هل يستفيد الاقتصاد الإيراني من عقوبات ترامب؟، قد يبدو سؤالا غريبا ولكن تاريخ الاقتصاد الإيراني يقدم إجابة أغرب.
فقد شهدت قطاعات من الاقتصاد الإيراني توسعا في ظل العقوبات، بينما تضررت كثير من القطاعات في الأوقات التي تم تخفيف العقوبات فيها، حسب ما ورد في تقرير لموقع Lobe Log الأمريكي.
هل تنصاع إيران للعقوبات؟
يقول التقرير: تبدو كافة الأحاديث المنتشرة حول ازدهار إيران تحت وطأة العقوبات وكأنَّها محاولةٌ من الساسة لحفظ ماء وجههم، أليس كذلك؟.
ويضيف اسأل أي محلِّلٍ سياسي يمتلك فهماً لعملية صنع السياسة الإيرانية، وسيُخبرك أن إيران لم تختر على مدار تاريخها حماية مصالحها على حساب حفظ ماء وجهها.
لذا فحين تسمع محمد جواد ظريف، وزير الخارجية الإيراني، وهو يقول إنَّ "إيران ستزدهر تحت وطأة العقوبات الأمريكية"، فلن يسعك سوى التشكيك في صحة أقواله.
هل يستفيد الاقتصاد الإيراني من عقوبات ترامب؟
لكن حقيقة الأمر هي أنَّ (مما قد يكون مُفاجئاً بالنسبة للكثيرين) فرض العقوبات ضد دولةٍ ما لا يعني بالضرورة إشارةً على هلاكها الوشيك.
ولا شكّ أن تلك العقوبات ستزيد مشقة الشعب، خاصةً على المدى القريب، لكنها لن تفعل شيئاً من شأنه أن يُعيق النمو أو حتى التنمية على المدى البعيدة بالضرورة. وربما تسمح العقوبات لإيران بفرصةٍ لتطبيق الإصلاحات الاقتصادية، من أجل تحقيق الاكتفاء الذاتي بشكلٍ أفضل.
نعم لقد تأثرت حياة الناس بالعقوبات
كانت إيران تحت طائلة العقوبات منذ عام 1979. وخُفِّفَت العقوبات عن إيران منذ توقيع خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي) في عام 2015، وحتى قرر ترامب إعادة فرضها عام 2018 (فضلاً عن تخفيفها مرةً واحدة أواخر التسعينيات تحت إدارة كلينتون، إثر انتخاب الرئيس محمد خاتمي). تُؤثِّر العقوبات على مبيعات النفط والتجارة الدولية الإيرانية، فضلاً عن تأثيرها على مبيعات السيارات، وقطع غيار السيارات، وطائرات الركاب التجارية إلى إيران، وأشياء أخرى.
وتزيد تلك النتيجة من صعوبة حياة الناس، وربما تُعرِّضها للخطر أيضاً، وذلك في ظل تأكيد الولايات المتحدة على أن عقوباتها تستهدف الدولة، وليس الشعب الإيراني.
وفي أعقاب الثورة مباشرةً، كان على إيران التعامل مع الحرب المفروضة عليها مع العراق، والتي أدَّت إلى خسائر فادحة في اقتصادها إثر تخصيص نسبةٍ من اقتصادها تتراوح بين 60% و70% لجهود الحرب. وأسفر ذلك بطبيعة الحال عن اقتصادٍ مضطربٍ ومُتقلِّب طوال الحرب التي دامت لثمان سنوات، وهي الحرب التي اعتمدت بشدةٍ على عائدات النفط وكانت حساسةً للغاية تُجاه أسعار النفط العالمية، التي يتقلَب بموجبها الناتج المحلي الإيراني الحقيقي.
ولا تكشف حقبة الحرب عن أيّ شيءٍ خاص، باستثناء حقيقة أن الاقتصاد الإيراني يعتمد بشدةٍ على صادرات النفط. ولكن عند تحويل انتباهنا إلى حقبة ما بعد الحرب، نبدأ في رؤيةٍ اتجاهٍ ما.
