"ساعة الصفر لاقتحام طرابلس قد بدأت".. بهذه الكلمات روَّجت وسائل الإعلام وصفحات التواصل الاجتماعي الموالية للجنرال الليبي المتقاعد خليفة حفتر لقرب دخوله لطرابلس، ولكن تكرر إخفاق حفتر في حسم المعركة.
فقد أحبطت قوات حكومة الوفاق الليبية المعترف بها دولياً هجوماً كبيراً لقوات خليفة حفتر، جنوب العاصمة طرابلس، مما أسفر عن عشرات القتلى والجرحى في صفوف الجانبين، وفقاً لما أفاد به متحدث باسم قواتها.
وشهدت محاور القتال جنوبي العاصمة في عين زارة والخلة ووادي الربيع هدوءاً نسبياً، الثلاثاء 23 يوليو/تموز 2019، بعد يوم من الاشتباكات والقصف الجوي المتبادل بين قوات حكومة الوفاق وقوات حفتر.
وأفادت قناة الجزيرة أن الاشتباكات خلَّفت مقتل 19 شخصاً وإصابة أكثر من ثلاثين آخرين من قوات حفتر، في حين قتل سبعة وأصيب 24 آخرون من قوات حكومة الوفاق.
وقال المتحدث باسم عملية "بركان الغضب" مصطفى المجعي، في تصريح لوكالة الأنباء الفرنسية "قواتنا تمكنت اليوم من صدِّ هجوم كبير لقوات حفتر من عدة محاور جنوب طرابلس، بعدما خططوا له منذ أيام وحددوا له ساعة صفر، وقاموا بالتحشيد العسكري، لكنهم فشلوا بشكل كبير ومحبط".
من جهتها، أكدت شعبة "الإعلام الحربي" التابعة لقوات حفتر أنها أحرزت تقدماً في محاور القتال جنوب طرابلس.
وأشارت في تدوينة عبر صفحتها الرسمية على فيسبوك، إلى أن "الوحدات العسكرية تتقدم بخطى ثابتة في جميع محاور العاصمة، وتسيطر على مواقع وتمركزات جديدة، وكبَّدت العدو خسائر كبيرة".
سكة الجنرال المسدودة التي لا يحاسبه عليها أحد
لم تكن هذه أول مرة يعلن فيها عن أن الحسم بات وشيكاً، فمعركة طرابلس عندما انطلقت روَّج حفتر وأنصاره بأنها ستستغرق فترة قصيرة، ينهي فيها الجنرال المتقاعد الانقسام الليبي، ويدخل طرابلس يحمل أكاليل الغار.
ومرَّت نحو أربعة أشهر على هذا الوعد ولم يتحقق.
إذ تُواصل قوات حفتر منذ الرابع من أبريل/نيسان، هجوماً للسيطرة على طرابلس، حيث مقرّ حكومة الوفاق، مما تسبّب بسقوط 1093 قتيلاً، وإصابة 5762، بينهم مدنيون. في حين تخطَّى عددُ النازحين مئة ألف شخص، بحسب وكالات أممية.
ولكن رغم إخفاق كل هذه الوعود، لا يبدو أنَّ موقف مؤيدي حفتر ولا أنصاره الخارجييين يتغيير.
بل يواصلون دعم الجنرال، التي كلفت مغامراته البلاد آلاف الضحايا ومليارات الدولارات، والأهم أنها أضاعت أقرب مرة اقترب فيها الليبيون من تحقيق السلام.
إذ يتجاهل مؤيديو حفتر أن الجنرال بدأ غزوة طرابلس في وقت كان فيه الأمين العام للأمم المتحدة يزور المدينة، من أجل وضع اللمسات الأخيرة على انطلاق مسيرة السلام، التي وافق عليها حفتر.
ولكن الجنرال المتقاعد أراد على ما يبدو هو وداعموه الخارجيون استغلال الاسترخاء الناتج من إطلاق عملية السلام، للقيام بغزوة مفاجئة للعاصمة الليبية دون اعتبار لكل التفاهم والاتفاقات التي أبرمها.
خسائر غزوة طرابلس أكثر من الدماء والأرواح
ولكن ضحايا غزوة طرابلس لا يقتصرون على القتلى والجرحى أو عملية السلام، رغم فداحة هذه الخسائر، إذ إن أبرز ضحية لهذه الغزوة هي الوحدة الوطنية الليبية ذاتها.
فالتحريض الهائل ضد حكومة التوافق ومؤيديها والقوات التابعة لها والميليشيات التي تتحالف معها، والمدن التي تدعمها جعل كل هؤلاء يحاربون بشراسة، ليس للدفاع عن سلطاتهم ولا حكومة التوافق فقط، بل دفاعاً عن وجودهم ذاته، في ظل تحريض مزق الوحدة الوطنية الليبية بشكل غير مسبوق.
فقد وصل التحريض إلى الادعاء أن قوات حفتر تريد نشر الدين الصحيح في طرابلس، بعد وصف سكانها بالخوارج.
