لم يكن يتوقع أن مجرد تفكيره بالانشقاق واتصال هاتفي ناقش فيه هذا الموضوع مع صديق سيؤدي به إلى أقبية التعذيب التابعة للنظام السوري؛ وظل على مدار 4 سنوات ينتقل من واحدة إلى أخرى وينال من كل منها نصيبه من التنكيل، قبل أن يتمكن في الفرار إلى مناطق سيطرة المعارضة.
البداية من مكالمة هاتفية
محمد أحمد العمر (29 عاماً) كان يؤدي الخدمة الإلزامية في جيش النظام السوري عندما انطلقت الثورة السورية في مارس/آذار 2011، وكان من المفترض تسريحه نهاية العام نفسه، غير أن توسّع رقعة المظاهرات دفعت النظام للاحتفاظ به هو وغيره من رفاقه.
وفي مقابلة مع الأناضول، يقول العمر إنه خرج في إجازة بعد قرار الاحتفاظ به ولم يكن يرغب في العودة إلى وحدته العسكرية، إلا أن عائلته وخوفاً من انتقام النظام الذي كان يسيطر حينها على كل مناطق سوريا، أجبرته على العودة إلى الجيش.
ويضيف أن مسيرته في أقبية التعذيب التي امتدت لأكثر من سنتين بدأت باتصال هاتفي أجراه أحد الأصدقاء يعرض فيه أن يساعده في الانشقاق.
ويوضح أنه من سوء الحظ تم التجسس على المكالمة الهاتفية، وإبلاغ قيادة وحدته العسكرية، وعليه بات مطلوباً للأفرع الأمنية.
"كانت روحي تخرج من جسدي ثم تعود"
وعن هذه الأيام، يسرد العمر أنه تعرض لتعذيب شديد في وحدته قبل إرساله إلى الأفرع الأمنية، حيث تم ربطه وضربه 2000 ضربة بالكابل على جسده، وتغطيس جسده في الماء البارد، إلى جانب تقليع أظافر يديه وقدميه.
ويتابع بالقول: "كانت روحي تخرج من جسدي ثم تعود بسبب التعذيب الشديد، وكل ذلك كي أعترف بنيتي الانشقاق".
ويواصل العمر سرد وقائع حكايته المريرة، قائلاً: "أجبروني على أن أعترف على 5 مجندين معي رغم أني كنت وحدي أفكر في الانشقاق؛ فاخترت 5 أسماء من جميع الطوائف في سوريا كي يفهموا أني لوحدي ولم يشترك معي أحد، إلا أن العقيد المسؤول اختار مجنداً من مدينة حماة (وسط) وأرسله معي وهو لا ذنب له".
وذكر العمر أن الفرع الأمني الذي تم إرساله إليه هو فرع "سعسع" جنوب العاصمة دمشق، وهناك حققوا معه وأنكر جميع التهم الموجه إليه، وأوكله الضابط في الفرع بأعمال مثل توزيع الطعام وتنظيف غرف الضباط.
وتابع: "خلال 15 يوماً قضيتها في سعسع رأيت كيف يتم تعذيب المعتقلين هناك، حيث كان يقف المعتقل ويرفع يده ويرخي جسده ليقوم عنصر الأمن بصعق أعضائه التناسلية بالكهرباء"، واصفاً هذا الأسلوب من التعذيب بأنه "أصعب من الموت ذاته".
وتحدث العمر عن شاب من مدينة دير ماكر جنوب دمشق، جاء إلى فرع سعسع، وكان متورم الجسد، وقال السجانون لنا "ممنوع أن يكلمه أو يقترب منه أحد"، وبالفعل "تعرّض أحد السجناء لعقوبة شديدة لمجرد جلوسه بجانبه".
واستطرد: "كما كان معنا امرأة في نفس الغرفة، لكنها كانت بعيدة قليلاً وتدعى أم عدي، وكانت تهمتها المساعدة في هروب جنود من جيش النظام، وكانوا يشتمونها بأقذع الألفاظ، ولا أعرف ما حل بها بعد خروجي من الفرع".