ولكن هكذا كانت العقوبات في صالح قطاعات من الاقتصاد
كان هاشمي رفسنجاني أول رئيسٍ لإيران بعد الحرب، إذ خدم بين عام 1989 و1997. وكانت فترة رئاسته هي حقبة إعادة الإعمار، حين حوَّلت إيران تركيزها من اقتصاد الحرب إلى اقتصاد الإنتاج الداخلي.
لكن أدنى معدلات النمو المُسجَّلة داخل إيران خلال تلك الحقبة كانت في عام 1994، بسبب سوء الإدارة. إذ تدخَّلت الحكومة مباشرةً في ضبط سعر صرف الريال الإيراني مُقابل الدولار الأمريكي (وهي التجربة التي كرّرتها عام 2018)، مما أدَّى إلى زعزعة استقرار السوق. وتفاقمت آثار هذا النهج بسبب سياسة رفسنجاني التي اعتمدت على الانفتاح الاقتصادي تُجاه الغرب، مما أتاح مساحةً أكبر للقطاع الخاص والاستثمارات الاقتصادية الأجنبية في إيران.
ورغم أنّ الرئيسين خاتمي ومحمود أحمدي نجاد كانت لهما سياسات مُختلفة تُجاه الغرب، لكن القطاع الخاص وجد مساحة أكبر لإدارة عملياته في ظل إداراتهما.
وأدَّت العقوبات خلال تلك الفترة إلى تحفيز التنمية الصناعية الإيرانية على أرض الواقع، بقدر ما أبقت على المنافسة الأجنبية تحت السيطرة. إذ أصبحت إيران قادرةً في الواقع على التحوُّل إلى قوةٍ صناعية في المنطقة.
إذ تعلَّم الإيرانيون من الحياة في ظل العقوبات لفترةٍ طويلة أنَّ الاعتماد على الغرب لن يُحقِّق الرخاء الاقتصادي. وأن إيران لن تستطيع تحقيق الاكتفاء الذاتي والاستقرار، إلَّا من خلال تنمية قدراتها الداخلية.
فالطبقة الوسطى توسعت
ولا شك أن الإحصائيات تُظهِرُ أن الطبقة الفقيرة والطبقة الوسطى الدنيا تقلَّصت حصتها في إجمالي تعداد السكان الإيراني، منذ اندلاع الثورة، في حين ازداد حجم الطبقة المتوسطة.
ففي عام 1972، كان الفقراء يُشكِّلون نسبة 40% من السكان، لكن تلك النسبة انخفضت إلى أقل من 10% عام 2015، في حين بلغت نسبة من وصلوا إلى الطبقة المتوسطة قرابة الـ60%.
والبطالة تقلصت
علاوةً على أنَّ العقوبات كانت غير مؤثِّرةٍ تاريخيةٍ بهذا الصدد، ولم يكُن لها تأثيرٌ أيضاً على العمالة، إذ لم تتقلَّب معدلات البطالة الإيرانية وفقاً لفرض العقوبات أو إلغائها بين عامي 2008 و2018. وأظهرت الأرقام الأخيرة أنَّ معدلات البطالة الإيرانية انخفضت بنسبة 1.3% في الفترة بين 21 مارس/آذار وحتى 21 يونيو/حزيران هذا العام، مما يُشير إلى أنَّ العقوبات ما تزال غير مؤثِّرةٍ على العمالة.
لكن الأوضاع أصبحت مُتقلِّبةً بعض الشيء في ظل إدارة حسن روحاني. إذ أصبحت إيران، خلال ذلك الوقت، أقل اعتماداً على مبيعات النفط. مما قلَّل أهمية العقوبات التي استهدفت صادرات النفط.
تخفيف العقوبات بعد الإتفاق النووي أضر بالصناعة
وكان توقيع الاتفاق النووي عام 2015 هو أكبر إنجازات روحاني، إذ خفَّف العقوبات المفروضة على الصادرات الإيرانية، لكنه فتح الباب أمام استيرادٍ أسهل، مما أضرّ بالصناعات الإيرانية.
