على عكس ما كان منتظراً، لم يمثل توقيع الفرقاء السودانيين على الإعلان السياسي، الأربعاء الماضي، نهاية لتعقيدات مسار سياسي متأزم منذ عزل عمر البشير من الرئاسة، في 11 أبريل/نيسان الماضي. فالاتفاق الموقع بين المجلس العسكري الانتقالي الحاكم وقوى الحرية والتغيير، قائدة الحراك الاحتجاجي أفضى إلى تباينات عديدة بين مكونات الأخيرة، مما قد يسمح للمجلس العسكري بالاحتفاظ بالحكم منفرداً، بعد انقسامات المعارضة، فهل يحدث ذلك؟
الاتفاق قسم صفوف المعارضة
ماذا حدث: المجلس العسكري وقوى التغيير، وقع كل منهما صباح الأربعاء، بالأحرف الأولى اتفاق "الإعلان السياسي"، بانتظار التفاوض والتوقيع على "الإعلان الدستوري"، بشأن إدارة المرحلة الانتقالية.
إذ لم تسفر المفاوضات عن صدور "الإعلان الدستوري"، على الرغم من أنه كان متوقعاً أن يجري التوقيع على الاتفاق الجمعة الماضي 19 يوليو/تموز 2019.
وتدخل المفاوضات بين المجلس العسكري الانتقالي والمعارضة السودانية مرحلة صعبة، حيث تجاهل الاتفاق السياسي المبدئي لتقاسم السلطة نقاط خلاف جوهرية بين الجانبين. كما ظهرت خلافات داخلية داخل تحالف المعارضة حول شرعية الاتفاق المُوقّع الأسبوع الماضي، مما قد يعوق أي تقدم خلال المرحلة الانتقالية.
الاتفاق السياسي: ينص هذا في أبرز بنوده، على تشكيل مجلس للسيادة (أعلى سلطة بالسودان)، من 11 عضواً؛ 5 عسكريين يختارهم المجلس العسكري، و5 مدنيين تختارهم قوى التغيير، يضاف إليهم شخصية مدنية يتم اختيارها بالتوافق بين الطرفين.
ويترأس أحد الأعضاء العسكريين المجلس لمدة 21 شهراً، بداية من توقيع الاتفاق، تعقبه رئاسة أحد الأعضاء المدنيين لمدة 18 شهراً المتبقية من الفترة الانتقالية (39 شهراً).
وارتفعت وتيرة التباينات بين قوى التغيير إثر نشر نص الإعلان السياسي؛ إذ أعلنت كتلتان سياسيتان من قوى التغيير تحفظهما على الاتفاق، فيما رفضته الفصائل المسلحة.
نقاط الخلاف حول صفقة العسكر والمدنيين
حركات مسلحة تعارض: "الجبهة الثورية"، وهي تضم 3 حركات مسلحة متحالفة مع "تحالف نداء السودان" أحد مكونات قوى التغيير، قالت إن الاتفاق "لم يعالج قضايا الثورة"، و "تجاهل أطرافاً وموضوعات مهمة" .
ويتولى المجلس العسكري الحكم منذ أن عزلت قيادة الجيش البشير من الرئاسة (1989-2019)، تحت وطأة احتجاجات شعبية منددة بتردي الأوضاع الاقتصادية.
وأضافت "الجبهة الثورية"، في بيان، أنها "ليست طرفاً في الإعلان السياسي، الذي وُقّع عليه بالأحرف الأولى، ولن توافق عليه بشكله الراهن" .
وحمل البيان توقيع رئيسي حركتين مسلحتين متمردتين، هما رئيس حركة تحرير السودان/جناح أركو مناوي، وهي تقاتل الحكومة في إقليم دارفور (غرب)، ورئيس الحركة الشعبية/ قطاع الشمال، جناح مالك عقار، وهي تقاتل الحكومة في ولايتي جنوب كردفان (جنوب)، والنيل الأزرق (جنوب شرق). كما تضم الجبهة حركة العدل والمساواة، بزعامة جبريل إبراهيم، الناشطة في دارفور.
يتألف تحالف قوى التغيير من مكونات عديدة، غير أن المكونات الخمسة التي تتفاوض مع المجلس العسكري، هي: "تجمع المهنيين السودانيين"، و "التجمع الاتحادي المعارض"، و "تحالف نداء السودان"، و "قوى الإجماع الوطني"، و "تجمع منظمات المجتمع المدني"، وهي مزيج من الأحزاب اليسارية والليبرالية والوسطية.
