتطلَّب مرة أخرى من القيادة الأمريكية الاستفادة من فرصٍ جديدة، ومنع المنطقة من التحوُّل إلى محلِّ صراعٍ محتدم مثل منطقة بحر الصين الجنوبي، حسبما ورد في تقرير لمجلة The National Interest الأمريكية.
فموقع منطقة شرق المتوسط عند ملتقى أوروبا وآسيا وإفريقيا أدَّى إلى تحوُّلها إلى مركزٍ لتنافس القوى الكبرى والصراع بينها منذ قديم الأزل.
وهي المنطقة التي اتخذت فيها الولايات المتحدة خطواتها الأولى، بصفتها قوةً عظمى عالمية في بداية الحرب الباردة، وقد كانت من أنسب المناطق لذلك.
ففي عام 1947، أعلنت الولايات المتحدة بموجب مبدأ ترومان تقديم المساعدة الأمريكية لليونان وتركيا، ضِمن تعهُّدها بالدفاع عن العالم الحر ضدّ الشيوعية.
تفوُّق مطلق للأمريكيين والناتو
وظلَّت المنطقة نقطة تقاطع رئيسية للاستراتيجية الأمريكية الكبرى على مدار عقود من المواجهة بين القوى العظمى.
وقد تمتع حلف شمال الأطلسي (الناتو) بتفوقٍ عسكري واضح على القوات السوفيتية في مسرح الأحداث.
لكنَّ حجم الوجود الأمريكي في المنطقة انخفض في العقد الذي تلا نهاية الحرب الباردة، وحصد ما يسمى بـ "ثمار السلام" . ولكن بعد ذلك جذبت صراعاتٌ أكثر إلحاحاً انتباه أمريكا إلى منطقة الخليج وأفغانستان وأماكن أخرى.
ولكن تركيا تغيّر موازين اللعبة
وفي الوقت الراهن، تبرز منطقة شرق البحر المتوسط مرةً أخرى بروزاً سريعاً باعتبارها مفترق طرق حاسماً، وتعد عملية البروز هذه مدفوعةً بإعادة هيكلة جيوستراتيجية هائلة، تعزز احتمالات كلٍّ من التعاون والصراع.
وفي هذا الصدد، أصدر مشروع Eastern Mediterranean Policy Project التابع للمعهد اليهودي للأمن القومي الأمريكي، هو مشروع تشارك مجلة The National Interest الأمريكية في رئاسته، تقريره الأوَّلي الذي يوضح تحوُّل المنطقة وتأثيرها في أمن الولايات المتحدة.
ويرى التقرير أنَّ أول محفز رئيسي لهذه التغيُّرات هو تحوُّل تركيا في عهد الرئيس رجب طيب أردوغان. في ظل خلافاتها مع الناتو، كما تشهد علاقاتها مع شركاء سابقين خلافات، لاسيما الولايات المتحدة وأوروبا، بل وإسرائيل ومصر كذلك.
ويشير حصولها على منظومة S-400 الدفاعية من روسيا إلى تخليها عن دور الحِصن الجنوبي لحلف الناتو، الذي لطالما كانت تؤديه.
وروسيا وإيران تدخلان بقوة للمنطقة.. الصراعات في شرق المتوسط تتزايد
أمَّا الدافع الرئيسي الآخر للتغيير، فهو استئناف التنافس بين القوى العظمى، الذي وصفته بعض استراتيجيات الأمن القومي والدفاع الأمريكي بأنَّه التهديد الرئيسي الذي يواجه البلاد. ومع أنَّ هذا التنافس غالباً ما يكون مرتبطاً بأوروبا الشرقية ومنطقة غرب المحيط الهادئ، فإنَّ روسيا وإيران تشحنانه في شرق البحر المتوسط كذلك.
إذ تمتلك إيران، عن طريق وكلائها، خطاً مباشراً من النفوذ السياسي والعسكري يمتد عبر العراق وسوريا إلى لبنان والبحر الأبيض المتوسط، ويتضمَّن صواريخ حزب الله المتطورة القادرة على استهداف حركة النقل البحري والموانئ والبنية التحتية للطاقة.
