توفِّي الباجي قايد السبسي، أول رئيس منتخب ديمقراطياً لتونس، أمس الخميس 25 يوليو/تموز 2019، عن عُمر ناهز الـ92، وتقرر أن يحل محله محمد الناصر، 85 عاماً، كرئيس مؤقت للبلاد وفقاً للدستور. كان من المعروف أن صحة السبسي متدهورةٌ للغاية؛ إذ نادراً ما كان يظهر للعلن بعد خروجه من المستشفى في يونيو/حزيران الماضي، وقد ظهر في مقطع فيديو نشره مكتبه في 22 يوليو/تموز الماضي وقد بدت عليه علامات الشحوب أثناء لقائه وزير الدفاع، وهو أمرٌ كان غير مطمئن للمراقبين المشغولين على مستقبل البلاد.
وقد سبق أن انتشرت شائعات على نطاق واسع عن صحة السبسي المتدهورة عقب إدخاله إلى المستشفى للمرة الثانية في الفترة التي شهدت تفجيرات انتحارية في تونس في 27 يونيو/حزيران، وانتشرت تقارير تتحدث عن وفاته انتشار النار في الهشيم على مواقع التواصل الاجتماعي. أما اليوم، ومع وفاته، يمكننا القول إن الرجل ترك وراه تركة مختلطة.
تركة كبيرة مختلطة.. سلبية وإيجابية
من ناحية، سيُذكر للرجل أنه حمى المؤسسات الديمقراطية للبلاد في فترة شهدت صعوبات اقتصادية بالغة وشهدت كذلك وقوع العديد من الهجمات الإرهابية. كما كان السبسي أيضاً مدافعاً شرساً عن حقوق المرأة. أما الأمور التي سيذكره بها الشعب على نحو غير مستحب، فهي محاولاته المستميتة التي تكللت بالنجاح أخيراً لتمرير تشريع يمنح الحصانة لرموز نظام بن علي، وكذلك تهميشه للجنة الحقيقة والكرامة التونسية، كما يقول موقع Al-Monitor الأمريكي.
بالنسبة للكثيرين، بدأ تنحي السبسي عن الواجهة في عالم السياسة قبل فترة طويلة من تدهور حالته الصحية. وصل السبسي إلى منصب الرئيس وهو في عمر 88، وهو ما حدا بالكثيرين إلى التشكيك في أنه حتى سيكمل فترته الرئاسية الأولى علاوةً على ذلك، فإن حزب نداء تونس الذي أسسه السبسي شهد حالات انقسام لينهار في آخر المطاف، ليدخل السبسي في سلسلة من المعارك السياسية الطويلة مع رئيس وزرائه يوسف الشاهد وزعيم حركة النهضة الإسلامية المعتمدة راشد الغنوشي.
ثمة حالة من التشكك أيضاً حول صحة الناصر، إذ أفادت التقارير في يونيو/حزيران الماضي بأنه أدخل إلى مستشفى خاص لمدة خمسة أيام. لهذا السبب، ولأن التفويض الذي يتمتع به الناصر يستمر لمدة 90 يوماً فقط، فإن مسؤولياته الأساسية محدودة في عقد الانتخابات الرئاسية التي كانت مقررة في 17 نوفمبر/تشرين الثاني، قبل انتهاء منصبه في 23 أكتوبر/تشرين. وأعلنت اللجنة العليا للانتخابات موعد انعقاد الانتخابات الرئاسية في 15 سبتمبر/أيلول.
مطبات تشريعية وقانونية
ما يمكن أن يكون محل خلاف المستقبل هو مستقبل قانون مثير للجدل يحد من شرعية بعض من أعلنوا عن نيتهم الترشح للرئاسة. لم يقدم السبسي قبل وفاته على توقيع القانون ولا على إعادته للبرلمان لتعديله. وبموجب القانون الجديد، يتم استثناء عدد من المرشحين الحاليين، بينهم نبيل قروي، مدير قناة نسمة والمرشح صاحب الحظ الأوفر.
ورغم أن القانون محل نظر منذ فترة طويلة، فإنه بعد استطلاع للرأي أجري في يونيو/حزيران الماضي وأظهر تصدراً قوياً، متقدماً بأربعة مراكز على رئيس الوزراء يوسف الشاهد، بدأت الخطى تسير بشكل أكثر جدية لتمرير القانون، ولم يلبث البرلمان أن مرره ورفعه إلى الرئيس للتصديق عليه. وفي 20 يونيو/حزيران، أكد المستشار السياسي للرئيس السبسي نور الدين بن تيشة أن السبسي رفض التوقيع على القانون، مؤكداً أنه سيقدم تفسيراً لهذا الأمر قريباً. غير أن وفاة السبسي حالت دون وقوعه.
غياب المحكمة الدستورية
ولا يزال من غير الواضح ما إذا كان لدى محمد الناصر ما يلزم من السلطة الدستورية والثقة السياسية للتصديق على قانون مثير للانقسام كهذا القانون. وما يزيد من تعقيد الموقف هو غياب المحكمة الدستورية في البلاد، وهي محكمة موجودة بالاسم فقط بسبب السنوات الأربع من التناحر البرلماني منذ التصويت على الدستور الذي ستعمل بموجبه المحكمة.
وفي هذا الصدد قال المحلل السياسي يوسف شريف لموقع Al-Monitor: "أشك أن الناصر سيوقع على القانون. إذ إنه دوره يقتصر على تسيير أمور البلاد، لذا فأنا غير واثق مما إذا كان بوسعه أن يفعل ذلك. وأياً ما كان اختياره، فسيواجه انتقادات عنيفة. وفي ظل غياب المحكمة الدستورية، أظن أننا سنشهد عقد الانتخابات وفقاً لقوانين الترشح القديمة" . وهو ما يعني فوز نبيل قروي، أحد خصوم الشاهد وأحد كبار منتقديه.
سلاسة انتقال السلطة
لا يزال من غير الواضح كيف ستنظر الأجيال القادمة للرئيس الراحل الباجي قايد السبسي. ولكن بكل تأكيد لن ينسى التونسيون أن السبسي كان سياسياً مخضرماً، أكسبته مسيرته السياسية الطويلة الكثير من الخبرة والتجربة. وكان ينظر له مَن عملوا بجانبه كسياسي يمتاز بـ "الذكاء السياسي الحاد والبراغماتية الاستثنائية" .
ولا يُنسى للرجل أنه عبر بالبلاد مرحلة لم يسبق لها مثيل من حيث الهجمات الإرهابية التي استهدفتها دون أن يضحي بالمثل الديمقراطية التي قامت عليها ثورة البلاد عام 2011. ربما الحكم النهائي على فترة حكمه سيكون لمدى سلاسة انتقال السلطة إلى الرئيس الجديد، دون اعتراض أو شكوى.