قبل التعويم أم بعده، دائماً ما يُكرر المصريون هذه الكلمات عند حديثهم عن أسعار أي شيء، أو عن مستويات دخولهم، فعملية تعويم الجنيه المصري التي قادها محافظ البنك المركزي المصري طارق عامر، كانت واحدةً من أهم الأحداث الاقتصادية تأثيراً على المواطن المصري.
وبينما كان التعويم من شروط صندوق النقد لتقديم المساعدات لمصر، وبموافقة الرئيس عبدالفتاح السيسي، إلا أن عملية إدارة التعويم نفسها كان يقوم بها طارق عامر.
والآن هذا الرجل أصبح مهدداً بالخروج من منصبه، بعد نشر تقارير إعلامية متعددة على أنه تم إبلاغه أنه لن يتم التجديد له، في أكتوبر/تشرين الأول القادم.
فلماذا يتعرَّض الرجل لهذه الحرب، في الوقت الذي أشادت وكالة بلومبيرغ الأمريكية بالتحسن الاقتصادي الذي تشهده البلاد، مشيرة إلى أن الجنيه المصري حقق ثاني أفضل أداء في العالم مقابل الدولار حتى الآن، خلال هذا العام.
وهل يتأثر الجنيه إذا خرج عامر من منصبه في توقيت غير طبيعي؟
الرجل الذي خسف بالجنيه المصري ثم رفعه
اختلفت التقييمات بشأن هذ الرجل، ففي المخيلة الشعبية يرتبط بالقرار الذي أدى فعلياً إلى تآكل دخول المصريين بنسبة قد تصل إلى 50%، في المقابل من الناحية الاقتصادية يراه بعض الخبراء قد نجح في إدارة عملية التعويم، بينما يحمّله آخرون مسؤولية تراجع الجنيه من نحو 8 جنيهات قبل التعويم إلى 18 جنيهاً بعد التعويم.
ولكن بصرف النظر عن اختلاف الآراء حوله، إلا أنه كان يُنظر له على أنه رجل القطاع المصرفي القوي، الذي أثبت أنه واسع الحيلة في السيطرة على السوق واللعب معه، بل وحتى التلاعب به أحياناً، والذي استطاع أن يقنع المصريين مرات عديدة أن الدولار سينهار أمام الجنيه، ليصطفّوا أمام المصارف لتبديل دولاراتهم، ثم لا يلبث أن يعود الجنيه إلى سيرته الأولى..
الدولار بأربعة جنيهات.. "كنت بهزر"
لا ينسى المصريون قول طارق عامر الشهير، إن الدولار سوف يصبح بـ4 جنيهات، ثم قال بعد ذلك إنه كان يمزح.
إذ قال عامر في حوار تلفزيوني، حديثي عن الدولار بـ4 جنيهات كان نكتة، والشعب المصري بيحب النكتة، لكن المرة دي بيحبوا ياخدوا اللي على كيفهم ويحولوه لـ "ما يصحش".
ولكن طارق في الأغلب لم يمكن يمزح، بل كان يفهم سيكولوجية السوق المصري جيداً، ويجيد التلاعب بها، كما يقول مصدر مقرب منه لـ "عربي بوست".
فالرجل كان يستخدم الشائعات والأخبار غير الرسمية، ضمن وسائل أخرى لدعم الجنيه أمام الدولار.
والآن ها هو يواجه نفس السلاح، إذ بدأت حملة تسريبات ضده آخرها موجهة ضد زوجته الوزيرة السابقة، حيث تقدم عضو مجلس النواب محمد فؤاد، بطلب إحاطة اتّهم فيها داليا خورشيد وزيرة الاستثمار السابقة رئيسة مجموعة "إيجل كابيتال" المملوكة لجهاز المخابرات العامة، بالفساد وإهدار المال العام، واستغلال نفوذها ونفوذ زوجها للتربّح، بسبب ممارسات شركة مملوكة لها.
وبصرف النظر عن صحة هذه التسريبات، فإن لعبة التسريبات مع القطاع المصرفي خطرة جداً، لأننا هنا نتكلم عن قطاع حساس يدير أموال المودعين الذين يفوق عددهم 15 مليون شخص، ويدير محفظة المجتمع المالية.
إذ يفترض أن البنك المركزي يتمتع بالاستقلالية.
والأهم أن طارق عامر ليس محافظ بنك مركزي تقليدياً، لأن أدوات الرجل في التعامل مع السياسة النقدية لا تقتصر على الأدوات المعروفة المعلنة، بل كثير منها هي أدوات غير رسمية، استخدمها لدعم الجنيه على مدار السنوات الماضية.
