جاء قرار الأردن بتعيين سفير جديد له في قطر بعد عامين من خفض التمثيل الدبلوماسي مع الدوحة، ليثير تساؤلات عديدة حول توقيته وصلته، وهل يكون تمهيداً لإبرام مُصالحة خليجية وإنهاء حصار قطر، أم أنَّه مرتبط بالديناميكيات المعقَّدة للعلاقات السعودية الأردنية.
فقد أصدر ملك الأردن عبدالله الثاني، اليوم الثلاثاء 16 يوليو/تموز 2019، مرسوماً ملكياً بالموافقة على تسمية الأمين العام لوزارة الخارجية زيد اللوزي سفيراً للمملكة لدى قطر، بعد عامين على خفض التمثيل الدبلوماسي بين البلدين.
كما وافقت الحكومة الأردنية أيضاً على قرار حكومة دولة قطر ترشيح الشيخ سعود بن ناصر آل ثاني، ليكون سفيراً فوق العادة ومفوضاً لها لدى البلاط الملكي الهاشمي".
ومنذ نحو عامين تُواصل كلٌّ من السعودية والإمارات والبحرين ومصر قطع علاقاتها مع قطر، بدعوى دعمها للإرهاب، وهو ما تنفيه الدوحة، وتتَّهم الرباعي المُقاطع بالسعي إلى فرض الوصاية على قرارها الوطني.
ولا يُنظر في الأغلب لهذا القرار باعتباره مسألةً ثنائية فقط، لأن تخفيض العلاقات لم يكن مسألةً ثنائية بين البلدين.
ففعلياً ليس هناك شيء بين الدوحة وعمان يستحق تخفيض العلاقات بين البلدين العربيين، ولكن القرار كان بالأساس متعلقاً بالحملة الإماراتية السعودية المصرية على الدوحة.
الأردن: لن نشارك في الحصار، ولكن سنكتفي بتخفيض العلاقات
وعلى غرار معظم القضايا الإشكالية التي واجهها الأردن في السنوات الماضية، كان التعامل مع سياسة القيادة السعودية الجديدة ممثلة في الأمير محمد بن سلمان هو معضلة الدبلوماسية الأردنية.
فهي في الأغلب غير راضية عن سياسات ولي العهد السعودي، التي حطَّمت ثوابت عربية منذ عقود، مثل موقفه من القضية الفلسطينية، وفي الوقت ذاته لا تستطيع المخاطرة بقول "لا".
وعندما فرضت الدول الثلاث ومعها البحرين حصارَها على قطر، بدا أن الأردن يحاول الخروج من المأزق، فهو لا يريد إغضاب السعودية، التي يعتمد على دعمها المالي للحصول على مساعدات، وكذلك لا يؤيد السياسات الهجومية السعودية- الإماراتية، بما فيها حصار قطر.
ولكنه يعلم أن السعوديين لم يعودوا يقبلون أن يقول أحد من حلفائهم "لا" … وأنه قد يدخل في مشكلة في العلاقات معهم، مثلما حدث مع المغرب، الذي رفض المشاركة في حصار قطر، بل إنه زارها في ذروة الأزمة.
وكان لافتاً أنَّ الأردن خفض علاقاته مع الدوحة، وأغلق مكتب قناة الجزيرة، لكن لم يشارك الدول العربية الأربع حصارَها الجوي للدوحة، ولم يقطع العلاقات الدبلوماسية معها، كما لم يشارك في الحصار الاقتصادي أو الحرب الإعلامية التي شنَّتها دول الحصار على قطر.
مدير مركز دراسات الشرق الأوسط جواد الحمد، قال لموقع "عربي21"، إنَّ "الموقفَ الأردنيَّ تجاه قطر لم يكن موقفاً عدائياً، ولم يتطابق مع موقف دول أخرى، اكتفت المملكة بإجراءات رمزية، فلم تتوقف خطوط الطيران، وحافظ الأردن على العلاقات التجارية، والأيدي العاملة، وهذه من العوامل التي تسهل عودة العلاقات بين البلدين بشكل دائم".
ولم تنقطع العلاقات الدبلوماسية والتجارية بين عمان والدوحة طيلة سنوات الحصار، وتدفَّقت البضائع والخضراوات الأردنية إلى الدوحة بشكل مستمر، بينما وقَّعت وفود تجارية اتفاقيات تعاون متبادل بين البلدين.
ويقرب حجم التبادل التجاري بين قطر والأردن من الـ400 مليون دولار سنوياً، بحسب أرقام غرفة تجارة الأردن. ويميل الميزان التجاري إلى صالح قطر التي تستورد منها المملكة مدخلات إنتاج معدنية وكيميائية في أصولها النفطية.
قطر تتغلَّب على معضلة الأصدقاء المشتركين
لم يكن قرار الأردن مفاجئاً إلا في توقيته، إذ سبق أن أعلنت عمان نيَّتها اتخاذ هذه الخطوة.
