إسقاط طائراتٍ بلا طيار، وهجماتٍ على ناقلات نفط، وغير ذلك من الأحداث التي وقعت بمنطقة الخليج، لا تُخفي الحقيقة المؤلمة أن العراق يمكن أن يكون ساحة النزاع الأكثر عنفاً بين أمريكا وإيران، وليس الخليج أو اليمن.
فرغم أن التوترات في الخليج بين الولايات المتحدة وإيران تثير مخاوف من اندلاع حربٍ حول مضيق هرمز شديد الأهمية لمرور النفط، فإن أي صراع بين الخَصمين قد يبدأ في الواقع في البلد الوحيد الذي توجد فيه قواتٌ تابعة لكلٍّ منهما على الأرض؛ العراق، بحسب ما ورد في تقرير لوكالة Bloomberg الأمريكية.
فبعد حربين مع أمريكا منذ عام 1990، وصراعٍ أهلي وحشي، وصعود تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) في الآونة الأخيرة، يتركز حوالي 5200 جندي أمريكي في العراق، وسط الآلاف من مقاتلي الميليشيات الشيعية التي تحظى بدعمٍ إيراني، والتي يسيطر عليها مسؤولون عراقيون متعاطفون مع طهران.
المسؤولون العراقيون يحاولون الموازنة بين الأمريكيين والإيرانيين
وهذا الواقع المعقَّد يترك المسؤولين العراقيين في وضعٍ صعب يحاولون فيه الموازنة بين العلاقات الأمنية مع الولايات المتحدة وعلاقاتهم السياسية والدينية مع إيران، وفقاً لما ذكره علي فايز، مدير مشروع إيران في المجموعة الدولية للأزمات.
إذ قال فايز في مقابلةٍ عبر الهاتف من واشنطن: "لا يمكن للحكومة العراقية أن تتحمَّل أن تُغضب أيّاً من الطرفين منها. وهذا بالضبط هو السبب الذي يجعلها تجد نفسها الآن في مأزقٍ بين خيارين صعبين".
وصحيحٌ أنَّه لم يندلع حتى الآن نزاعٌ مباشر، ومن المستبعد أن تنشب حربٌ مفتوحة؛ نظراً إلى امتلاك أمريكا قوةً نارية أكبر، لكننا الآن في فترة هدوء غير مستقر.
إذ سحبت الولايات المتحدة موظفيها غير الأساسيين من سفارتها في بغداد -التي تضم أكبر بعثاتها الدبلوماسية وأكثرها تكلفةً في العالم- وأغلقت قنصليتها في البصرة في أواخر العام الماضي 2018، وسط قلق المسؤولين الأمريكيين من أنَّ إيران تقوّض السلطة المركزية في العراق، ونفوذ واشنطن هناك. وما زالت القنصلية مغلقةً حتى الآن.
وكذلك أجلَت شركة إكسون موبيل الأمريكية موظفيها الأجانب مؤقتاً من منشأة تابعة لها بالقرب من حقل (غرب القرنة 1) النفطي في البصرة جنوبي العراق، بعد وقوع هجوم صاروخي قريب. وفي الشهر الماضي يونيو/حزيران، ضربت بعض الصواريخ مجمعاً رسمياً في مدينة الموصل بشمالي العراق، ومعسكر التاجي العسكري الذي يقع بالقرب من بغداد، وكلاهما يضم مستشارين عسكريين أمريكيين، وفقاً لتقارير صحفية محلية.
الميليشيات الشيعية تتآمر ضد المصالح الأمريكية
ومن جانبها، قالت جوان بولاشيك، القائمة بأعمال نائب مساعد وزير الخارجية الأمريكي لشؤون الشرق الأدنى في جلسة استماع أمام مجلس الشيوخ، في الأسبوع الماضي، إنَّ بعض الميليشيات "المارقة" المدعومة من إيران "تتآمر ضد المصالح الأمريكية، وتخطط لعمليات يمكن أن تقتل أمريكيين وعراقيين وأفراداً من شركاء أمريكا في التحالف".
وقالت إنَّ هذه الجماعات تراقب المنشآت الدبلوماسية الأمريكية و "تواصل شنَّ هجماتٍ مسلحة غير مباشرة".
