لو لم يكن لديك وقت للقراءة.. استمع إلينا "عربي بوست بودكاست"
تحولت المدن التي كانت مركزاً صناعياً في فنزويلا، مثل مدينة بويرتو أورداز، إلى بؤر لمناجم الذهب التي باتت تسيطر عليها العصابات الإجرامية، وأصبحت تغذي اقتصاد المدينة، لتتحول المعاملات المادية بين الناس فيها إلى مقايضات، كما لو كنا في العصور الوسطى.
ما حكاية فنزويلا مع حمّى الذهب؟
كانت بويرتو أورداز يوماً مركزاً صناعياً لفنزويلا، ومدينة عصرية تضم شوارع واسعة وعدداً من المصانع وبوابة لسلسلة من حقول النفط الغنية التي مولت العطاءات الحكومية على مدى عقود.
ولكن مع انهيار الاقتصاد، عادت مدينة الصلب والألومنيوم الحديثة إلى ماضيها، إذ تحولت إلى ما هو أكثر قليلاً من بؤرة لمناجم الذهب التي تستقر في أطراف الأمازون على بعد بضع ساعات بالسيارة.
وفي المناجم الملوثة الموبوءة بالملاريا هناك، والتي تسيطر عليها العصابات الإجرامية، أصبح حال العمال مثلما كان منذ قرون، إذ أصبحت سبائك المعدن الأصفر التي يستخرجونها بعد مجهود شاق تغذي المدينة؛ وأصبح الذهب واسع الانتشار لدرجة أن نظام المقايضة الذي كان شائعاً في العصور الوسطى حل محل التعامل النقدي في المدينة.
المقايضة بالذهب.. ودفع الفواتير أيضاً
أصبح الذهب أيضاً مصدراً لتسديد فواتير الحكومة الوطنية في العاصمة كاراكاس البعيدة. ومع تضاؤل عائدات النفط والعقوبات الأمريكية القاسية، أصبح الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو يعتمد على ثروة المناجم لإنقاذ الحكومة خلال مواجهة استمرت أشهراً مع زعيم المعارضة خوان غوايدو.
لذا مكّنت الحكومة الصناعة غير القانونية والجماعات المسلحة التي تديرها من النمو والازدهار، مما أدى إلى انتشار العنف والمرض والخراب البيئي، واجتذاب معظم السكان الباقين في بويرتو أورداز إلى هذه الصناعة، كما تقول صحيفة The Guardian البريطانية.
وقالت واحدة من وسطاء العقارات في بويرتو أورداز: "أكثر من نصف عملائنا يرغبون في الدفع بالذهب"، وحدثتنا عن رحلة بالسيارة قامت بها مؤخراً في المدينة التي يتزايد فيها انتهاك القانون للتوسط في صفقة، في أثر المشترين الذين يحملون ذهباً تساوي قيمته ثمن شقة.
وأضافت الوسيطة، التي لا تزال تجاهد لاستيعاب المعايير الجديدة للتجارة والعمل، وطلبت عدم الكشف عن اسمها خوفاً على سلامتها: "قال لي الزبائن: "لنصحبكِ في سيارتنا"، ولكنني قلت: "لا، سنتبعكم في سيارة". ومع انعدام الأمن، لا يمكنك أن تعرف مَن على علم بامتلاكك ذهباً".
الذهب في الجامعات ومراكز التسوق
بل وامتدت موجة الذهب إلى الجامعات، إذ قال أرتورو بيرازا، عميد جامعة أندرياس بلُّو الكاثوليكية المرموقة: "في نوفمبر/تشرين الثاني، أخبرتني إحدى الفتيات اللاتي يدرسن هنا: "الشهادة ليست باهظة الثمن، لأنها تساوي 2.5 غرام فقط من الذهب للفصل الدراسي الواحد"، يضيف: "هذه كانت المرة الأولى التي أعلم فيها قيمة الشهادة الجامعية بغرامات الذهب. لم أصدق ذلك".
أما مراكز التسوق فقد احتلها تجار الذهب، الذين يجلسون في تراخ في صف من المتاجر التي كانت يوماً تبيع الأجهزة الإلكترونية أو الملابس، في انتظار وصول عمال المناجم بالقطع الذهبية لمبادلتهم إياها بالنقود، فيما وقف بعض الرجال بالقرب من المخارج الرئيسية وهم يشهرون أسلحة لم ينجحوا في إخفائها ويراقبون المكان في تحفز.
