كان عقلاء أمريكا يخشون أن يورطها الرئيس دونالد ترامب في حروب وأزمات بأساليبه غير المعهودة، ولكن الآن باتوا يشكون من أنه يتخلى عن ثوابت السياسة الأمريكية نتيجة دبلوماسية الحُب التي يتبعها ترامب مع قادة الدول الكبرى، لا سيما خصوم واشنطن التقليديين.
لم يعد المعنيُّون بالشأن السياسي الأمريكي يجأرون بالشكوى فقط من علاقة ترامب القوية مع خصم بلادهم التقليدي، الرئيس الروسي فلاديمير بوتين.
ولكن دبلوماسية الحُب التي جعلت ترامب يتحدث عن علاقة عشق بينه وبين الرئيس الكوري الشمالي كيم جونغ أون، دفعته للإقدام على خطوة رمزية كبيرة بأن يكون أول رئيس أمريكي يزور كوريا الشمالية عندما عبَر العتبة الأسمنتية المنخفضة التي تفصل بين الكوريتين.
ولكن بالنسبة للمراقبين الأمريكيين، ليس تخطي هذه العتبة الشاهقة في ارتفاعها معنوياً هو المشكلة الكبرى، ولكن المشكلة أن علاقة الحُب هذه مع الزعيم الكوري المستبد، ورغبة ترامب في تحقيق انتصار انتخابي يُظهره كرجل سلام يمكن أن يفضيا إلى الاعتراف الضمني بالبرنامج النووي العسكري لكوريا الشمالية، وهو أمر يخالف كل الثوابت الأمريكية، ويشجع دولاً أخرى مثل إيران على تخطي هذه العتبة النووية الحمراء.
العفو المفاجئ عن هواوي.. هل هو أحد تجليات دبلوماسية الحُب؟
ومع الصين، وبعد أن حشد ترامب العالم الغربي كله وحبس أنفاس بقية العالم في حربه التي أعلنها على شركة هواوي العملاقة، فاجأ الجميع -وضمنهم هواوي- بالعفو عن الشركة وإعلانه بعد لقائه مع الرئيس الصيني أنه سيسمح للشركات الأمريكية ببيع منتجاتها لها.
جاءت تعليقات ترامب خلال قمة العشرين في اليابان بعد لقاء عقده مع نظيره الصيني شي جين بينغ.
وقال ترامب إنَّ هواوي لا تزال جزءاً من المباحثات التجارية الجارية بين واشنطن وبكين، لكنَّه في الوقت الراهن سيسمح للشركات الأمريكية باستئناف بيع الأجزاء إلى الشركة الصينية.
وكالعادة أثار قرار ترامب المفاجئ الارتباك في أروقة الحكومة الأمريكية، في ظل الغموض حول طريقة تطبيقه.
ولم تستجب وزارة التجارة -التي أقرت ذلك الحظر ضد هواوي في مايو/أيار الماضي- لطلبات التعليق على الطريقة التي ستُعدِّل بها وضع الشركة. ولم يصدر عن البيت الأبيض ردٌّ سريع على الأسئلة الموجهة إليه حول ما إذا كان قد طلب بالفعل من وزارة التجارة مراجعة القضية.
وبدا متفهماً لصفقة أردوغان مع روسيا
بالنسبة لتركيا، فقد خالف ترامب خط سير إدارته، التي تتوعد بفرض عقوبات على أنقرة، بسبب إصرار الأخيرة على شراء صواريخ إس 400، بإبداء تفهمه لحرص تركيا على شرائها.
وألقى ترامب باللوم على سلفه الديمقراطي باراك أوباما في المسؤولية عن الأزمة مع تركيا، بسبب رفضه بيع صواريخ باتريوت الأمريكية، وهو الأمر الذي جعل أنقرة تلجأ إلى روسيا لشراء صواريخ إس 400 كبديل.