أما المنظر الأقسى الذي رآه العمر فكان لشاب جاء سليماً إلى الفرع، وبعد يومين رآه والبراز يخرج من فمه من كثر الضرب والتعذيب الذي لاقاه.
الشبح والتعليق على "الدولاب".. وأكثر من ذلك
ولفت العمر إلى أنه تم نقله لاحقاً إلى الفرع الأمني 91 ثم إلى الفرع 48، حيث لقي القسط الأكبر من التعذيب وتم ضرب رأسه بقضيب من حديد، ووضعه على الدولاب (يتم فيه تقييد يدي المعتقل إلى رجليه عبر حشره داخل إطار سيارة وبعد ذلك تبدأ عملية الضرب على أنحاء مختلفة من جسده)، إضافة إلى عقوبة الشبح المؤلمة، حيث يتم تعليقه من يده على الحائط ومن ثم ضربه.
وأكد العمر أن الفرع الأمني 48، الذي يقع تحت الأرض، "يشهد أساليب تعذيب تتجاوز العقل، كما يضم معتقلين مصابين بالجرب وضيق التنفس، وهناك تجد المعتقلين وهم يجلسون بشكل متلاصق، كما يوجد معتقلون مضى على وجودهم سنتان".
وأشار إلى أنه كان شاهداً على موت معتقل من مدينة حلب (شمال) في الفرع الأمني 48؛ بسبب ضيق التنفس.
ولفت العمر إلى أن مَن يدخل معتقلات النظام يفقد عقله، وضرب مثالاً على شخص تم القبض عليه في حاجز القطيفة في دمشق عندما كان في طريقه إلى لبنان لمعالجة ابنته، "ولم يكن قد ارتكب أي شيء، لكن من كثرة التعذيب فقد عقله، واعترف بإسقاط طائرة رغم أن حينها لم يتم إسقاط أي طائرة تابعة للنظام، وتوفي الرجل بعد ذلك".
سجن صيدنايا والعودة للخدمة الإجبارية.. ورحلة الهروب
وتابع: "منتصف 2012 تحولت إلى سجن صيدنايا وبقيت سنة وشهرين فيه، حتى خرجت للجلسة الأولى أمام المحكمة، وتعرضت في السجن لتعذيب شديد بوسائل عدة منها الشبح والصعق الكهربائي، إضافة إلى الضرب الشديد جداً، حيث كنا نتعرض للضرب بعجلات الطائرة وهو أمر مؤلم جداً".
وأفاد العمر بأنه خرج من المعتقل في يوليو/تموز 2014 بعد صدور عفو، موضحاً أنه بعد خروجه من المعتقل أعادوه للخدمة الإلزامية، لكن مر قبل ذلك على سرية التأديب في سجن تدمر، حيث استقبله هناك ضابط يدعى باسل الشملات، والذي "أمر الجنود بضربي 100 كابل كحفلة استقبال"، على حد وصفه.
وأضاف: "بعد خروجي من سرية التأديب ذهبت إلى القابون وفرزوني (وزعوني) إلى حقل الشاعر بريف حمص (وسط)، ثم أعادوني إلى دمشق، وفرزوني إلى دير الزور وفي هذه الفترة اعتُقل والدي لمدة 4 أشهر ثم أُطلق سراحه".
وتابع: "بعد أن دفع أهلي 2200 دولار رشوة لضباط كبار في الحرس الجمهوري قاموا بتهريبي من قطعتي العسكرية ووصلت في منتصف 2015 إلى مناطق سيطرة المعارضة شمالي البلاد، وعندما وصلت لم أصدق نفسي أبداً".
وحول الآثار التي تركها فترة الاعتقال فيه، قال العمر: "إلى الآن أرى كوابيس وأنا أتعرض للتعذيب، كما أن حالتي النفسية متعبة جداً، وأشعر أحياناً بالخوف من هول ما رأيته".