في آخر حلقات ملاحقة رموز نظام الرئيس الجزائري السابق عبدالعزيز بوتفليقة المثيرة، أمرت المحكمة العليا الجزائرية بإيداع الوزير الأول الأسبق عبدالمالك سلال بالحبس المؤقت، بسجن الحراش بالجزائر العاصمة، لينضم لكل من الوزير الأول السابق أحمد أويحيى ومجموعة أخرى من وزراء سابقين ورجال أعمال ونافذين، فهل تكون هذه الحملات نوعاً من تصفية الحسابات بين أجنحة السلطة في الجزائر أم أنها حملة تطهير حقيقية استجابت لنداءات الشعب المصمم على أن لا يغادر الشارع حتى تحقيق مطالبه وعلى رأسها محاسبة أركان النظام السابق؟
أركان النظام خلف القضبان
لم يخف الجزائريون ارتياحهم الكبير بإيداع كل من أحمد أويحيى وعبدالمالك سلال رؤساء الحكومات السابقين خلف القضبان، في حادثة تعد سابقة أولى في تاريخ الجزائر، إذ لم تسبق ملاحقة وسجن رئيس حكومة منذ استقلال البلاد عام 1962.
وكان قاضي التحقيق للمحكمة العليا، قد أمر الخميس 13 يونيو/حزيران 2019، بإيداع عبدالمالك سلال، الحبس المؤقت، بسجن الحراش بالجزائر العاصمة، وذلك على خلفية تهم فساد ثقيلة كما وصفتها الصحف الجزائرية، تتعلق بمنح امتيازات غير مستحقة لرجال أعمال وسوء استغلال الوظيفة.
إذ تولى سلال منصب رئيس الوزراء ما بين مايو/أيار 2012 حتى مايو/أيار 2017، وقبلها شغل عدة حقائب وزارية منها الموارد المائية والنقل. كما تولى منصب مدير حملة الرئيس الجزائري المستقيل عبدالعزيز بوتفليقة في رئاسيات 2009 و2014.
سلال ليس وحده، إذ سبقه إلى السجن ذاته الوزير الأسبق وأحد أهم رموز نظام بوتفليقة المرفوض شعبياً، أحمد أويحيى، وتكاد تكون التهم ذاتها التي لوحق بها سلال قد وجهت إلى أويحيى، إذ أمرت المحكمة العليا الأربعاء بإيداع أويحيى الحبس المؤقت على خلفية تهم فساد وتبديد أموال عامة وامتيازات غير مشروعة، لها علاقة بالملياردير الجزائري علي حداد وغيره من رجال الأعمال والنافذين.
في الوقت نفسه، تم إيداع المترشح السابق للرئاسيات الجنرال المتقاعد علي غديري الحبس المؤقت، بعد مثوله أمام قاضي التحقيق لدى محكمة الدار البيضاء، بحسب ما كشفته صفحته الرسمية على فيسبوك، دون معرفة سبب اعتقاله. لكن قبل يومين من اعتقاله كان غديري قد خرج بتصريحات إعلامية قال فيها "إن الوقت الحالي يتطلَّب أن نجد حلولاً للمعضلة التي نحن فيها ونخرج من الفراغ الدستوري، واعتبر أن "الأولوية ليست محاسبة فلان أو علان، الدولة تستطيع محاسبة أي شخص في أي مكان وزمان".
وفي الأثناء أفادت النيابة العاملة بالعاصمة الجزائرية بأن القضاء يُجري تحقيقاً مع 45 شخصاً، بينهم مسؤولون كبار في الدولة، يتهمون بالفساد وتبييض الأموال، ضمن قضية رجل الأعمال محيي الدين طحكوت. ومن المنتظر أن يمثل، في وقت لاحق، وزير التجارة الأسبق عمارة بن يونس أمام قاضي التحقيق بالمحكمة العليا بشأن قضايا فساد.
وتبقى قائمة المسؤولين المحتمل إيداعهم الحبس طويلة على ضوء الاستدعاءات الموجهة لعدد من المسؤولين السابقين الذين تحوم حولهم جملة من التهم والشبهات بالفساد والاختلاس والمحاباة، إلى جانب عديد الوزراء والولاة المتهمين بالتورط في قضايا فساد مشابهة.
تصفية حسابات أم حملة تطهير حقيقية؟
حول هذه الحملات وأهدافها، يقول المحلل السياسي الجزائري محمد باشوش لعربي بوست إن "بالرغم من أن محاسبة الفاسدين وهؤلاء الرموز ومن أداروا الفترة السابقة أمر محمود عند الجزائريين اليوم بقوة، وأن الشعب الجزائري يريد أن يرى دوراً هاماً للعدالة في محاكمتهم، ولكننا كجزائريين لا نستطيع أن نحكم الآن على هذه التحركات فيما إذا كانت تصفية حسابات أو تطهيراً حقيقياً".
وبحسب باشوش فإن مسار الأحداث هو من سيثبت حقيقة هذه التحركات، ففي حال اكتفت الجهات التي تشرف على عملية التطهير بهذا القدر من التحركات ضد الرموز الفاسدة، وبعد ذلك مضت إلى ترتيب الأوضاع في البلاد نحو انتخابات نزيهة، سنقول حينها إن ما يحصل هو تطهير حقيقي.