ويُعدّ هؤلاء الرجال الوجه العلني الأكثر تحفظاً لوباء العنف الذي ينمو في المناجم، والذي امتد بالفعل إلى خارجها. إذ زادت حمى الذهب من انتشار العصابات المسلحة، بدرجة اجتذبت ميليشيات جيش التحرير الكولومبي ELN، التي زادت من الفساد في قوات الأمن الوطنية، وانعدام الأمن في بويرتو أورداز.
فساد وانعدام للأمن وانتشار للأمراض
ازدادت الأمراض في المناجم كذلك، وصحبت الذهب وعمال المناجم إلى بويرتو أورداز، مما أدى إلى عودة الملاريا إلى منطقة كانت قد تخلصت منها ذات يوم.
وعادة ما تجتذب المشكلات في شرق البلاد الأدنى قدراً أقل من الأهمية على عكس الأزمات على طول الحدود الغربية مع كولومبيا، وهي الطريق الرئيسي لملايين المهاجرين الذين يحاولون الفرار من المأساة الفنزويلية. لكن السكان المحليين يقولون إن التجاوزات القانونية في معسكرات التعدين تمثل خطورة لا تأخذ حقها من الاهتمام.
وقال بيرازا: "هنا في ولاية بوليفار، تتوفر الظروف اللازمة لنشوء الفوضى، لأن لدينا الذهب". وأضاف: "في كاراكاس، لا يعرفون ما يجري هنا. فجل تركيزهم ينصب على مسألة النفط، لأنه كان المحرك الاقتصادي للبلاد لقرن من الزمان. لكن النفط نفد ولم ينتبه أحد إلى تغيُّر الواقع".
والذهب أسهل بكثير في نقله، وأقل تعقيداً في استخراجه، إذا كان لديك عمال يائسون مستعدون للاضطلاع بهذا العمل الشاق بأيديهم.
ينبشون الأرض بأيديهم بحثاً عن الذهب
وتضم مجموعة العمال الذين ينبشون الأرض بحثاً عن الذهب -وهم جميعاً من الرجال، أما النساء فيعملن في الطهي في المناجم- بعض من الموظفين الذين خسروا وظائفهم بسبب الأزمة أو انخفضت رواتبهم بسبب التضخم الهائل إلى مبالغ لا تمكنهم سوى من شراء القليل من أرغفة الخبز، أو ربما كيس من الأرز.
وبعضهم لا يعود أبداً من هذه المناجم الوحشية، فبعيداً عن أن الوفيات التي تقع هناك غير مسجلة، فإن جثثهم لا تُدفن بصورة رسمية أبداً. ومن بين المفقودين المصور ويلمر غونزاليس، الذي سجل ما يحدث في المناجم وعمل فيها كذلك.
وفي المنطقة، يعتمد الكثيرون الذين لا ينبشون عن الذهب بطريقة مباشرة على اقتصاد الذهب ليتمكنوا من العيش، إذ يتدفق عدد ثابت من سيارات الركاب كل يوم إلى المناجم وهي محملة بعبوات وقود الديزل، ويقود معظمها أصحاب الأعمال المكتبية.
وقالت لوسيا، وهي معلمة بالمدرسة الابتدائية تذهب مرتين في الأسبوع في رحلة مدتها 18 ساعة ذهاباً وإياباً بصحبة زوجها وطفليها، يتعرضون فيها لخطر الإصابة بالملاريا والمعاملة العنيفة للحصول على القليل مما يُمكّنهم من تأمين منزل، والحصول ما يقيم أودهم: "لا أملك خياراً آخر إذا أردنا أن نأكل، لم أتقاضَ أجري منذ شهور". وطلبت عدم استخدام اسمها الحقيقي خشية فقدان وظيفتها.
وبعد أن كانت من المؤيدين لهوغو تشافيز يوماً، فقدت ثقتها بالحكومة بعد أن أثر انهيار الاقتصاد على أسرتها التي كانت ميسورة الحال يوماً، والذي أدى إلى خسارة زوجها لوظيفته كعامل في أحد المصانع وتحول وظيفتها كمعلمة إلى عمل تطوعي لا تتقاضى عليه أجراً.
وقالت: "ودفعنا هذا إلى القيام بأشياء لم نتصورها، مثل بيع الجبن، والتجارة في الأموال النقدية. ثم عندما نفدت كل وسائلنا لكسب المال، قررنا أن نبيع الديزل للمناجم".