كما لوَّح ترامب بأن بلاده ستجد وسيلة غير العقوبات لحل الأزمة مع تركيا، وهو الأمر الذي أفرغ تهديدات مسؤولي إدارته من مضمونها، في وقت يقترب فيه الموعد الذي حددوه لتركيا للتراجع عن صفقة شراء الصواريخ الروسية.
والآن الرئيس الفلسطيني ينال نصيبه من الحُب الترامبي
وآخر الزعماء الذين عبَّر ترامب عن حُبه لهم كان الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
إذ قال صهر ترامب كبير مستشاري البيت الأبيض غاريد كوشنر، إن الرئيس الأمريكي "معجب جداً" بالرئيس الفلسطيني محمود عباس، ومستعد للتواصل معه، لكن عباس ردَّ بفتور على هذه المبادرة.
وقال كوشنر في تصريحات للصحفيين خلال مؤتمر عبر الهاتف: "بابنا مفتوح دائماً أمام القيادة الفلسطينية".
وأضاف: "الرئيس ترامب معجب جداً بالرئيس عباس". وأردف: "إنه يحبه جداً على المستوى الشخصي. وفي الوقت المناسب، عندما يكون لديهم استعداد للحوار، أعتقد أنهم سيكتشفون أن أمامهم فرصة. واستغلال هذه الفرصة أمر يتوقف عليهم".
كيف ستنعكس دبلوماسية الحُب التي يتبعها ترامب على أرض الواقع؟
من الصعب تحديد مدى فاعلية منهج الرئيس الأمريكي باللجوء إلى الدبلوماسية الشخصية أو ما يمكن تسميته اصطلاحاً "دبلوماسية الحُب".
ولكن الأكيد أن أكبر الغاضبين من هذه الدبلوماسية هم أفراد المؤسسات الأمريكية، الذين عادةً ما تفاجئهم قرارات ترامب مثل الانقلاب الغريب للسياسة الأمريكية تجاه ليبيا وإشادة ترامب بالجنرال المتقاعد خليفة حفتر في اتصال هاتفي معه، رغم أنه أفسد عملية السلام التي كانت تقودها الأمم المتحدة بمحاولاته المتعثرة لاقتحام طرابلس.
وجاء هذا التغيير بناء على اتصالاته مع اثنين من الزعماء العرب الذين يكنُّ لهم ترامب حباً خاصاً: ولي عهد أبوظبي الشيخ محمد بن زايد، والرئيس المصري عبدالفتاح السيسي.
فمن الواضح أن تأثير دبلوماسية الحُب يختلف باختلاف القضية، والأهم باختلاف الزعيم الذي تستهدفه هذه الدبلوماسية.
إذ يبدو أنه كلما كان هذا الزعيم قوياً ولديه علاقة شخصية مع ترامب، والأهم أن لديه أوراق ضغط قوية، فإن لديه فرصاً أفضل في إبرام صفقة ناجحة مع الرئيس الأمريكي، القادم من عالم البيزنس القائم على الصفقات.
لذا لم يكن غريباً أن تبدو سياسة ترامب مع كوريا الشمالية التي أصبحت تمتلك بالفعل سلاحاً نووياً، أكثر تسامحاً بكثير من سياسته مع إيران، التي لم تتخطَّ العتبة النووية العسكرية، بل التزمت الاتفاق النووي مع الدول الكبرى، وضمنها الولايات المتحدة، وهو الاتفاق الذي يفرض قيوداً على تخصيب اليورانيوم أكبر من تلك التي تفرضها معاهدة عدم انتشار الأسلحة النووية.
ويبدو أنه في الحالة الإيرانية، فإن دبلوماسية الحُب تأتي بنتيجة عكسية، إذ رفض القادة الإيرانيون عرضه للتواصل الشخصي وإلقاء الاتفاق النووي الذي أبرمه سلفه باراك أوباما، والتفاوض من جديد.
فالإيرانيون ليسوا لهم مكان على طاولة ترامب، باصرارهم على المؤسسية وعدم انضمامهم إلى دبلوماسية الحُب التي نجحت حتى الآن مع الزعيم الكوري.