وكذلك أصبحت موسكو أكثر تدخلاً في المنطقة من أي وقت مضى، إذ جدَّدت أنشطة أسطولها البحري في المنطقة، وصارت معظم أنحاء المنطقة محمية بحصن دفاعٍ جوي روسي هائل. وفي ظل تضاؤل الوجود الأمريكي في المنطقة، لم يعد بإمكان المُخطِّطين الأمريكيين لأول مرة منذ عقودٍ افتراض أنَّ منطقة شرق المتوسط تعد بيئةً تشغيلية للولايات المتحدة بلا مُنازِع.
والغاز يشكل تحالفات جديدة وسباق التسلح قد اندلع
أمَّا العامل الثالث، فيرجع إلى أنَّ منطقة شرق المتوسط تعد موطناً لأكبر اكتشافات الغاز الطبيعي البحرية في الألفية الحالية، بالإضافة إلى احتمالات التوصُّل إلى اكتشافات كبيرة أخرى.
بيد أنَّ هذه النعمة المحتملة للمنطقة طغت عليها حقيقة أنَّ العديد من الأطراف الفاعلة الإقليمية لديها مطالب متنافسة تدَّعي أحقيتها بهذه الموارد القيمة، مما يزيد من التوترات القائمة بالفعل ويُفاقِم خطر الصراع.
وتشير المجلة الأمريكية إلى أنَّ غياب الوجود القوي للقوات الأمريكية في مواجهة هذه التحولات الجيوسياسية والجيواقتصادية قد أسفر عن سباق تسلُّح في جميع أنحاء المنطقة.
إذ تتبع تركيا دبلوماسيةً تسعى إلى تعزيز حجم أسطولها البحري وزيادة الزوارق المدفعية.
وهذا يُؤثر على اليونان وقبرص وإسرائيل ومصر، التي تتقارب مع بعضها بعضاً بشأن قضايا الطاقة والأمن.
وهناك احتمال لاشتباك إسرائيلي-إيراني كبير في لبنان
وعلى صعيدٍ منفصل، ما زالت هناك احتمالية كبيرة لاندلاع اشتباكٍ إسرائيلي-إيراني كبير في لبنان وسوريا، بل وحتى أبعد من ذلك.
وفي السياق نفسه، قد يسفر تكاثر الغواصات الرخيصة ذاتية القيادة التي لا تحتاج إلى طاقمٍ بشري عن تفاقم الآثار المزعزعة للاستقرار في سباق التسلح هذا.
ولكن في خضمّ هذه الأزمات، توجد كذلك فرصٌ للولايات المتحدة. فتحتَ الرعاية الأمريكية، يمكن للشراكات الناشئة بين حلفاء الولايات المتحدة أن تساعد في ترسيخ الاستقرار الإقليمي وإضعاف نفوذ الطاقة الروسية في أوروبا. وكما أظهرت اليونان مؤخراً، فهي مستعدة كذلك للاستثمار بقوةٍ في حلف الناتو وعلاقتها الثنائية مع الولايات المتحدة.
يجب تنظيم إدارة العلاقات مع أنقرة لإنقاذ الموقف
وصحيحٌ أنَّ صناع السياسة الأمريكية اتَّخذوا خطواتٍ أوَّلية مهمة لدعم مثل هذا التعاون وتعزيزه، ولكن هناك فوضى كبيرة في طريقة إدارة العلاقات الأمريكية مع تركيا. وهذا يعكس حالةً أكبر من الشكِّ حيال نيِّات الولايات المتحدة والتزامها.
لذا يعتقد بعض الخبراء أنَّ منطقة شرق البحر المتوسط يجب أن تحظى مرة أخرى بالاهتمام الاستراتيجي الأمريكي. وهذا يعني أنَّ الولايات المتحدة يجب أنَّ تبدأ في النظر إلى المنطقة على أنَّها كيان استراتيجي متماسك، لكنَّ هذا مستحيل إذا لم تتصدَ بيروقراطيات الأمن الدبلوماسي والوطني الأمريكية لقنوات تأجيج الأزمات التنظيمية التي تمر عبر مركز المنطقة.
والأهم من ذلك، يجب على واضعي السياسات الأمريكيين أن يوضحوا للحلفاء والخصوم على حدٍّ سواء، أنَّ منطقة البحر المتوسط أصبحت منطقةًَ ذات أهمية حيوية للأمن القومي الأمريكي مرةً أخرى، وأنَّ الولايات المتحدة ستظلّ منخرطةً في توفير القيادة الدبلوماسية وأُطر التعاون الأمني من أجل تحقيق الاستقرار في مفترق طرق دولي حيوي.