تقوم السلطات اللبنانية بأكثر حملاتها عدوانية حتى الآن؛ لكي يعود اللاجئون السوريون إلى بلادهم، وتتخذ السلطات الإجراءات اللازمة لضمان عدم إقامتهم الدائمة في البلاد. ويقول البعض في لبنان إنهم، فيما يعد انعكاساً لصعود المشاعر المعادية للمهاجرين في أوروبا وحول العالم، بعد 8 سنوات من الحرب في جارتهم سوريا، قد سئموا من عبء استضافة أعلى تجمع للاجئين بالنسبة للفرد في العالم- إذ ثمة مليون لاجئ وسط سكان لبنان البالغ عددهم 5 ملايين- لا سيما في وقت يواجهون فيه إجراءات تقشف واقتصاداً ضعيفاً.
وزير الخارجية اللبناني يقود الحملة على اللاجئين
كانت المشاعر المعادية للاجئين في لبنان قد تفاوتت صعوداً وهبوطاً في الماضي. وكانت هذه المشاعر مستمرة وإن كانت محدودة بين جمهور مزقته المشاعر المتضاربة -الاستياء من هيمنة سوريا في الماضي والقلق من أثر اللاجئين على التوازن الطائفي الدقيق في بلادهم- لكن أيضاً التعاطف مع اللاجئين وسط ذكريات نزوحهم هم أنفسهم أثناء الحرب الأهلية اللبنانية الطويلة.
لكن هذه المرة اعتنق نجم صاعد في سياسة البلاد هذا الموضوع بحماس، كما تقول صحيفة The Washington Post الأمريكية، إذ يقود وزير الخارجية جبران باسيل الحملة القائلة إنَّ السوريين ينبغي أن يعودوا إلى وطنهم، مستخدماً لغة قومية مثل القول بأنَّ "التميز الجيني" للبنانيين سوف يوحدهم لمواجهة قضية اللاجئين.
وخلال أحد التجمعات التي نظمها حزب باسيل الشهر الجاري -والتي عقدت تحت شعار "وظف لبنانياً"– هتف المتظاهرون "اخرجي يا سوريا" وحاول البعض اقتحام متجر يديره سوري، ما أثار مشاجرة. وظهرت الملصقات في الشوارع وعلى الإنترنت تدعو السكان للإبلاغ عن أي سوري يعمل دون ترخيص.
تشير هذه التوترات إلى تشابك ردة الفعل في البلدان المضيفة المثقلة بأوضاع اللاجئين المستعصية مع السياسات المحلية. وقد تضخمت أعداد النازحين عالمياً إلى مستويات قياسية، إذ ذكرت المفوضية السامية للأمم المتحدة لشؤون اللاجئين يوم الأربعاء 19 يونيو/حزيران 2019 أنَّ 71 مليون شخص قد اقتلعوا من بيوتهم العام الجاري، منهم 26 مليون لاجئ، وهو ضعف عدد اللاجئين منذ 20 عاماً.
وقالت ميراي جيرار، ممثلة المفوضية في لبنان: "من بين هذا العدد المحبط، يبرز لبنان بوصفه البلد الذي به أكبر عدد من اللاجئين بالنسبة للفرد الواحد. هذه مسؤولية ضخمة على عاتق لبنان وينبغي للعالم كله أن يظهر التضامن مع البلاد التي تقف في مواجهة تدفق اللاجئين".
وبدأ حلفاء باسيل في الحكومة في تطبيق القوانين التي نادراً ما كانت تنفذ في الماضي، بإغلاق المحلات التي يملكها سوريون أو توظف سوريين من دون تصاريح، والأمر بهدم أي شيء في مخيمات اللاجئين يمكن أن يكون منزلاً دائماً.
اللاجئون يحاولون تجاوز العاصفة.. "لا خيار سوى البقاء"
ففي بلدة عرسال، بالقرب من الحدود السورية، حيث يعيش 60 ألف لاجئ في مخيمات غير رسمية أنشئت في الحقول، كان السوريون يهدمون الجدران الحجرية والإسمنتية التي أضافوها إلى أكواخهم المصنوعة من القماش والصفائح المعدنية والبلاستيكية، في محاولة لجعلها قادرة على تحمل فصول الشتاء القاسية في هذه المنطقة الجبلية، إذ منحهم الجيش حتى الأول من شهر يوليو/تموز لإزالة أي جدار أطول من ارتفاع الخصر.