غابات شرق فنزويلا.. بؤر خطيرة وفوضوية
ويعود إغراء الذهب المدفون تحت غابات شرق فنزويلا إلى قرون خلت. إذ أبحر الكاتب والمستكشف الإنجليزي والتر رالي في نهر أورينوكو على طول الموقع الذي تحتله بويرتو أورداز الآن بحثاً عن مدينة ألدورادو الأسطورية، وهي مدينة الذهب، التي لم يُعثر عليها أبداً ولكنها منحت اسمها لمدينة مغمورة تقع على الطريق المؤدي إلى البرازيل.
وفي العقود الأخيرة، فيما كانت فنزويلا عائمة في الأرباح السهلة القادمة من النفط، بدت مناجم الذهب أشبه بمعلم تاريخي أكثر منها مصدراً للربح. وكانت بلدة كاياو، وهي مركز إقليمي ومنطقة سياحية شهيرة، تشتهر بالمهرجانات.
واعتاد الزوار التجول في شوارعها العريقة الهادئة، حيث كانت المتاجر تبيع المجوهرات المصنوعة يدوياً من الذهب، وكانت إحدى الشركات تتمتع بامتياز لإدارة منجم كبير وحديث. أما اليوم فلا يزورها أحد بغرض المتعة.
إذ أصبحت بؤرة خطيرة وفوضوية للمناجم التي أُعيد فتحها، وتعج شوارعها بتجار الذهب وعمال المناجم. وتتجه أنظار الحشود أحياناً إلى إحدى سيارات الدفع الرباعي المارة الفاخرة ذات النوافذ المعتمة التي يرافقها مسلحون، ومن هم أقرب إلى هذا المشهد في المنطقة سيتمكنون من رؤية كَمّ السلطة التي يمنحها المال.
ويأتي العمال معتقدين أنهم سيبقون لفترة قصيرة فحسب، ثم يغادرون وهم يحملون أموالاً طائلة، لكن معظمهم لا يُحصّلون سوى مبالغ ضئيلة ينفقون معظمها محلياً، على الطعام والشراب أو في بيوت الدعارة. وهناك قول مأثور في المنطقة: "ما يقدمه منجم بيمينه، يسلبه بيسراه".
ولا يمكن معرفة الهوية الحقيقية لأولئك الذين يجنون معظم الأرباح. ولعل أبعدهم، الذين تربطهم سلسلة متشابكة من الوسطاء، هم من الحكومة نفسها، بعد أن اكتشفت في المناجم طريقة لتحويل الأوراق النقدية التي تنخفض قيمتها بسرعة إلى ذهب خالص.
تجارة الذهب بعد نفاد النفط.. هل تحل الفوضى؟
وتمول هذه التجارة حكومة مادورو فيما تنفد أموال النفط. وتتمتع فنزويلا بأكبر احتياطيات نفطية في العالم، لكن الفساد وسوء الإدارة تسببا في انهيار الصناعة، كما تقول الصحيفة البريطانية. وأصبحت الشركة المملوكة للدولة PDVsA، التي كانت في السابق مصدراً للنقود لكاراكاس، غير قادرة الآن على تسديد فواتيرها.
وقال أحد المديرين التنفيذيين في شركة خدمات نفطية في بويرتو أورداز: "لا أقبل سوى وظائف PDVSA التي يدفعون لي فيها مقدماً، وإلا فلن أتقاضى راتباً".
لكن حاجة الحكومة إلى الأموال لم تتناقص مع إنتاج النفط، وهكذا تتدفق الشاحنات كل شهر عبر بويرتو أورداز محملة بصناديق من الأوراق النقدية في طريقها إلى المناجم. وحلت المدفوعات الرقمية محل النقود في معظم أنحاء فنزويلا، ولكن في المناجم التي لا تغطيها شبكات الهواتف المحمولة ولا الكهرباء، لا يزال التعامل بالنقود السائلة هو السائد.
ووجد تحقيق أجرته وكالة Reuters أنهم يقايضون هذه الأموال بالذهب، الذي يُشحن بعد ذلك إلى الخارج، مما يدرّ أموالاً نقدية على الحكومة. ويمنح هذا الأمر للمنطقة ميزة خاصة، ولكنه يجعل منها بؤرة توتر بصفة خاصة أيضاً.
لقد أزعج غايدو حتى حلفاءه بمغازلته فكرة التدخل الأمريكي، والتي من شأنها أن تؤدي إلى تعطيل توازن القوى الدقيق بين العصابات المحلية والمقاتلين والأسلحة الفاسدة للقوات الأمنية للبلاد.
قال بيرازا: "في الوقت الحالي، هناك حالة من السلام النسبي القائم على اتفاقيات. ولكن حالما تقع مواجهات -بمجرد خرق الاتفاقية- ستحل الفوضى. وهذا ما سيحدث عند وقوع أي غزو".