وفي الجلسة نفسها، قال مايكل مولروي، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، إنَّ "التدخل الإيراني الأناني" يقوض المصالح العراقية و "يهدد" الاستقرار.
وقال مولروي: "شغلنا الشاغل هو مدى تقويض الميليشيات غير التابعة للحكومة العراقية، والأكثر ولاءً لطهران من بغداد، لسلطة رئيس الوزراء العراقي الشرعية، واستغلالها المواطنين العراقيين العاديين، وزعزعتها لاستقرار المجتمعات الهشة التي تحرَّرت مؤخراً من سيطرة تنظيم داعش".
وكذلك برز نفوذ إيران في العراق يوم الإثنين الماضي 22 يوليو/تموز، حين التقى رئيس الوزراء العراقي عادل عبدالمهدي بالرئيس الإيراني حسن روحاني في طهران، وناقش سبل نزع فتيل الأزمة الجارية في المنطقة.
وفي أحدث العلامات على تصاعد الموقف بشدة، قالت إيران إنَّها ستعدم مجموعة من الجواسيس التي تزعم أنَّهم مدربون على أيدي وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، بينما ما زالت طهران ولندن عالقتين في طريقٍ مسدود بشأن ناقلتي نفط محتجزتين.
الموالون لطهران ليسوا الميليشيات فقط، الأمر يمتد للحكومة والجيش
ومن جانبه قال رائد فهمي، وهو نائب برلماني عراقي ينتمي إلى تحالف سائرون، الذي يحظى بدعم الزعيم الشيعي مقتدى الصدر، إنَّ الحكومة العراقية العالقة في المنتصف "تحاول السيطرة على الوضع"، بسعيها إلى أن تكون "عاملاً مُهدِّئاً" في المنطقة.
وأضاف: "إذا تصاعد الموقف ووصل إلى الاشتباكات المسلحة، فسيسفر ذلك عن عواقب. ويُمكن أن يصبح العراق جزءاً من النزاع، لأنَّ هناك أحزاباً سياسية تعتبر هذا (النزاع) معركةً بينها وبين الولايات المتحدة".
وقال كامران بخاري، المدير المؤسس لمركز السياسة العالمية، وباحث غير مقيم في مركز Arabia Foundation: "هناك أجزاء كبيرة من المؤسسة المدنية والعسكرية في العراق، وليست الميليشيات فقط، ترتبط ارتباطاً وثيقاً بإيران؛ لذا فنفوذ إيران في العراق أكبر بكثير من نفوذ الولايات المتحدة هناك".
فقادة إيران يتباهون بأنهم يزورون العراق علناً بينما ترامب لم يلتق أحداً
وجديرٌ بالذكر أنَّ المسؤولين الإيرانيين يتغنَّون باستمرار بسهولة تواصلهم مع كبار المسؤولين العراقيين، وكذلك قدرتهم على السفر إلى البلاد علانية، على العكس تماماً من وضع الدبلوماسيين الأمريكيين ومسؤولي الإدارة الأمريكية، الذين عادةً ما يبقون متخفين عن الأنظار هناك.
فحين زار روحاني العراق، في مارس/آذار الماضي، التقى مع آية الله العظمى علي السيستاني، الذي يعد رجل الدين الشيعي الأكثر نيلاً للاحترام في البلاد.
أمَّا الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، الذي أغضب النواب البرلمانيين العراقيين في وقتٍ سابق من العام الجاري بقوله إنَّ وجود القوات الأمريكية في العراق ضروري لمراقبة "إيران"، فقد زار القوات الأمريكية المتركزة شمال غربي العاصمة العراقية بغداد في ديسمبر/كانون الأول، لكنَّه لم يلتق أي مسؤولين عراقيين كبار.
وبالنسبة لإيران، يُمثِّل العراق حلقة استراتيجية في سياستها الإقليمية التي تضعها في تنافسٍ مع حلفاء الولايات المتحدة الأمريكية، بما في ذلك المملكة العربية السعودية والإمارات العربية المتحدة. إذ يدعم الإيرانيون الرئيس السوري بشار الأسد، والمتمردين الحوثيين الشيعة في اليمن في حروبٍ إقليمية بالوكالة.