وقال السوريون إنه بصرف النظر عن مقدار ضغط السلطات عليهم، فلا خيار أمامهم سوى البقاء.
وقالت أم حسن، بغضب: "هل يعتقدون أنَّ الحاجز الإسمنتي هو ما يبقينا هنا؟". وقالت إنها لا تستطيع الرجوع لأنَّ أبناءها سوف يستدعون للتجنيد في جيش الأسد. وقالت إنَّ قرار الهدم تركها هي وأسرتها نائمين دون سقف فوق رؤوسهم لأكثر من أسبوع.
معظم السوريين الذي قدموا إلى لبنان منذ عام 2011 كانوا فقراء ومسلوبين. وعلى الرغم من سنوات تلقي المساعدات، فإنَّ 51٪ من أسر اللاجئين السوريين تعيش على أقل من 3 دولارات يومياً و88٪ من الأسر مدِينة.
ومن بين أكثر من 660 ألف سوري في سن الدراسة في لبنان، فإنَّ 54٪ منهم غير مسجلين في تعليم رسمي، وما يقدر بـ40٪ لا يزالون خارج أي نوع من التعليم المعتمد.
لبنان منهك قبل اللاجئين
وفي المقابل، يشتكي العديد من اللبنانيين من أنه على الرغم من مبلغ الـ6 مليارات دولار من المساعدات الأجنبية التي استثمرت لدعم لبنان، فإنَّ تدفق اللاجئين قد غمر المدارس والبنية التحتية المنهكة بالفعل، وزاد من الإيجارات وأجبر اللبنانيين على التنافس مع العمالة السورية الرخيصة. ويشعر البعض بالاستياء من المساعدات المالية التي يتلقاها بعض السوريين، مشيرين إلى أنهم لا يدفعون ضرائب وغالباً ما يعملون بشكل غير قانوني أيضاً.
ويواجه اللبنانيون عاماً قادماً من إجراءات التقشف ويقول النقاد إنَّ السياسيين يستخدمون السوريين كبش فداء لاقتصاد مدمَّر وفساد مستشرٍ على نطاق واسع.
وقالت الصحفية ديانا مقلد: "الجمهور اللبناني محبط… ويريد أي شيء يُسقط عليه غضبه. من الطرف الأضعف لذلك؟ اللاجئون".
باسيل هو زعيم أكبر حزب مسيحي في البرلمان والحكومة وهو صهر رئيس البلاد. وقد كان يحشد قاعدة شعبية ويعزز أوراق اعتماده بوصفه حامي حمى المسيحيين، ويعتقد البعض أنه يهدف بذلك إلى أن يحل يوماً ما محل والد زوجته الرئيس ميشال عون البالغ من العمر 84 عاماً.
وأشاع باسيل تعبير "لبنان فوق الجميع" بينما حذر من "مؤامرة دولية" لتوطين السوريين في لبنان، كما حدث مع اللاجئين الفلسطينيين. ذلك أنَّ تدفق اللاجئين الفلسطينيين، الذي فروا أو طردوا أثناء حرب 1948 وقت احتلال إسرائيل لأراضيهم، قد أزعج التوازن الطائفي في لبنان، وكانت الفصائل الفلسطينية المسلحة عنصراً أساسياً في الحرب الأهلية التي استمرت بين عامي 1975-1990.
وبعد عقود من وجود الفلسطينيين في لبنان، تناقصت أعدادهم إلى حوالي 175 ألفاً يعيشون في مخيمات بائسة مع عدم إمكانية الوصول إلى الخدمات العامة، وفرص عمل محدودة وعدم وجود حقوق للتملك أو الحماية.
"عنصرية باسيل ستضره وتضر لبنان كله"
وفي الوقت الذي يضغط فيه باسيل داخلياً لتنفيذ قوانين ضد اللاجئين، فقد مارس ضغوطاً في الخارج لزيادة المساعدات إلى لبنان والعودة المنظمة للسوريين.
وقال باسيل أثناء مؤتمر عقد مؤخراً: "من يتحدث عن عودة اللاجئين ليس عنصرياً أو فاشياً، وأولئك الذين يتهموننا بالعنصرية إما مستفيدون (من هذه القضية) أو متآمرون".
واكتسب باسيل أرضية في المجال السياسي المنقسم حول قضية اللاجئين والحرب السورية بشكل عام.