لذا لم يكن غريباً أن يبدو ترامب فظاً جداً معهم، عندما قال: "قادة إيران أغبياء وأنانيون إذا لم يتفاوضوا مع الولايات المتحدة".
وماذا ستكون نتيجة دبلوماسية الحُب مع الفلسطينيين؟
يبدو أن آخر تجليات دبلوماسية الحُب ستكون سلبية على الزعيم الذي تستهدفه وهو الرئيس الفلسطيني محمود عباس.
ويبدو أن هذه المخاوف من الثمن الباهظ لدبلوماسية الحُب هي التي دفعت محمود عباس إلى الرد بفتور على الغزل القادم من جهة ترامب.
فعندما سُئل في رام الله عن تصريحات كوشنر، قال عباس إنه سيستأنف الحوار مع الولايات المتحدة إذا اعترفت بحل الدولتين وبحق اللاجئين الفلسطينيين في العودة.
وقال عباس خلال فعالية بمكتبه في رام الله باللهجة الفلسطينية: "بدك حوار؟ نعم. هذا موقفنا. أولاً تعترف برؤية الدولتين وأن القدس الشرقية محتلة، والشرعية الدولية هي الأرضية لأي حوار".
وأضاف: "بتقلّي هاي الكلمات. بتبعثلي قصوصة ورق هلقد (كان يشير إلى يديه)، بتلاقيني ثاني يوم في البيت الأبيض. غير هيك لا".
ومضى يقول: "لذلك نحن لن نغلق الأبواب مع أمريكا، وإنما تركنا الباب موارباً. إذا أحبّوا، أهلاً وسهلاً. إذا لم يحبّوا، فهم أحرار".
فالغزل الترامبي صاحبته مؤشرات خطيرة
وكان لافتاً أن الغزل الترامبي الذي عبَّر عنه كوشنر تجاه عباس، صاحبه تقويض لأهم ثوابت القضية الفلسطينية.
إذ لمَّح كوشنر إلى أن خطة السلام الأمريكية قد تدعو إلى توطين دائم للاجئين الفلسطينيين في الأماكن التي يقيمون بها بدلاً من عودتهم إلى أراضٍ أصبحت الآن في إسرائيل.
وكان حق عودة مئات الآلاف من اللاجئين الذين نزحوا في حرب عام 1948 عند قيام دولة إسرائيل، والذين وصل عددهم مع أبنائهم الآن إلى نحو خمسة ملايين، من أعقد القضايا خلال الجهود الدبلوماسية الصعبة على مدى عقود.
وأحجم كوشنر عن الرد بشكل مباشر عندما سأله صحفي لبناني عما إذا كانت واشنطن تأمل أن تقبل الدول العربية التي تستضيف لاجئين فلسطينيين بقاءهم بشكل دائم مقابل التمويل، وقال إنه سيتم التعامل مع المسألة لاحقاً.
لكنه أشار إلى مقارنة بين اليهود الذين نزحوا من دول بالشرق الأوسط في عام 1948، واستضافت إسرائيل كثيراً منهم.
وما يقلل من الآمال التي يمكن أن تعلّقها السلطة الفلسطينية على هذا الحُب الذي يبدو من جانب واحد، هو الحب الذي يبدو أقوى والذي يكنُّه ترامب لرئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو.
فهذا الحُب منح نتنياهو ما لم تحصل عليه إسرائيل من أي رئيس أمريكي سابق: الاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبضم الجولان إلى الدولة العبرية، وأخيراً "صفقة القرن" التي ينظر إليها الفلسطينيون على أنها خطة لتقويض قضيتهم.
ويبدو أنه بالنسبة للرئيس عباس، فإن هذا الحب ينطبق عليه المثل القائل: "من الحب ما قتل".
أما بقية الزعماء الذين أبدى ترامب لهم حُباً مماثلاً، فمن الواضح أن مكاسبهم من هذه العلاقة الغرامية ستكون بقدر قوتهم وليس بقدر محبة ترامب لهم.