ولقد أفتى العديد من شيوخ التيار المدخلي في ليبيا وخارجها لقوات حفتر بجهاد مَن يصفونهم بالخوارج في العاصمة، وظهر بعض هؤلاء الشيوخ برفقة القوات المهاجمة لطرابلس.
وفي وسائل الإعلام الموالية لحفتر، تتواتر مواقف لا تقل خطورة عن تكفير أهل طرابلس واستحلال دمائهم، حيث تبث منابر إعلامية خطابات تنطوي على تحريض صريح على القتل.
وسبق أن ظهر الإعلامي محمد مطلل على قناة مؤيدة لحفتر وهو يتوعد سكان طرابلس بـ "الطوفان العظيم"، ويدعوهم لتخزين الدقيق في منازلهم، لأن ساعة الصفر لدخول طرابلس قد دقت بعد 100 يوم من "حرب استنزاف"، في حين أن كل ساعات الصفر التي تم تحديدها سابقاً لاجتياح طرابلس لم تَصْدُق.
وكان حفتر نفسه أطلق العنان لاستخدام الشعارات الدينية غطاءً لحرب يأمل أن تسفر عن بسط سيطرته على كل ليبيا بقوة السلاح.
فحين أعلن في الرابع من أبريل/نيسان الماضي، عن بدء الهجوم على طرابلس، أطلق عليه "الفتح المبين"، واستخدم عبارات ترمز إلى فتح مكة مثل "من لزم بيته فهو آمن"، كما وصف القائمين على السلطة في العاصمة طرابلس بالظالمين.
واللافت أنه تكرر الحديث عن ساعة الصفر، فقد تكرر إخفاق حفتر في حسم المعركة رغم تفوقه العسكري، ولاسيما الجوي وضخامة الدعم الذي يحصل عليه من داعميه الخارجيين.
إضافة إلى قوة دعاية أنصاره الذين تدعمهم المنابر الإعلامية المصرية والإماراتية والسعودية.
لماذا أخفق الجنرال في تحقيق الانتصار ووقف على أعتاب طرابلس؟
يبرر مؤيدوه هذا الفشل باحتماء قوات حكومة الوفاق بالمدنيين.
في المقابل فإن قوات حفتر لم تستثن المدنيين من هجماتها، بما في ذلك مستشفيات وملاجئ للاجئين.
تضافرت أمور عديدة لإفشال هجوم الجنرال المتقاعد، منها صعوبة حروب المدن، على جيشه، وأنه يحارب المقاتلين داخل أحيائهم وقراهم، وأن القوات التابعة لحكومة التوافق الوطني تضم خيرة الثوار الذين أسقطوا القذافي، وبالتالي يتسمون بالبأس والشجاعة مثل قوات مصراتة.
ولكن الأهم أن التحريض على مؤيدي حكومة الوفاق وحَّد أنصارَها، بل وجذب المترددين في المناطق التي تسيطر عليها، بعد أن استفزتهم طريقة حفتر وأنصاره.
فعلى سبيل المثال، كانت بعض القيادات "السلفية" في طرابلس مع فكرة الانضمام لحفتر، بدخوله بشكل سلمي إلى طرابلس ضمن الترتيبات الأمنية التي أقرتها الأمم المتحدة.
لكن لا أحد من المؤيدين لحفتر بين هذه القيادات من مصلحته تأييده الآن، لأن حماية طرابلس وتجنيبها الحرب يبقى القاسم المشترك بين جميع تلك القيادات، التي رفض بعضها بشكل صريح محاولة حفتر الدخول بقوة السلاح.
ولكن السؤال الذي لا يُطرح من قبل أنصار حفتر، أليس سبب الإخفاق هو قدرات الجنرال العسكرية نفسها، أم أن هذه مسألة خارج البحث.
من يحاسب حفتر على إخفاقاته؟
إلى متى يتحمل مؤيدو حفتر إخفاقاته في تنفيذ وعوده، وألا يمكن أن يحاسب مجلس النواب الليبي القابع في طبرق (والذي فشل في الانعقاد) حفتر، أم أن حفتر يسير على منوال كل المستبدين العرب بأنه فوق المساءلة حتى لو استمرت حروبهم سنوات دون نتيجة.
ألا يفترض أن مجلس النواب قد عيّنه قائداً للجيش الليبي، وأنه قادر على عزله.
وأفادت تقارير إعلامية أن نواباً ليبيين بدأوا تحركات مناوئة لحفتر داخل مجلس النواب، تهدف إلى عزله وسط انقسامات في أوساط مؤيدي الجنرال داخل البرلمان.
واستند حفتر منذ البداية إلى تأييد مجلس النواب له، ولكن دعم أعضاء هذا المجلس له يتآكل باطراد.
فعندما أطلق حفتر عملية "الكرامة" في 2014، حظي بدعم غالبية أعضاء مجلس النواب، المقدر عددهم بـ188 نائباً، رغم مقاطعة نحو 25 منهم لاجتماعاته في طبرق.