وازدادت الأمور صعوبةً بسبب سوء إدارة روحاني لأسعار صرف العملة في مارس/آذار عام 2018، الأمر الذي أسفر عن انخفاض قيمة الريال وتقليص قدرة الصناعات الإيرانية على شراء المواد الخام.
وتكمُن مشكلة السياسات الاقتصادية لحكومة روحاني في أنَّها فضَّلت الاستهلاك على حساب الإنتاج، خلال وقت الأزمة.
إذ خصَّصت الإدارة الاحتياطيات الأجنبية النادرة -بنصف سعرها السوقي- لصالح الاستمرار في استيراد السلع الأساسية، بدلاً من تطبيق سياسات أخرى تُحافظ على الاحتياطيات الأجنبية وتدفع عجلة الإنتاج المحلي. ويبدو أنَّ روحاني غيَّر نهجه منذ ذلك الحين.
ولهذه الأسباب يستفيد الاقتصاد من العقوبات
تكمُن أهمية القطاع الصناعي في حقيقة أنَّه يُمثِّل بوابة إيران للخروج من حالة الركود.
إذ خطا قطاع التكنولوجيا الإيراني خطوات عظيمة في غياب المنافسة، حيث ازدهرت الشركات الناشئة في ظل العقوبات.
وقد شدَّد آية الله علي الخامنئي، المرشد الأعلى للثورة الإسلامية، في الواقع طوال السنوات الثماني الأخيرة على حل المسائل الاقتصادية من خلال ما وصفه بـ"اقتصاد المقاومة"، وأولى اهتماماً خاصاً في السنوات الثلاث الأخيرة على دعم الصناعات والإنتاج والبضائع المحلية.
وتعلَّمت إيران من خلال "اقتصاد المقاومة" كيفية تحويل التهديدات (مثل العقوبات والعزلة الاقتصادية) إلى فرص. ويتجلَّى خير مثالٍ على ذلك في التعزيز الأخير للريال الإيراني، رغم القيود الإضافية التي فرضتها الولايات المتحدة في أعقاب إسقاط طائرةٍ أمريكية بدون طيار داخل الخليج.
وحدث كل ذلك بفضل السياسات الاقتصادية السليمة التي اعتمدها البنك المركزي الإيراني مؤخراً.
حتى أنهم أسقطوا الطائرة الأمريكية بصاروخ إيراني الصنع
وأسفر "اقتصاد المقاومة" المُتنامي عن منتجات كثيرة. فمن ناحية، أُسقطت طائرة "غلوبال هوك" بواسطة صواريخ سام من منظومة "رعد"، وهي منظومةٌ محلية الصنع وقائمةٌ في الأساس على منظومة صواريخ "بوك" الروسية. وقدَّمت وزارة الدفاع الإيرانية طائرتها المقاتلة "كوثر" العام الماضي، وهي قائمةٌ في الأساس على تصميم مقاتلات F-5 الأمريكية ويجري تصنيعها بالكامل محلياً.
وهناك أمثلةٌ أخرى على تطوُّر الإنتاج المحلي رغم كثرة المصاعب والعقوبات. فمن أجل مساعد الضحايا الذين ما يزالون يُعانون بسبب الفيضانات التي ضربت إيران في مارس/آذار عام 2019، أصدرت "لجنة تنفيذ أمر الإمام" طلباً بالحصول على 10 آلاف ثلاجة من علامةٍ تُجارية كانت صلاحيتها قد انتهت آنذاك، مما أعاد إحياء العلامة التجارية ومصنعها وخطوط إنتاجها، ووفَّر فرص عملٍ لمئات الأشخاص، وزوَّد ضحايا الفيضان بالمساعدات المادية.
فضلاً عن التأمين على 14 ألف منزلٍ ريفي في محافظة خوزستان قبل أن يضربها الفيضان، مما زوَّد الأسر المنكوبة بأدوات جديدة لمنازلهم، إلى جانب استبدال ما يقرب من نصف ماشية المحافظة حتى لا ينتهي المطاف بالناس إلى البطالة. وهذا مثالٌ على كيفية إعادة إحياء الإيرانيين لصناعاتهم، وتأمينهم لمصالحهم في الأوقات العصيبة.