وكان حزب الله، حليف باسيل، قد دعم حكومة الأسد في القتال ضد قوات المعارضة. أما خصوم باسيل السياسيون، بما في ذلك أحزاب مسيحية أخرى والحزب السني الأساسي الذي يقوده رئيس الوزراء سعد الحريري فقد وقفوا مع المعارضة السورية. ووصف الحريري خطاب باسيل بالـ "عنصري"، وواجه رئيس الوزراء وحلفاؤه حملة باسيل.
وفي تجمع حاشد أقيم مؤخراً في بيروت، رفع سياسيون ونشطاء وسوريون لافتات ضد خطاب الكراهية. وقالت بولا يعقوبيان، السياسية المسيحية الأرمنية المستقلة، أمام الجمع إنَّ حملة "نزع إنسانية" اللاجئين غير مسؤولة.
وقالت بولا: "هذا أمر مدمر، حتى لو أدى إلى زيادة شعبية شخص ما في الوقت الراهن، لكنه مضر للغاية على المدى البعيد، بالنسبة للبنان واللبنانيين في المقام الأول".
وقال ناصر ياسين، أستاذ السياسة العامة بالجامعة الأمريكية في بيروت، إنه لا يعتقد أنه سوف يكون هناك رد فعل شعبي واسع النطاق ضد اللاجئين، لكنَّ صعود مشاعر مشابهة في جميع أنحاء العالم يجعل من مواجهتها أمراً أصعب.
وقال ياسين: "إذا كانت أوروبا تنتهك القانون الدولي بالفعل فيما يتعلق بإعادة الناس الذين يحاولون عبور البحر المتوسط إلى الميليشيات الليبية، فسوف تغض الطرف أو تلتزم الصمت عندما تطبق الحكومة اللبنانية الأمر ذاته".
الحملة على اللاجئين ليست مجرد خطاب سياسي
إذ أشعل حراس محليون مؤخراً النار في 3 خيام في مخيم للاجئين ببلدة دير الأحمر شرقي البلاد، وتشاجر السوريون هناك مع رجال الإطفاء اللبنانيين وجرحوا واحداً منهم. بعد ذلك أصدرت البلدية أمراً بالإخلاء، ما أجبر 400 سوري على نقل خيامهم إلى مكان جديد.
ورحّلت لبنان، في شهر أبريل/نيسان 2019، ما لا يقل عن 16 سورياً، بعد وصولهم إلى مطار بيروت، في انتهاك لتعهداتها الدولية. وقالت منظمة "هيومان رايتس ووتش" ومنظمات أخرى إنَّ بعض المرحّلين عبروا عن خوفهم من الاضطهاد في سوريا وأجبروا على توقيع استمارات إعادة "طوعية"، وذلك على الرغم من التزام بيروت بعدم الإعادة القسرية لأي سوري.
وتقدر السلطات اللبنانية أنَّ أكثر من 170 ألف سوري قد عادوا إلى بلدهم بين شهري ديسمبر/كانون الأول 2017، ومارس/آذار 2019، الكثير منهم عبر رحلات بالحافلات نظمتها الحكومة.
وتقول منظمات الإغاثة والكثير من الدول الغربية إنَّ الظروف ليست مناسبة بعد لعودة اللاجئين إلى سوريا، مع عدم وجود حل سياسي وضمانات لأمنهم.
"إن كان هو الخروج.. فأخرجونا إلى غير سوريا"
وفي عرسال، قال أبوفارس، أحد المنظمين للمخيم السوري، إنَّ حملة تنفيذ قوانين العمل والبناء تهدف إلى مضايقة السوريين للعودة إلى بلادهم. ويخوض أبوفارس حملة للإعفاء أو منح فترة سماح أطول للمعاقين أو المسنين في المخيم الذين لا يستطيعون الهدم بأنفسهم.
وأضاف أبوفارس، وهو منشق عن الشرطة السورية، أنه لا يفهم معنى العودة إلى سوريا من دون تسوية سياسية، وعفو وقوانين جديدة.
وأضاف: "لكن لو كانوا لا يستطيعون استقبالنا هنا، فليقولوا ذلك وليخرجونا من لبنان إلى بلد آخر غير سوريا".
وقد استسلم البعض للضغوط؛ إذ قال رئيس بلدية عرسال، باسل الحجيري، إنَّ حوالي 200 سوري قد سجلوا للعودة إلى سوريا بعد أوامر هدم الجدران. وقال أبو أسامة، البالغ من العمر 74 عاماً، وهو جنرال جيش متقاعد، إنه وضع اسمه في القائمة. وأضاف: "كنت أشعر بالأمان هنا، ولم يعد الأمر كذلك. فليحفظني الله".