نقاط الخلاف: يتلخص الخلاف بعد التوقيع في نقطتين: الأولى هي أن الوفد الذي وقع على الاتفاق لم يكن مفوضاً بذلك. والنقطة الثانية هي أن التوقيع كان خطوة متسرعة.
تكريس السلطة بيد العسكر
أعلن "تحالف قوى الإجماع الوطني"، الجمعة، "تحفظه بشدة على ما جرى من ناحية الشكل والموضوع، وإجرائياً؛ لأنه يرى أن التوقيع جاء بدون اتفاق أو تفويض من الحرية والتغيير للوفد المفاوض أولاً" .
وأضاف التحالف أن "مضمون الوثيقة الكلي يذهب نحو تكريس السلطة بيد المجلس العسكري، بعيداً عن صوت الشارع المطالب بمدنية السلطة" . وتابع أن الاتفاق تحاشى المطلب الشعبي في القصاص العادل للضحايا، عبر تشكيل لجنة تحقيق دولية في الانتهاكات طوال فترة حكم النظام السابق.
وشدد على أنه "من المهم قبل التوقيع على أي وثيقة استصحاب رؤية الموقعين على إعلان الحرية والتغيير واستصحاب مواقف الحركات المسلحة بمختلف مكوناتها" .
تفويض للتوقيع: غير أن ممثل قوى التغيير، الذي وقع على الاتفاق، أحمد الربيع، قال إن أعضاء الوفد فوضوه للتوقيع على الإعلان السياسي نيابة عنهم. وأضاف الربيع، في تصريحات صحفية، الجمعة: "نعم هناك تباينات داخل قوى التغيير، لكن الاتفاق الذي وقعنا عليه سيفضي إلى تهيئة الأوضاع السياسية للوصول إلى حل حول الإعلان الدستوري" .
كما أثار الحزب الشيوعي، أبرز مكونات "تحالف قوى الإجماع الوطني"، مسألة تفويض الوفد المفاوض على التوقيع على الاتفاق.
غير أن مصدراً في قوى التغيير، طلب عدم نشر اسمه، قال للأناضول إن "ممثلين لقوى الإجماع حضروا جلسة التفاوض، التي اختتمت بالتوقيع" . وتابع: "دخل المفاوضون (الجلسة) وسقفهم الأعلى هو تضمين الملاحظات التي قدمتها مكونات الحرية والتغيير في وثيقة الإعلان، وإن تم ذلك يتم إقراره، وهو ما حدث بالفعل" .
3 كتل رافضة: بانضمام "تجمع منظمات المجتمع المدني" إلى كتلة "الإجماع الوطني" في إعلان تحفظات على الوثيقة، بدا للشارع السوداني أن التحالف العريض، الذي قاد الاحتجاجات منذ ديسمبر/كانون الأول الماضي، لا يمضي بشكل متحد. وعزز من تلك الرؤية الانقسامية انضمام "الجبهة الثورية"، التي تضم فصائل مسلحة، إلى المحتجين على توقيع الاتفاق.
وهو ما يعني وجود رفض داخل ثلاث كتل من الكتل الرئيسية الخمس في قوى التغيير، بينما لم تصدر تحفظات عن كل من "تجمع المهنيين السودانيين"، و "التجمع الاتحادي".
هل يكون التباين "عامل قوة"؟
وفقاً للقيادي في "تجمع المهنيين"، محمد الأسباط، فإن "التباين صاحب قوى التغيير منذ بدء الاحتجاجات" . وأضاف: "نعم برزت تلك التباينات بعد التوقيع، لكنها موجودة منذ البداية؛ فقوى التغيير هي تحالف عريض يضم أكثر من 171 مكوناً سياسياً وعسكرياً ومدنياً ومهنياً تؤمن بأيديولوجيات تمتد من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، ومن الطبيعي أن تختلف الرؤى" .
ورأى أن "مثل هذه التباينات لا تشكل شرخاً في بنيان تحالف إعلان الحرية والتغيير، وإنما تشكل أساساً يقوم على التنوع" .
وتابع: "ويمكن أن يكون ذلك التنوع عاملاً من عوامل القوة، وبالفعل هو كذلك، فقد ظل التحالف متماسكاً طوال وجود القبضة الأمنية لنظام البشير خلال الاحتجاجات" .
اجتماعات مستمرة لتدارك الخلاف
لتدارك الخلافات داخل الفصائل المسلحة، قرر تحالف "نداء السودان" إرسال رئيسه الصادق المهدي، ورئيس "نداء السودان" في الداخل، عمر الدقير، إلى العاصمة الإثيوبية أديس أبابا، للتشاور مع فصائل "الجبهة الثورية"، الرافضة للاتفاق.