لكن بعد هجومه على طرابلس خسر دعم معظمهم، بعد أن وقّع 100 نائب في 11 أبريل/نيسان الماضي، على بيان مشترك أعلنوا فيه استنكارهم لهجوم حفتر في الرابع من نفس الشهر، على طرابلس.
وجاء بيان الـ100 نائب للتبرؤ من إعلان رئيس مجلس النواب عقيلة صالح، باسم البرلمان، دعمه لهجوم حفتر على طرابلس.
ورغم أن جناح عقيلة صالح لم يعلن عدد النواب الذين أيدوا هجوم حفتر على طرابلس خلال اجتماعهم بطبرق، إلا أن وسائل إعلام محلية تتحدث عن نحو 30 نائباً فقط، ما يعني أن اللواء المتقاعد فقدَ تأييد نحو 130 نائباً.
لكن الخطوة الأكثر أهمية، محاولة الإطاحة بعقيلة صالح، حليف حفتر، من رئاسة البرلمان
إذ انتخب النواب المجتمعون في طرابلس، في 5 مايو/أيار الماضي، الصادق الكحيلي، رئيساً جديداً لمجلس النواب، لمدة 45 يوماً، نظراً لاتهامهم لعقيلة صالح بأن مواقفه لا تعكس موقف غالبية النواب.
مجلس النواب الجديد في طرابلس لم يكتفِ بإدانة هجوم اللواء المتقاعد، والإطاحة بصالح، بل صعّد أكثر عندما صوّت بالإجماع على إلغاء منصب القائد الأعلى للجيش، الذي يتولاه حفتر منذ أربع سنوات، ما ينزع منه أي صفة شرعية، ويجعل منه ضابطاً "متمرداً".
غير أن هذا القرار استفز قوات حفتر ما دفعها لقصف مقر اجتماع برلمان طرابلس، في 24 مايو/أيار الماضي.
البعض يريده جنرالاً على الطريقة التقليدية العربية
وقد جرى عقد اجتماع في مصر مؤخراً لعدد من النواب الليبيين في مسعى لتوحيد مجلس النواب الليبي.
وأفادت تقارير إعلامية بأن اجتماع القاهرة ضم نواباً ليبيين مؤيدين ورافضين لعملية جيش حفتر لاقتحام طرابلس.
لكن اللافت أن المسعى لم يخرج بنتيجة معينة.
ويشير هذا كله إلى أنه رغم الانقسام والاستقطاب، فإن هناك من يريد داخل المجلس محاسبة حفتر، ولكن رئيس المجلس وداعمي حفتر في الخارج والداخل يريدون أن يجعلوا منه نسخة جديدة للجنرالات العرب الذين لا يحاسبون مهما هزموا في الحروب.
رغم أن حفتر تمرد على القذافي بسبب إخفاقه العسكري
المفارقة أن حفتر نفسه ظهر اسمه على الساحة الليبية عندما رفض توريط القذافي للجيش الليبي في حرب تشاد.
إذ أُسر حفتر عام 1987، عندما كان ضابطاً بالجيش الليبي أثناء الحرب ضد تشاد، وذلك بعدما نصبت القوات التشاديّة فخاً أوقعته به.
وتبرّأ القذافي من حفتر وسجناء الحرب الليبيين الآخرين، وَربما تصرّف معمر بهذه الطريقة لأنه كان قد وقّع في وقتٍ سابقٍ اتفاقاً لسحب جميع القوات الليبية من تشاد، وأن عمليات حفتر كانت تُمثل انتهاكاً لذاك الاتفاق.
وتداولت وسائل إعلام أخرى سبباً ثانياً لتخلي القذافي عن حفتر، وهو احتمال عودة هذا الأخير إلى ليبيا كبطلٍ وطنيّ، وبالتالي تشكيل تهديدٍ مباشر أو غير مباشر لحكم القذافي نفسه.
أثناء احتجازه شكّل حفتر هو وزملاؤه مجموعة ضباط على أملِ الإطاحة بالقذافي فيما بعد.
وأُطلق سراح حفتر في عام 1990، وذلك بعد صفقة مع حكومة الولايات المتحدة، وقضى ما يقربُ من عقدين في مدينة لانغلي بولاية فرجينيا بالولايات المتحدة، وهناك حصلَ على الجنسية الأمريكية.
وشارك حفتر في "انتفاضة فاشلة" ضد القذافي في جِبال برقة، في مارس/آذار 1996، قبلَ أن يعود إلى الولايات المتحدة.
واليوم يورط حفتر ما يعرف أفراد الجيش الوطني الليبي في مستنقع طرابلس ، الذين لا يواجهون فيه أعداء خارجيين، بل إخوتهم في الوطن، فهل نرى حفتر جديداً يخرج ليبيا من الورطة التي وضعها فيها حفتر القديم.