وقبل ذلك كان التطور الأبرز الذي أعطى دفعة قوية للعلاقات القطرية- الأردنية في شهر أغسطس/آب 2018، حين أعلنت دولة قطر عن تقديم حزمة مساعدات بقيمة 500 مليون دولار إلى الأردن، تشمل استثمارات وتمويل مشاريع، وتوفير نحو 10 آلاف فرصة عمل لتوظيف الأردنيين، ومن ثم توالت الزيارات الرسمية بين البلدين.
قرار الأردن يعبر عن نجاح للدبلوماسية القطرية في تجاوز الحصار وتحييد أثر الضغوط الإماراتية السعودية على الأصدقاء المشتركين للجبهتَين.
وهو ما يظهر بشكل أوضح في نجاح الدوحة في تعزيز علاقتها مع أمريكا، وتحييد الآثار السعودية الإماراتية على سياسة واشنطن تجاهها.
إذ إن التعامل مع الأصدقاء المشتركين بين الدوحة ودول الحصار هو الملف الأكثر دقة بالنسبة للدبلوماسية القطرية، نظراً لقوة الضغوط السعودية والإماراتية على مثل هذه الدول، والملاحظ أن النجاحات القطرية الأخيرة كانت كلها في هذا الاتجاه.
فقبل الأردن، كانت زيارة أمير قطر الشيخ تميم بن حمد للولايات المتحدة، ولقاؤه مع ترامب، وقبل ذلك زيارته اللافتة لباكستان، الصديق المشترك مع السعودية الذي يعاني أزمة مالية، يحتاج فيها إلى دعم سعودي، ولم يثن ذلك رئيس وزراء عمران خان عن استقبال أمير قطر بحفاوة لافتة.
الأردن يقول "لا"
على الجانب الأردني فإنَّ قرار تعيين سفير في الدوحة يشكل ذروة سياسات انتهجتها عمان بحذر خلال السنوات الماضية، للافتراق بهدوء عن السياسة السعودية.
هدوء كان يخترقه أحياناً قرارات لا يمكن وصفها بالهدوء، اتَّخذتها المملكة الهاشمية وهي تعلم أنها تخاطر بإغضاب جارتها الجنوبية.
ويبدو أن إعادة السفير للدوحة تنتمي للفئة الأخيرة، فئة القرارات التي من شأنها إغضاب الرياض.
وإليك أبرز القضايا الخلافية بين الأردن والسعودية
سوريا: أقل الخلافات حدة
الخلافات بشأن سوريا هي الأقل حدّة على الأرجح من بين كل القضايا الخلافية بين الجانبين السعودي والأردني.
فليس هناك عامل ملحّ يدفع الأردن لإظهارها.
منذ بداية الثورة السورية كان موقف عمان قريباً لدول الخليج، وكان الأردن مقراً للجبهة الجنوبية القريبة من العاصمة دمشق، وفي محيط غوطة دمشق كان يوجد أقوى حلفاء السعودية من الثوار السوريين، ممثلاً في جيش الإسلام.
ورغم ذلك فالأردن كان أسرع في إدراك تغيير موازين القوة في الصراع السوري، وعلى الأرجح فقد احتفظ باتصال مع النظام، أو على الأقل تفاهم صامت عبر علاقة عمان القوية مع الروس.
ومع ظهور بعض المؤشرات على تطبيع أردني مع النظام، مثل توجيه الدعوة لرئيس مجلس الشعب السوري لحضور مؤتمر اتحاد البرلمانيين العرب، والتعاون على المستوى الفني في العديد من القضايا، يمكن التكهن بأن أكثر ما يوقف الأردن عن التطبيع العلني مع النظام السوري هو رغبته في عدم إغضاب الرياض وبصورة أقل واشنطن.
حصار قطر.. غير مقتنعين
شكَّل حصار قطر نموذجاً للأزمة التي يعاني منها الأردن في ظل مشكلاته الاقتصادية، وعلاقته الحساسة مع السعودية.
إذ لم يخفِ مسؤولون أردنيون سابقون عدم اقتناعهم بمبرِّرات الحصار.
بل إنَّ بعضهم أشاد بطريقة تعامل قطر مع الأمة، مثل رئيس الديوان الملكي الأردني، ووزير الشؤون الاقتصادية والصناعة والتجارة السابق، جواد العناني، الذي وجَّه الشكر للحكومة القطرية على "حكمتها" بالتعامل مع الأزمة الحالية مع دول الخليج.
وقال العناني في تصريح عقب وقوع الأزمة، إنَّ قطر ربما تكون متفهِّمة موقف الأردن، عندما قلَّص الأخير تمثيله الدبلوماسي مع الدوحة، نظراً لضغوط تعرض إليها من قبل (السعودية وحليفاتها)، محذراً من وقوع الأردن في حصار اقتصادي في حال استمرار الحصار على قطر.