وقال المتحدث باسم "نداء السودان" في الداخل، خالد بحر، للأناضول: "قررنا إيفاد المهدي والدقير إلى أديس أبابا للتشاور مع الحركات المسلحة حول التوقيع الأخير على الإعلان السياسي، ومناقشة المسودة الأولية للإعلان الدستوري المزمع التفاوض حولها مع المجلس العسكري في الأيام المقبلة" .
فيما قال الأمين العام لحزب المؤتمر، خالد عمر، للأناضول إن "تأجيل جلسة التفاوض مع المجلس العسكري، التي كانت مقررة يوم الجمعة الماضي (إلى أجل غير مسمى)، جاء للمزيد من التشاور مع الحركات المسلحة حول الإعلان الدستوري" .
اجتماعات متواصلة: أعلنت قوى التغيير، الخميس، تقديمها طلباً لتأجيل جلسة مفاوضات الجمعة، مع المجلس العسكري، والمتعلقة بمناقشة الإعلان الدستوري. وتعقد قوى التغيير، منذ الأسبوع الماضي، اجتماعات مع الفصائل المسلحة في أديس أبابا، لكنها لم تحقق تقدماً ملموساً.
وفي تصريح يشير إلى حدة تباين وجهات نظر المسلحين مع القوى السياسية حول التوقيع على الإعلان السياسي، قال رئيس حركة تحرير السودان/ جناح مني أركو مناوي، إن "هناك مسعى لفرض أمر واقع على الآخرين بتجاوز المحطات الرئيسية، وأهمها الاتفاق السياسي، ومن ثم سوقهم كالقطيع (لسلخانة) الإعلان الدستوري"، بحسب تعبيره.
وأضاف، على صفحته بـ "فيسبوك": "أولاً أي إعلان دستوري يُبنى على أساس الاتفاق السياسي، وليس العكس، والتوقيع على الإعلان الدستوري دون العبور على جسر الاتفاق السياسي، هو إلزام وتقييد المُوقّع عليه بالبنود السياسية التي لم يكن طرفًا فيها" .
ووصف توقيع قوى التغيير، وهو جزء منها، على الإعلان السياسي، بأنه "استغفال وإيهام بالتذاكي على الآخرين" . وتابع: "نحن في القرن 21، وعلينا السعي معاً لتفويت الفرصة على هواة السلطة لصالح جياع الحرية، فالتحول الديمقراطي والسلطة الانتقالية يمران عبر خطوط السلام" .
هل يستغل العسكر أزمات المعارضة؟
الفترة الانتقالية: من جهته يرى الكاتب والمحلل السياسي، عباس إبراهيم، أن "ما نشهده الآن هو مؤشر على ملامح الفترة الانتقالية المنتظر دخولها خلال أيام"، مضيفاً: "ما لم يتم تدارك ذلك، وبشكل حقيقي، ستعطي قوى التغيير شركاءهم العسكريين فرصاً للانقضاض على السلطة" .
ورغم إعراب المجلس العسكري مراراً عن اعتزامه تسليم السلطة إلى المدنيين، فإن لدى قوى التغيير مخاوف من احتمال التفاف الجيش على المطالب الشعبية للاحتفاظ بالسلطة، كما حدث في دول عربية أخرى.
وتابع إبراهيم: "لفهم خطورة الانقسام داخل قوى التغيير علينا النظر إلى طبيعة تلك التباينات؛ فنداء السودان وتحالف قوى الإجماع، ورغم مشاركتهما الفاعلة في الاحتجاجات، تغيب عنهما وحدة الهدف تماماً، وهذا ظهر للسطح عقب عزل البشير"، واعتبر أن "التباين الأخطر هو ما يمور تحت سطح نداء السودان، الكتلة المشكلة من حركات مسلحة وأحزاب مدنية" .
تخوفات كبيرة: وأردف إبراهيم: "رغم حيوية هذا التنظيم، قبل إسقاط النظام وتماسكه الظاهري، فإنه يمر الآن بمنعطف خطير بعد ارتفاع صوت المكون العسكري (الجبهة الثورية) واحتجاجه على المسار السياسي مع المجلس العسكري" .
واستطرد: "البعض يعتبرون أن موقف الجبهة الثورية تكتيكي في رفض الاتفاق، لكن في حال فشلت مساعي المهدي والدقير في التوصل إلى توافق يرضي الجبهة الثورية، فإن هزات ذلك الخلاف ستهدد مستقبل ما حققته قوى التغيير من نتائج مع المجلس العسكري"، وشدد إبراهيم على أن ذلك سيمثل "ضربة لقوى التغيير، التي تشكل إطاراً فكرياً التف حوله ملايين السودانيين" .