ولكن في مناسباتٍ نادرة، تتلاقى المصالح الأمريكية والإيرانية في العراق، كما حدث حين حاربت قواتٌ من كلا الجانبين على حدة لطرد تنظيم داعش من البلاد، بعدما حصل على موطئ قدم فيها منذ حوالي خمس سنوات.
"زوجات فارسيات".. نفوذ إيران في العراق بدأ بناؤه في عهد صدام حسين
تعود قدرة إيران على التأثير في السياسة العراقية إلى عهد الرئيس العراقي الراحل صدام حسين الذي كان سُنِّياً. إذ فرَّ الكثيرون من الأغلبية الشيعية في العراق عبر الحدود إلى إيران، هرباً من السجن والإعدام والتعذيب.
وعلى مرِّ عقود، أقاموا علاقاتٍ وثيقة مع المسؤولين الإيرانيين، وأصبحوا أعضاء في قوات الحرس الثوري الإسلامي الإيراني، وتعلَّموا اللغة الفارسية، وتزوجوا بناتٍ من عائلات إيرانية، وفقاً لما ذكره علي آلفونه، وهو زميل أول في معهد دول الخليج العربي في واشنطن.
وبعدما أطاحت الولايات المتحدة بصدام وحزب البعث الذي كان يتزعمه في عام 2003، عادوا إلى البلاد للانضمام إلى الحكومة العراقية أو دعم الميليشيات الشيعية القوية.
جديرٌ بالذكر أنَّ السلطات العراقية اتخذت قراراً في الشهر الجاري بتقليص قوة الميليشيات التي تدعمها إيران في قوات الحشد الشعبي، عن طريق ضمِّها تحت قيادة الجيش الرسمية، في خطوةٍ اعتُبِرَت إيماءة تودُّد إلى واشنطن. وقد رحب المسؤولون الأمريكيون بهذا القرار، لكن بحذر.
الميليشيات اكتسبت شعبية، ولكنهم الآن يتحولون إلى أنشطة إجرامية
وقال مولروي، نائب مساعد وزير الدفاع الأمريكي لشؤون الشرق الأوسط، إنَّ بعض عناصر الميليشيات "قاتلت بشجاعة ضد تنظيم داعش، ونالت احترام الشعب. ولكن في السنوات الأخيرة، دأبت الميليشيات التي تتمتع بحكم شبه ذاتي والمدعومة من إيران على انتهاك حكومة العراق، ولجأت إلى أنشطةٍ إجرامية محلية لإثراء نفسها".
يُذكَر أنَّ الولايات المتحدة، في عهد ترامب، كثَّفت سياستها المتمثلة في وضع "أقصى ضغط" على إيران،، بعد انسحاب الرئيس الأمريكي من الاتفاق النووي الذي أُبرم في عام 2015، ولا تظهر أي علاماتٍ في الوقت الراهن على أنَّ الولايات المتحدة ستُخفِّف حدة هذه السياسة. فبعد القضاء على تنظيم داعش إلى حدٍّ كبير، تريد الولايات المتحدة خروج إيران من العراق، معتبرةً وجودها مثالاً آخر على تدخل إيران الإقليمي.
ومن جانبه قال شون روبرتسون، المتحدث باسم وزارة الدفاع الأمريكية، في رسالةٍ عبر البريد الإلكتروني: "يجب على إيران احترام سيادة العراق ودول المنطقة الأخرى، والكف عن أنشطة زعزعة الاستقرار في المنطقة، والامتناع عن التصرفات التي تثير التوترات الطائفية أو تُمكِّن المتطرفين".
وذكر فايز، مدير مشروع إيران في المجموعة الدولية للأزمات، أنَّ احتمالية نشوب صراع في العراق -سواءٌ أكان مقصوداً أم لا- يثير قلق المسؤولين الإيرانيين كذلك.
إذ قال: "سألت مسؤولاً إيرانياً رفيع المستوى قبل بضعة أشهر عن أكثر منطقة اندلاع عنف محتملة تثير قلقه من بين هذه المناطق: مضيق هرمز واليمن وهضبة الجولان والعراق ولبنان، فقال العراق".