وفي رسائل وجَّهها العناني إلى السعودية وحليفاتها، أوضح أن المطالب الـ13 غير عادلة، والحصار الاقتصادي لن يجبر قطر على تغيير موقفها، موضحاً أن "العقلاء العرب مطلوبون للحوار البنّاء في حلِّ الأزمة".
حضور قمة إسطنبول.. إلا القدس
كان أحد المواقف الأردنية اللافتة هو قرار العاهل الأردني بحضور القمة الإسلامية في إسطنبول، التي دعا إليها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان في مايو/أيار 2018، للردِّ على قرارِ الرئيس الأمريكي دونالد ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل.
وجاءت المشاركة رغم انخفاض التمثيل السعودي الذي عكس في ذلك الوقت جفاء العلاقة بين الرياض وأنقرة، وكذلك رغبة السعودية في أن يكون اعتراضها على قرار ترامب بنقل السفارة خافتاً وروتينياً.
صفقة القرن.. الخلاف الأكبر
شكَّلت صفقة القرن الخلاف الأكبر بين المملكتين العربيتين الصديقتين لواشنطن.
خلاف لم يستطع الأردن فيه أن يشير بأصابع الاتهام علناً للأمير محمد بن سلمان، الذي يريد تعبيد طريقه للسلطة عبر التنازل عن القدس.
ولكن عمان على الأقل لم تخفِ رفضها لأهداف الصفقة، حتى لو شاركت في ورشة المنامة التي دشَّنتها على مضض.
بالنسبة للأردن فإنَّ صفقة القرن هي القضية التي لا يمكن التنازل فيها، فهي مسألة وجودية بالنسبة له.
إنَّها تعني التنازل عن الرعاية الهاشمية للمقدسات في القدس، أو القبول بشراكة سعودية عليها، والقبول بتوطين اللاجئين، وما يترتب على ذلك من مشكلات داخلية للمملكة، التي يعتقد أن اللاجئين الفلسطينيين يشكلون أكثر من نصف سكانها أو أكثر.
حماس محمد بن سلمان للصفقة، كان يعبِّر عن تجاهل كامل، ليس فقط لتاريخ المنطقة، ولكن أيضاً لركائز الدولة الأردنية ذاتها، وحساسياتها.
في المقابل فإن تقارير إعلامية تشير إلى إقرار أردني بدعم الدوحة لمواقف عمان من القدس، ودعم قطر للوصاية الهاشمية، ولمجمل ثوابت الأردن في الملف الفلسطيني.
هروب الأميرة هيا.. الخلاف المكتوم
فضَّل الأردن الصمت في قضية الأميرة هيا، زوجة الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم حاكم إمارة دبي، باستثناء تغريدة للعاهل الأردني تحدَّث فيها بشكل دبلوماسي، محاولاً إظهار أن المشكلة لم تؤثر على العلاقة مع الإمارات.
إذ قال "تابعت والحسين تمريناً عسكرياً مشتركاً في أبوظبي، مع أخي سمو الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، الذي تجمعني به صداقة وأخوة، عزَّزت ما بين بلدَيْنا من محبة وتعاون راسخين منذ عقود. الإمارات والأردن وقفا كتفاً لكتف في مختلف الظروف، وسيظلّان كذلك دائماً. حفظ الله الأخوة بيننا، والأمان في أوطاننا".
ومن الصعب معرفة تأثير هذه الأزمة العائلية على علاقات الأردن مع دول الخليج، خاصة أن هناك شكوكاً في وجود توتر بين الشيخ محمد بن راشد وبين محمد بن زايد.
قرار الأردن بتعيين سفير جديد له في قطر بهذا التوقيت، هل يكون تمهيداً لتغيير أكبر في المنطقة؟
القرار الأردني يمكن أن يؤشّر لتطوّرات وتغييرات أكبر في المنطقة.
فالأردن بحكم شبكة علاقاته الدولية والإقليمية، وموقعه الحساس، وفهم قيادته لموازين القوى بالمنطقة، وعلاقتها الوثيقة بدوائر صنع القرار الغربي، يمكن أن تشكل سياساته تمهيداً، أو بالون اختبار لتغييرات أكبر يجرى طبخها على نار هادئة في المنطقة.
وقرار الأردن جاء في وقت يزداد فيه إلحاح القوى الغربية، وفي مقدمتها الولايات المتحدة، لإبرام مصالحة خليجية، في ظلِّ تصاعد توتر ملف أخطر وأكثر حساسية للانفجار، هو الخلاف الأمريكي- الإيراني، الذي بات له الأولوية على كل ما عداه.
فهل القرار يأتي محصّلة لافتراق سعودي- أردني، أم مقدمة لمصالحة سعودية- قطرية، هذا ما ستُظهره الأيام القادمة.