ويردف: أما إذا استعمل الرصيد الذي سيحصل عليه من يسير الفترة الحالية في محاربة الفساد، واستطاع توظيفه سياسياً في الفترة القادمة لصالحه، فحينها سيكون الأمر عبارة عن صراع أجنحة أكثر من أنه عملية تطهير مبنية على أساس أن دولة الحق والقانون تبدأ بقوة واستقلالية العدالة، على حسب تعبيره.
"ما يحصل مفيد للحراك في كل الأحوال"
في السياق، يقول مصطفى بخوش أستاذ العلاقات الدولية، بجامعة بسكرة الجزائرية، إن "اعتقال رموز الفساد وتحييدهم مطلوب ومهم لكنه غير كاف لوحده لضمان انتقال ديمقراطي حقيقي ينهي نظام الفساد التسلطي ويؤسس للديمقراطية".
وأضاف بخوش لعربي بوست أنه "سواء أكانت هذه الحملة غير المسبوقة في تاريخ الجزائر تدخل ضمن تصفية الحسابات بين العصب الحاكمة أو حملة تطهير حقيقية فإنها مفيدة للحراك، لأنها تضعف منظومة الفساد وتعطي رسائل ايجابية للحراك الشعبي وتحيي الأمل لدى الجزائريين في إمكانية تحييد رموز الفساد المتجذرين في عمق الدولة، وبناء دولة الحق والقانون".
وأردف قائلاً: "قناعتي الشخصية أن السلطة تعمل بسرعتين مختلفتين، الأولى تمثلها قيادة الأركان عبر عملية تجفيف مصادر قوة العصابة وكسر أذرعها المالية والاستخبارية والإعلامية والسياسية، عبر حملة الاعتقالات التي طالت رموز النظام ورجال أعمال. والثانية تمثلها رئاسة الدولة والحكومة التي لا تزال مصرة على الغرق في شكليات إجراء انتخابات رئاسية في موعدها وهي المرفوضة شعبياً، بسبب غياب شروط وضمانات تجعلها نزيهة وشفافة"، على حد وصفه.
وحول توقعاته بمسار الفترة القادمة، قال بخوش إنه يعتقد أن "الخطوة القادمة المطلوبة هي فك الارتباط بين قيادة الأركان ورئاسة الدولة والحكومة عبر إبعاد الباءين المتبقيين (بن صالح وبدوي)، وإطلاق مسار سياسي يضمن الوصول لتنظيم انتخابات رئاسية ذات مصداقية وموثوقية عبر توفير شروطها القانونية والمؤسسية".
توجس واضح ودعوات لعدم الإفراط في التفاؤل
من جانبه يرى الكاتب الصحفي الجزائري نصر الدين قاسم، أن كثيراً من الجزائريين المتحمسين والمتحفظين على حد سواء من خطوات قائد الأركان قايد صالح والتيار الذي يقود المرحلة، متوجسون من تكرار النموذج المصري في محاسبة المفسدين وسط صخب كبير وإدانات سارة تشفي الغليل، ثم سرعان ما ينقشع غبار الصخب ويتلاشى الحلم وتسقط التهم تباعاً لغاية البراءة الكاملة وكأن شيئاً لم يكن، كما حدث مع الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك وأبنائه، وأتباعه ورجال أعماله، ومقربيه.
وقال قاسم في مقالة صحفية منشورة له، إن "مخاوف الجزائريين تتعاظم كلما لاحظوا أن العدالة التي كانت تتستر على الفساد والمفسدين أمس، وتجرم – بالإيعاز – كل من يتجرأ على فضح الفساد أو تقديم شكوى بذلك بحجة الإساءة للكفاءات الوطنية، هي نفسها التي تحاكم المفسدين اليوم وبالطريقة نفسها.. مشهد قديم لم يطرأ عليه أي تغيير يثير كماً كبيراً من القلق".
وتساءل قاسم عن ما وصفه "بسر تمتع الكثير من الأسماء التي لا تقل فساداً وسوءاً عن أترابهم المحبوسين، بحصانة ومناعة غريبتين، فالكثير من المسؤولين لهم صلة مباشرة بتدهور الأوضاع الاقتصادية والسياسية للبلاد، والمتهمين بالنهب في فترات سابقة من المقربين من العصابة، ظلوا خارج دائرة الشبهات أو المتابعات القضائية يتمتعون بحماية تجعلهم في منأى عن حملة متابعة الفساد، وهذا ما يعتبره المتوجسون مدعاة للتشكيك في النوايا وعدم الإفراط في التفاؤل والحلم بقيام دولة الحق والقانون"، بحسب تعبيره.
ويذكر أخيراً، أن الملاحقات الأمنية شملت منذ تنحي بوتفليقة في 2 أبريل/نيسان وحتى الآن، أكثر من 400 شخصية، ما بين رجال أعمال ووزراء ومسؤولين سابقين وحاليين وسياسيين، بتهم تبديد المال العام والنهب واستغلال السلطة، كما أن 11 من رجال الأعمال وأقربائهم تم إيداعهم السجن، وتم منع كثيرين منهم من السفر ومغادرة البلاد.