فرغم أنه يفترض أن مصر قد أعلنت رسمياً عن تعويم الجنيه منذ عام 2016 وفقاً لاتفاق البلاد مع صندوق النقد للحصول على 12 مليار دولار، إلا أن كثيراً من الخبراء والمؤسسات المتخصصة يشككون في ذلك، ويعتبرون أن البنك المركزي يتحكم بشكل غير رسمي في سعر الجنيه، الذي ارتفع بشكل كبير مؤخراً أمام الدولار، ليصبح صاحب أفضل أداء عملة أمام العملة الأمريكية.
وكانت مؤسسة "لايت هاوس" لأبحاث السوق، قالت أواخر الشهر الماضي، إن الجنيه المصري ما زال خاضعاً لإدارة مُحكمة، ولا يعمل وفقاً لنظام سعر صرف حرّ.
ويلعب عامر بأساليبه غير التقليدية دوراً كبيراً في التحكم بالجنيه المصري، الأمر الذي يثير مخاوف من خروج الجنيه عن السيطرة في حال خروج الرجل في غير موعده الطبيعي، خاصة أن الكثيرين قالوا إن السعر الحالي للجنيه المصري مبالغ فيه، وسط توقعات أنه قد يرتفع العام القادم إلى 18 جنيهاً، وإلى 19 جنيهاً في العام الذي يليه.
وفي هذا الصدد، توقعت مؤسسة "كابيتال إيكونوميكس" البحثية في لندن، عدم استمرار ارتفاع الجنيه المصري مقابل الدولار على الأرجح، رغم أنه أفضل العملات أداءً منذ بداية العام، متوقعة أن يفقد جميع مكاسبه، ويعود إلى مستوى 18 جنيهاً بنهاية عام 2019.
وأشارت المؤسسة البريطانية إلى ارتفاع سعر صرف الجنيه نحو 7% منذ بداية العام، مستقراً عند أعلى مستوياته منذ أوائل 2017، في تبايُن واضح مع أداء عملات الأسواق الناشئة، التي عانت من مخاوف بشأن تعافي الاقتصاد العالمي، وتجدد الحرب التجارية بين الولايات المتحدة والصين.
وحسب "كابيتال إيكونوميكس"، فإن ارتفاع سعر العملة المصرية يعكس جزئياً تحسن وضع ميزان المدفوعات منذ قرار تعويم الجنيه، في نوفمبر/تشرين الثاني 2016، الذي أفقد العملة المصرية نحو 50% من قيمتها، وعزَّز القدرة التنافسية للصادرات نتيجة انخفاض سعر الصرف الحقيقي الفعّال الذي يراعي فروقات التضخم.
وأدَّت هذه السياسات إلى ارتفاع تنافسية مصر، ما عزَّز الصادرات، وأضعف نموّ الواردات بجانب تعافي قطاع السياحة.
ولكن الارتفاع الكبير للدولار يطيح بإيجابيات التعويم القليلة
إذ إن بعض المصدّرين يشكون، حسبما قالت مصادر لـ "عربي بوست"، من تراجع القدرة التنافسية للصادرات التنافسية مع ارتفاع الجنيه، وانخفاض عملات دول منافسة كالليرة التركية.
ومع أن البعض يرى أن هناك أسباباً موضوعية لارتفاع الجنيه، مثل تراجع الواردات، خاصة مع استمرار حملة "خليها تصدي" التي تطالب بمقاطعة لسيارات وتضييق السلطات على الاستيراد، وتزايُد التفاؤل بزيادة إنتاج الغاز الطبيعي.
إلا أنه في المقابل فإن عدداً من المعنيين بالمجال الاقتصادي قالوا لـ "عربي بوست" إنه بصرف النظر عن أسباب تحسن الجنيه، فإن الأكثر إثارة للاستغراب هو سرعة ارتفاع الجنيه المصري أمام الجنيه، التي تشير إلى أن هذا الصعود مصطنع.
كما أن هذا الصعود مفيد للأموال الساخنة التي تدخل البلاد، لأن من استثمر مليون دولار عندما كانت العملة الأمريكية تساوي 18 جنيهاً، يستطيع إخراجها الآن مليوناً و70 ألف دولار، إضافة للفوائد في ظلّ تراجع الدولار إلى 16.81 جنيه (سعر الأربعاء 12 يونيو/حزيران 2019).
ويخشى متعاملون أن يؤدي خروج غير طبيعي لطارق عامر إلى زعزعة البرج العاجي الذي شيّده الرجل للجنيه المصري، فعامر هو مَن استدعى العفريت، وهو الأقدر على صرفه.