الحصار يعزز الهندسة العكسية
وقبل بضعة أشهر، أعلن طلاب جامعة أمير كبير أنهم بصدد إجراء هندسةٍ عكسية على آلات حفر الأنفاق التي يمتلكونها حتى يتمكَّنوا من تصنيعها محلياً، نظراً لأن العقوبات جعلت من المستحيل استيراد آلات حفر أنفاقٍ جديدة.
لكن المثال الآخر يشمل الأدوية، التي أصبح من الصعب للغاية استيرادها -رغم عدم كونها خاضعةً للعقوبات رسمياً. إذ دفع ذلك بالشركات الإيرانية إلى البدء في إنتاج العقاقير، التي يصعب الحصول عليها أو استيرادها، محلياً. وخير دليلٍ على ذلك هو بنزيل بنسيلين، الذي تُعَدُّ إيران هي المُصنِّع الوحيد له في الشرق الأوسط. وفي السياق نفسه، افتُتِحَت المدينة الصناعية التابعة لـ"مجموعة بركة الدوائية" العام الماضي، لتُوفِّر فرص عملٍ مباشرة لقرابة السبعة آلاف فرد، وفرص عملٍ غير مُباشرة لقرابة 30 آلف آخرين، وذلك في خضم الجهود الرامية إلى تصنيع العقاقير التي يصعب الحصول عليها للجمهور الإيراني.
نعم، المشهد ليس ورديا
ليس المقصود هنا بالطبع أن نقول إنَّ إيران لم تشهد تغييراً منذ تجديد العقوبات. إذ لا تتمتَّع إيران في الوقت الحالي بالاكتفاء الذاتي على كافة الأصعدة، فضلاً عن أنَّ اقتصادها ما يزال مُعتمداً على مبيعات النفط (وإن لم يكن بالقدر نفسه الذي كان موجوداً في ظل الإدارات السابقة). ويُمكن ملاحظة تأثير العقوبات في تراجع الناتج المحلي الإجمالي الإيراني بعد تجديدها.
إذ فرضت العقوبات الكثير من الصعوبات على إيران، في ما يتعلَّق باستيراد التقنية اللازمة، إلى جانب غيرها من المنتجات الأساسية.
وقارن روحاني بين تأثير العقوبات من جهة، والمصاعب التي خلقتها حرب الثماني سنوات الإيرانية-العراقية في الثمانينيات.
ولكنهم نجحوا في تحييد أثر بعض العقوبات
لكن في الوقت ذاته، من الضروري الإشارة إلى أنَّ إيران تنجح في تحييد بعض العقوبات التي تُؤثِّر على صادراتها (رغم أن حجم ذلك التحييد ما يزال محل نقاش، لأن تلك الصفقات سريةٌ بطبيعتها).
ولا مفر أمام إيران الآن من تعزيز صناعاتها ومواهبها المحلية، في محاولةٍ لتقويض العقوبات.
ويبدو أن هذا هو المسار الذي اختارت أن تسلكه، كما يتبيَّن من تصريحات عددٍ من الشخصيات البارزة.
ويخططون للاستغناء عن النفط
ومع تقليل الاعتماد على مبيعات النفط (إذ تُخطِّط إيران لإلغاء اعتمادها على النفط تماماً)، وزيادة الاعتماد على الإنتاج المحلي (مما يُوفِّر المزيد من فرص العمل)؛ ستُحقِّق إيران نتائج أفضل على مدار السنوات المقبلة.
وإذا كانت تصريحات خامنئي وإنجازات الصناعة المحلية تكشف عن شيء، فهي تدُلُّ على أنَّ إيران أصبحت تدريجياً أكثر اعتماداً على نفسها بفضل سنوات العقوبات.
ورغم المصاعب الحالية، فإنَّ نظام العقوبات الحالي يمنح إيران فرصة متجددة لتسريع هذا الاتجاه.
ومع تصاعد التوترات في الخليج، واستهلاك ترامب لكافة خياراته -باستثناء الحرب- دون تحقيق نتائجه المرجوة؛ سيتعيَّن علينا أن ننتظر لنرى كيف ستسير الأمور.